تحليل عمل البعثة الدبلوماسية البريطانية في العراق 1958-1959
(1)
د. ضرغام عبد الله الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 12253
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لماذا نقرأ أو بالأحرى لماذا ندرس الوثائق الرسمية ؟
الأمر بتقديرنا يتعدى ما يعتقد بأنه ترف ثقافي إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير، ومن هنا ولد اهتمامنا بدراسة الوثائق البريطانية حول العراق، ثورة الرابع عشر من تموز: 1959 ـ 1958 التي جمعها وترجمها وله الشكر والتقدير على ذلك الأستاذ خليل إبراهيم حسين (الضابط الحر، العميد المهندس، وزير الصناعة السابق) بطريقة تدل على الحرص، بالإضافة إلى الدقة والموضوعية، ووضعها في أجزاء ثلاثة تغطي المرحلة الممتدة من 2 / تموز ـ يوليو / 1958 وحتى 9 / تموز/ 1959 وهي وثائق البعثات الدبلوماسية البريطانية في العراق والبلدان المحيطة به مع المركز (وزارة الخارجية البريطانية بلندن) وسفارات بريطانيا في واشنطن وباريس وموسكو أو غيرها بقدر تعلق الأمر بالأحداث العراقية وقد تضمنت 550 وثيقة امتدت بعدد1117 صفحة، وأغلب الظن أن أي خلل أو انقطاع في سلسلة التطورات، مرده أن تلك الوثائق قد تعرضت للشطب أو الحجب. أو ربما أن هناك تقارير لم تطرح ضمن الوثائق المعروضة تحت أنظار أو متناول الباحثين وعلينا أن نعلم أن الدوائر البريطانية ( وزارة الخارجية ـ أجهزة الإعلام )، على ما يعرف عنها من موضوعية، إلا أنها لا تتأخر بحجب ما يؤدي نشره إلى مضاعفات غير مطلوبة أو مرغوبة، أو ربما إلى فضائح سياسية مدوية، بل أن هذه الأجهزة الإعلامية منها بصفة خاصة، لا تتوانى عن المساهمة بحملات تضليل منظمة بهدف حرف أبصار وأذهان المتلقي إلى محاور واتجاهات ثانوية.
وقد مورست هذه السياسة في مناسبات عديدة أبرزها حرب السويس / 1956 أحداث حرب فوكلاند /1982، الأحداث العراقية / 1990 – 1991 وحتى 2003 وبعدها، وغيرها, كما يجدر الذكر بأن وزارة الخارجية البريطانية لم تطرح حتى الآن دلائل أو وثائق تكشف غموض وملابسات رحلة نائب هتلر، رودلف هيس الجوية في طيرانه من برلين إلى لندن أبان الحرب العالمية الثانية (1941) رغم مرور ستون عاماً عليها ووفاة اللاعبين الرئيسيين في القضية هيس و تشرشل.
وإذا كان المترجم الأستاذ خليل إبراهيم، الذي سنعتمد بدرجة أساسية على إنجازه الممتاز بالإضافة إلى كتاب تأريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري بحلته واتجاه العمل الجديد فيه، وهو بدوره إنجاز يستحق العاملون فيه التقدير، نقول أن الأستاذ خليل إبراهيم لم يشأ أن يعلق كثيراً (إلا فيما هو ضروري) على التقارير، ولم يؤشر بما يعتمل في وجدانه الوطني والقومي، وهو الضابط المساهم في حركة الضباط الأحرار والمطلع على الأحداث، فأنه قد فعل ذلك مصداقًا لموضوعيته وأمانته ودقة إنجازه وحرفية عمله وحسناً فعل، وتركها كمهمة لغيره، فأننا بدورنا لا نريد التركيز على الوثائق ومناقشتها كمفردات، بل اخترنا أن تكون دراستنا مركزة على ثلاثة محاور رئيسية:
1/ محور التعريف بأهمية الوثائق البريطانية، درجة دقتها، موضوعيتها.
2/ محور التعريف بأهمية الاتجاهات، وهي التي تركزت حولها الوثائق وتحليل أبعاد تلك الاهتمامات
3/محور الملاحظات حول الجانب المهني والمعلوماتي، في الوثائق البريطانية وأهمية ذلك في مجال صياغة المواقف والقرارات السياسية حيال العراق بصفة خاصة والقضايا العربية بصفة عامة.
وأخيراَ وليس آخراَ، الاستفادة من عبر ودروس التاريخ، فأن الجهات التي تناوئ الأقطار العربية والنامية بصفة عامة تعول بنسبة كبيرة جداً على التناقضات الداخلية، الثانوية في الغالب، كثغرات فتستغلها لإلحاق أفدح الأضرار بالسيادة الوطنية والاستقلال السياسي، وتعميق التبعية الاقتصادية، وفرض أنماط غريبة على الثقافة الوطنية، وأخيراً لجعل هذه الأقطار لواحق تدور في أفلاكها كبلدان تابعه للمتربولات لا قيمة تاريخية لها، كما وتفقدها الأمل في إحراز مواقع أفضل في التبادلات الاقتصادية أو في مساهمتها في مسرة الحضارة الإنسانية.
وسوف يدرك القارئ اللبيب هذه المرامي بسهولة بمجرد أن يمنح هذه الصفحات الاهتمام الكافي ثم ليجد في نهاية المطاف أمراَ آخر في غاية الأهمية: هي أن أهداف المستعمرين هي واحدة (في معظمها) وإن ما يتغير هو الأساليب فقط دون الجوهر.
1 . المحور الأول: التعريف و التثبيت
لا شك أن دراسات الوثائق تعتبر من المصادر المهمة في الدراسات التاريخية / السياسية. فالوثيقة وإن هي في نهاية الأمر تعبر عن وجهة نظر شخصية سياسية أو مركز سياسي أو مؤسسه سياسية، إلا أنها (الوثيقة) تتمتع بدرجة مصداقية عالية باعتبار أن فرص التلاعب و التزوير فيها ضئيلة، كما أنها تعبر عن موقف وقرار سياسي معين في مرحلة تاريخية معينة، قد تلاشت فيها على الأقل آثارها المباشرة، وإن ظلت تحتفظ بالمغزى والمعنى ضمن الاستراتيجية العامة.
وتسمح السلطات في المملكة المتحدة (بريطانيا) وبلداناً أخرى، بنشر الوثائق بعد مرور فترة من الزمن، كافية لأبعاد التأثيرات السلبية عند نشرها، وهي لا تخلو من التفاوت. فالظاهر أن السلطات المولجة بنشر الوثائق (ربما أن ذلك من اختصاص دوائر أداريه/ قانونيه) أو بالأحرى السماح بالإطلاع عليها ونشرها، لا تتبع أسلوبا موحداً بصدد الوثائق على اختلاف أصنافها (عادي ـ سري ـ سري للغاية ـ سري وشخصي) أو تقارير ذات أبعاد مهنية معينه (سياسية ـ استخبارية أمنية ـ عسكرية ـ تجاريه ـ ثقافية …الخ). فهناك من الوثائق تجاز بعد مرور 25عاماً، وأخرى تجاز بعد مدة أطول. ولكن س بقاعدة، فنحن نعلم أن هناك وثائق مر عليها أكثر من 50 أو 60 عاماً دون أن يرخص بنشرها، منها وثائق رحلة هيس الجوية إلى بريطانيا. أما ما يخص الوثائق المتعلقة بالعراق الحديث فأني أعتقد جازماً أن ما نشر منها حول أحداث وفصول مهمة من تأريخ العراق، لا تغطي إلا جزءاً يسيرًا للغاية، أهمها أحداث الثلاثينيات (وفاة الملك فيصل الأول ـ حركة بكر صدقي ـ مقتل الملك غازي ـ تفاصيل أحداث حركة مايس1941 وغيرها) على أننا نلاحظ بدرجات متفاوتة من الوضوح، أن هناك فجوات في التقارير، تدل على أن عدداً من الوثائق قد أستل، أو أن هناك فقرات أخرى قد تعرضت للحذف أو الشطب مما يحمل على الاعتقاد أن هناك معلومات قد حجبت، لأي سبب من الأسباب.
بيد أن الوثائق، على الرغم من ذلك، تظل معيناَ مهماَ للمعلومات بمؤشرات أستدلاليه يمكن الانطلاق منها والتأسيس عليها، برغم أننا لا يمكننا اعتبارها دائماً حقائق نهائية خالصة ومسلمات لا شك فيها، إذ أنها تعبر عن رأي وموقف أصحابها ليس إلا، وهم: وزارة الخارجية البريطانية التي هي أحد مصادر القرار السياسي في المملكة المتحدة ولكنها ليست المصدر الوحيد. كما أن البرلمان (النواب واللوردات) والأجهزة الاستخبارية تعتبر من القنوات الرافدة للقرار السياسي إلى جانب الحكومة البريطانية، بالإضافة إلى مجاميع الضغط Pressure group والرأي العام public openion هي من الروافد المهمة الأخرى والتي لا تقل أهمية في التأثير على صياغة القرار السياسي النهائي.
ولعل من أكثر ما يثير الدهشة لدى مطالعة الوثائق، وقوعها أحيانا في أخطاء فادحة ( تقع الوثائق في ثلاثة أجزاء: الجزء الأول 220وثيقة, الجزء الثاني: 151وثيقة, الجزء الثالث: 179وثيقة وتغطي الفترة من 12 / تموز/ 1958, و9 / تموز/ 1959)، هذا ونحن نعلم أن بريطانيا على إطلاع نفترض أن يكون دقيقا بالشؤون العراقية حتى قبل احتلالها للعراق في الحرب العالمية الأولى (1918 - 1914) ، بل نحن نعلم بالتأكيد أن احتلالها للعراق، لم يكن إلا نتيجة لدراسة طويلة معمقة لقدرات ومزايا العراق الاقتصادية ولمكانته الجغراسياسيه، وأهميته في استراتيجية الشرق الأوسط.
وكانت بريطانيا قد توصلت إلى هذه الحقائق نتيجة لاستطلاعات ميدانية كثيفة قام بها أفراد وجماعات، باحثون ورحالة ورجال استخبارات وشركات ملاحية وتجارية وحملات استكشاف وبعثات جيولوجية وأركولوجية، وحتى مغامرون وشذاذ آفاق، توصلت بريطانيا بموجبها إلى حقيقة مفادها: أن العراق هو درة الشرق الأوسط الثمينة. وابتدأت منذ القرن التاسع عشر بصياغة الخطط (مؤامراتها ودسائسها)، وحياكة شبكة معقدة من العلاقات والاتصالات ضمن المجتمع العراقي ودراسة زواياه وخفاياه حتى قبل نشوب الحرب العالمية الأولى، فقد كانت أوضاع تركيا العثمانية " الرجل المريض " تنبئ بانهيار قريب، وكان الأعداد والاستعداد لتلك المرحلة جارياً على قدم وساق، ولنا فيما نشر وترجم للعربية عن أعمال بعض هؤلاء الرحالة والكشافة ورجال الاستخبارات، ما يؤكد هذه التوجهات المبكرة.
وما أن اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، وهي أساساً حرب استعمارية ما قامت إلا من أجل أعاده تقسيم العالم بين القوى الاستعمارية القديمة (فرنسا وبريطانيا) والجديدة (ألمانيا والنمسا) وكانت منطقة الشرق الأوسط، والعراق تحديداً إحدى نقاطه الملتهبة، وموضع تباحث واتفاق بين القوى الاستعمارية كما تؤكد ذلك اتفاقية سايكس بيكو السيئة الصيت. فألمانيا الدولة الصناعية الناهضة المتوحدة، المنطلقة إلى التوسع، كانت تضع العراق على رأس جدول مطامعها، وقد عبرت عن تلك المقاصد بوسائل عديدة: في المقدمة منها كان السعي نحو تحقيق مكاسب نفطية / معادن عبر الأعمال المشتركة مع حليفتها الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تفتقر في واقع الأمر إلى القدرات التكنيكية أو المالية على أداره استثمارات عملاقة وكبيرة في العراق أو في الدول العربية، أو حتى الحفاظ عليها ضمن ممتلكاتها دون الدخول في تحالف سياسي /عسكري مع ألمانيا والنمسا.
وقد عبرت هذه التوجهات الألمانية عن نفسها بزيارة شخصيه للقيصر الألماني إلى الشرق (فلسطين ـ سوريا ـ تركيا) مبدياً احترامه الشديد للعرب وللديانة الإسلامية، وبحلول الضباط الألمان من المستشارين العسكريين في الفيالق المتواجدة في البلاد العربية ومنها العراق، وتعزيز قدراتها القتالية بقطعات منتخبة من الجيش الألماني، بالإضافة إلى حديد برلين ـ بغداد ـ بصره B.B.B الذي كان يجسد الأهداف الألمانية في سياستها التي عرفت (Drangen nach Osten ) بمواصلة الزحف نحو الشرق وصولاً إلى مناطق الخليج العربي الذي يتيح لها نشر فعاليات اقتصادية وسياسية وعسكرية محتملة في المنطقة وحتى أواسط وجنوب آسيا، وكانت خططاً تفصيلية قد وضعت خطط عن مواصلات بحرية وخطوط ملاحية بين مينائي البصرة العراقي وهامبورغ الألماني.
وعلى أساس من هذه الحسابات الاستراتيجية الألمانية، ومن البديهي القول أن بريطانيا لم تكن غافلة عن الفعاليات والأنشطة والنوايا الألمانية، عندما دخلت الحرب على أساس مخطط سايكس ـ بيكو، الذي يقسم ممتلكات الدولة العثمانية بين بريطانيا وفرنسا وروسيا التي انسحبت من هذا المخطط الاستعماري بعد قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية 1917، وفضح تروتسكي وزير الخارجية السوفيتية لأهدافه. ولكن بريطانيا وفرنسا واصلتا قدماً تنفيذ المخطط على أثر هزيمة الدولة العثمانية في الحرب، فتم التقسيم على نحو ما عرف بالمنطقةA والمنطقة Bوفرضتا نظام الانتداب Mandate System وفق الفئة A / Category في عصبة الأمم وأباحت لنفسها فيه أقامه نظم استعمارية متعسفة نهابة، هيمنت فيه على مقدرات البلدان الخاضعة للانتداب بصفة كليه ولم تعر فيه إلا قدراً ضئيلاً للغاية بمقدرات الشعوب، فيما استأثرت مصالحها الشاملة على كل شيء.
وما يهمنا هنا تأكيده في هذا المجال، العلاقات العراقية ـ البريطانية أن العراق الذي وضع تحت نظام الانتداب المشار إليه كان يدار بصفة تفصيلية من قبل سلطات الانتداب الاستعمارية. وكان إلى جانب كل وزير، مستشار سياسي بريطاني، ولكنهم كانوا في واقع الأمر من ضباط الاستخبارات البريطانية (ليس مدهشاً أن أعاد الأمريكان هذا السيناريو بالضبط بعد احتلالهم للعراق عام 2003)، وكان وجودهم في الوزارات أساسياً، والوزراء العراقيون لم يكن بوسعهم على (الأرجح)، القيام بإجراءات ذات طابع جوهري دون أستحصال موفقة المستشار السياسي البريطاني الذي يهيمن بصورة مباشرة على كافة الخطوط العامة والتفصيلية للفعاليات والأنشطة الإدارية والسياسية والاقتصادية وغيرها، بل أن تدخل هذه المؤسسات الانتدابية كان يطال حتى مفردات حساسة تمس السلامة والوحدة الوطنية للبلاد.
فكان الضباط السياسيون (من الاستخبارات البريطانية) يقومون بجولات واستطلاعات ميدانيه إلى أرجاء البلاد كافه ومنها المراكز الدينية ويقيمون الصلات الحميمة برجال الدين ورؤساء القبائل والفعاليات الاجتماعية، والعزف على أوتار التكتلات الطائفية والعرقية ومحاولة إثارة الفتن والبغضاء والدسائس بينهم، ودفع المواقف باتجاه إثارة التناقضات عملاً بسياسة استعمارية معروفة (فرق تسد)، كما كانت صلاتهم وفعالياتهم تعمل على تفريق وحدة البلاد والمواطنين، ولم تكن تستبعد اللعب على ورقة الأقليات القومية والدينية فكانوا يقيمون الصلات المشبوهة بدوافع الفتنة بأبناء الوطن من الأكراد، ليس بهدف تفهم الحقوق القومية، بل في استخدامهم كعناصر في إقامة توازنات تكفل هيمنتهم على البلاد، وإيقاع الضغط على السلطات الوطنية وجعلها بحاجة دائمة إلى النفوذ البريطاني وكذلك في إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع الأقليات الدينية والعرقية الأخرى كالاثوريين مثلاً واستخدامهم لذات الأغراض، وكان الهدف العام لهذه الأنشطة أن تطرح السلطة البريطانية نفسها كراعية لهذه الأقليات، وإقامة شبكه من العلاقات والخيوط تكون سلطات الانتداب ممسكة ومتحكمة بعقدة الرئيسية تضمن من خلاله ولاء كافة الأطراف للسلطة الاستعمارية واستبعاد وإضعاف محاولات القوى الوطنية العراقية في المضي قدماً صوب تعزيز الاستقلال السياسي ووضع العراقيل في سبيله.
بيد أن تلك المحاولات كانت تصطدم بالتناقض الرئيسي الذي كان يطغي على التناقض الثانوي ويهزمه بسهوله في المواجهات، ذلك أن الشعب العراقي بالأغلبية الساحقة من قواه أدركت أبعاد هذه السياسة الاستعمارية الخبيثة، فكانت تواصل بإصرار سعيها إلى الاستقلال واستبعاد النفوذ الأجنبي البغيض، بما في ذلك فئات كثيرة من الإقطاع وبورجوازية المدن الناشئة والمؤسسات الدينية التي لم تجدي معها محاولات السياسة البريطانية في إذكاء التفريق الطائفي فتيلاً.
وبعبارة أخرى، فأن الشعب كان متحداً في هدفه حيال المحتل الأجنبي الذي لم يتمكن من أن يكسب إلى جانبه سوى رقائق بسيطة من عملاء محليين وسياسيين ربطوا مصائرهم مع الخطط الاستعمارية التي بدت لهم بأنها لا تقهر، وفئات من الكومبرادور مثلت الامتداد الاقتصادي للمصالح الاستعمارية التوسعية. وفيما عدا ذلك وقف الشعب بكافة قواه وقفة واحدة تجلت مبكرة في ثورة العشرين التي وإن لم تحقق أهدافها كاملة، إلا أنها أوضحت على نحو كاف للمستعمرين، إن من المستحيل تجاهل وقهر إرادة الشعب.
وحقاً كانت ثورة العشرين الحدث الأكبر والأكثر أهمية في تأريخ العراق الحديث، وحجر الزاوية في وحدته الوطنية إذ اندلعت الثورة في أرجاء العراق كافة، في المدن والأرياف، ساهم فيها المثقف والبورجوازي ورجل الدين وزعماء العشائر على حد السواء، فقد كان الاستقلال مطلباً يمثل تطلع الشعب بأسره، ومنها (من ثورة العشرين) أيقن البريطانيون، أن مكوثهم في العراق أنما هي عملية محفوفة بالمخاطر والخسائر الجسيمة.
وعلى ذلك، فأن نفوذ المستعمرين أستمر في انحسار متواصل، اشتدت هذه العملية بعد إنهاء الانتداب في 1932، ولكن النفوذ البريطاني أستمر موجودا في البلاد من خلال المعاهدة البريطانية / العراقية التي كانت تتيح لبريطانيا نفوذاً شاملاً في البلاد تجعل من الاستقلال أمراً شكلياً تقريباً، وعندما أضحى تجديد هذه المعاهدة عسيراً من خلال الانتفاضة الوطنية الكبيرة (الانتفاضة ضد معاهدة بورتسموث 1948) كانت الدوائر الاستعمارية قد أعدت حلف بغداد ليكون البديل الأكثر ملائمة للتطورات السياسية الحاسمة بعد الحرب العالمية الثانية، ضمنت فيه بقاء العراق ضمن مناطق النفوذ الاستعمارية. ومن جهة أخرى، ضمنت بدخول العراق إلى منطقة الإسترليني، الهيمنة الاقتصادية والتجارية، فيما تواصلت هيمنة بريطانيا والدول الرأسمالية الأخرى على نفط العراق، التي هي ثروته الوطنية الرئيسية. وقد أستمر الأمر على هذا المنوال حتى اندلاع ثورة 14 تموز1958، التي سددت ضربة خطيرة للنفوذ الاستعماري بكافة أشكاله، السياسي والاقتصادي والعسكري ووضعت البلاد فعلاً على طريق الاستقلال والهيمنة على مصيره ومقدراته.
وتتيح لنا هذه المداخلة السريعة، أدراك أهمية ثورة الرابع عشر من تموز، ومدى تأثر النفوذ البريطاني(تدهوراً)، الأمر الذي سيفسر لنا أسباب تشنج الدبلوماسية البريطانية، وأدراك ردود أفعالها ومواقفها حيال العراق.
وما تؤكده الوثائق البريطانية فعلاً، وبلا غموض، أن ثورة الرابع عشر من تموز كانت مفاجأة لهم. وإذا كان ثمة توقع أو تنبأ لأحداث ثورية فما ذلك إلا بسبب ثورة 23 تموز 1952في مصر، والمد القومي التحرري في عموم الساحة العربية وفي سورية خاصة لا سيما بعد العدوان الثلاثي (البريطاني ـ الفرنسي ـ الصهيوني) على مصر 1956، والوحدة المصرية ـ السورية 1958 وتصاعد مد التيار الحركة الوطنية والقومية في العراق تواصلاً منذ انتفاضة بورتسموث والانتخابات المزيفة 1954، وانتفاضة 1956، هذا بالإضافة إلى دخول الشأن الفلسطيني كعنصر مهم على أجنده النضال الثوري العربي، كانت هذه المؤشرات قوية تنبأ باحتمال قيام أحداث ثورية كبيرة، ولكن من المؤكد، أن حركة الضباط الأحرار كانت قد استطاعت أن تخفي بمهارة مقاصدها وأهدافها وكذلك التنظيمات والاتصالات، داخل العراق أو مع عناصر وجهات رسمية وشعبية في سوريا ومصر والأردن، رغم أن المنطقة كانت تعج بنشاط شبكات استخبارية، بريطانية وأمريكية وغيرها.
ومن المؤكد أن الأنشطة الدبلوماسية / السياسية البريطانية في العراق دخلت طوراً جديداً كماً ونوعاً بعد قيام ونجاح ثورة الرابع عشر من تموز /1958 بسبب فقدان العلاقة تلك الحرارة التي كانت تتمتع بها في العهد الملكي، ولكن لابد من تسجيل أنها (البعثة الدبلوماسية) استعادت قابليتها على الحركة بعد فترة قصيرة نسبيا وواصلت تزويد المركز (وزارة الخارجية البريطانية بلندن) بالمعلومات والتحليلات بسرعة، بعد أن تعرضت إلى مشكلات ومتاعب منها اصطدام السفارة وجهازها العامل بالمتظاهرين من أبناء الشعب العراقي الذين سارعوا إلى تحطيم تمثال للجنرال مود (القائد البريطاني الذي احتل بغداد في الحرب العالمية الأولى) وإبداء مشاعر الكراهية للسفارة البريطانية المتواجدة في نفس الموقع، كما أدى إطلاق نار لا مبرر له على المتظاهرين إلى حرق بعض مرافق السفارة ومقتل ضابط بريطاني برتبة عقيد، وجرح بريطانيين آخرين، ثم اضطرارهم إلي أقفال السفارة لبضعة أيام وإقامة مركز طوارئ في إحدى الفنادق (فندق بغداد)، إلا أنهم استطاعوا إقامة علاقات مع عدد من شخصيات الثورة التي لم يكن في وارد خططها إثارة صراعات مسلحة مع الغرب عامة وبريطانيا خاصة.
وما أن استطاعت البعثة الدبلوماسية البريطانية من استعادة نشاطها تدريجيا والاستفاقة من الصدمة، حتى واصلت ببطء وصبر ممارسة دورها ولكن بطبيعة جديدة. وعلى الأرجح فأنهم تمكنوا من أن يلعبوا أدوارا خفية وعلنية في الحياة السياسية العراقية فاعلين أو محرضين، أو كعناصر تعمل من وراء الستار ولكن البعثة الدبلوماسية البريطانية لم تستطع قط من استعادة دورها في الهيمنة على الحياة السياسية العراقية الرسمية.
وكان الوجود الدبلوماسي البريطاني الرسمي في العراق يتمثل أساسا بالسفارة البريطانية في بغداد، ووجود ثلاث قنصليات عامة في ألوية (محافظات) الموصل ـ البصرة ـ كركوك، بالإضافة إلى وجود عناصر من السلاح الجوي الملكي في قاعدة الحبانية الجوية (في إطار التعاون العسكري / حلف بغداد)، وشركة النفط العراقية (I.P.C) ومقر فعالياتها الرئيسي كركوك، ومراكز نفطية أخرى في عين زالة والقيارة (الموصل) وخانقين (ديالى) وفي البصرة وتواجد عدد كبير من الخبراء والفنيين والعاملين بعقود مع الدولة العراقية في مؤسسات ووزارات عراقية عديدة: السكك الحديدية، الموانئ العراقية، وزارة المعارف، وزارة الصحة …الخ، ومراكز ثقافية في بغداد والموصل والبصرة (لتعليم اللغة والثقافة البريطانية أساساً).
ودون ريب فأن هذا يمثل توجداً كثيفاً على الصعيد السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي واتجاهات أخرى. وربما يبلغ العدد الإجمالي(2000 بريطاني) حسب برقية السفير الأمريكي إلى وزارة الخارجية في واشنطن بتاريخ 15تموز 1958، وهناك بقدرهم تقريبا من المواطنين الأمريكيين (1)
وبرغم هذا التواجد الكثيف (بمقاييس تلك العهود وعدد السكان في العراق حوالي 5مليون نسمة) والتطور الحضاري، فأن البصمة الحضارية البريطانية في العراق لم تكن تتناسب مع هذا الحجم من الحضور، الأمر الذي يعني أن العمل وتقديم خدمة للمؤسسات العراقية و للشعب العراقي لم يكن الشغل الشاغل لتلك المجاميع الكبيرة من الهيئات والأفراد.
وكانت الاتصالات بين المركز(الوزارة في لندن) وبعثاتها الدبلوماسية في العراق تتم عبر وسيلتين رئيسيتين:
آ/ البرقيات: المفتوحة منها وهي عادية، والمشفرة منها(بالشفرة) وهي سريه.
ب/ البريد الدبلوماسي: وهو ما يعرف بالحقيبة الدبلوماسية وتنقل بوسائل متعددة (جواً عبر
الطائرات في العصور الحديثة) وهي تحمل عادة:
• تقارير مكتوبة وأخبارا ومعلومات ونتائج اتصالات دبلوماسية / سياسية واقتصادية بالدرجة الأولى، وملاحظات وردت إلى السفارة ببغداد من دوائر بريطانية و دبلوماسية عاملة في المنطقة، أو من واشنطن أو باريس أو موسكو أو من الأمم المتحدة في نيويورك.
• تقارير نصف شهرية، تتضمن خلاصة للموقف في منطقة عمل البعثة (خلاصة الموقف
والمعلومات والفعاليات).
• تقارير سنوية وهي تعبر عن الموقف الإجمالي لمدة سنة كاملة منصرمة وهي تعد وتقدم
عادة مطلع كل سنة جديدة.
• يقدم القناصل البريطانيون العامون في الموصل والبصرة وكركوك تقاريرهم إلى المركز
(كعادة عمل القناصل العامون عادة)، ويحيل المركز المهم منها إلى السفارة ببغداد للتشاور
حول دقة المعلومات الواردة فيها.
وبالطبع سوف لن يكون بوسعنا معرفة فيما إذا كانت هذه التقارير المنشورة هي جل ما تداولته المراكز الدبلوماسية البريطانية، مقر الوزارة والبعثات حول ماله صلة بالعراق. و ربما يكون المترجم قد أحجم عن ترجمة ما اعتقده غير ذات أهمية سياسية مباشرة بأحداث ثورة 14 تموز أو أن السلطات البريطانية قد حجبت بعضاً منها. فمن المؤكد أن هناك قدراً من الحجب ولكن ترى ما هو الكم الذي حجب عن النشر…؟ وعلى هذا الأساس سوف لن نتمكن إلا من تحليل اتجاهات التقارير المسموح بنشرها فحسب !
كما أن من المؤكد أن هناك تقارير رفعتها السفارة ببغداد إلى المركز في لندن، قد يكون فحواها لا يمس الأحداث السياسية بصورة مباشرة، إلا أنة كان يمكن أن تكون ذات نفع كبير في معرفة اتجاهات عمل البعثة الدبلوماسية البريطانية في بغداد ومن تلك تقارير الملحق التجاري أو الثقافي أو الملحق العسكري والصحفي. وقد لاحظنا في سياق تقارير السفارة أو الكادر الدبلوماسي فيها، إشارات إلى موضوعات قد تمت تغطيتها في التقرير الصحفي مما يدل أن هناك حتماً تقريراً صحفياً يرسل بانتظام، ضمن فترة زمنية محددة (أسبوعية ـ نصف شهرية ـ شهرية) أو القيام بذلك كلما استدعت الحاجة إلى ذلك.
ونجد من المهم الإشارة من قبيل توخي الدقة في العمل الدبلوماسي، أن البعثة (السفارة) تخاطب الوزارة فيما إذا كان أسلوب التقارير النصف شهرية والذي جرى العمل بموجبة قبيل ثورة الرابع عشر من تموز بفترة قصيرة (يبدو أن ذلك قد حدث بسبب زخم الأحداث وتجدد المواقف واتجاهات العمل) وواصلت البعثة العمل بها طيلة سنة كاملة، ففي خطاب يتسم بالحرص والدقة في أداء المهمات، والإجابة على هذا الخطاب أستغرق 22 يوماً من مقر الوزارة في لندن بعد دراسة دقيقة، يشير على السفارة الاختصار بالجهد مقابل إرسال تقارير أكثر تركيزاً، ومع أهمية القناة المعلوماتية، فأن التركيز الأساس هو على نوعية العمل وتوخي الدقة. مع أن مركز الوزارة لا يوعز بصراحة إلى إيقاف التقارير النصف شهرية (أجمالي الموقف)، بل يشير ضمناً إلى ذلك وعبر فقرة التركيز والدقة، ولكننا نلاحظ أن السفارة استمرت بإرسال أجمالي الموقف (التقرير النصف شهري) إذ لابد أنها كانت تشعر بضرورته وأهميته. (2)
ومما يثير الدهشة حقاً، في إطار تحليل دقة المعلومات، أنها كانت غالباً ما تقع في أخطاء فاحشة رغم أن السلطات والمؤسسات البريطانية، دبلوماسية كانت أو غيرها، على اختلاف دوائرها وقدم عهد تعاملها في العراق كما أسلفنا (منذ أواخر القرن التاسع عشر) وعلى سعة انتشارها في العراق كما بينا، قبل الانتداب وخلال الانتداب وبعده. وحتى عقب ثورة الرابع عشر من تموز، يحمل المرء لأن يفترض بحق، إنها كانت تعلم بدقة ماذا يكمن تحت أي صخرة في العراق، وإنها في غضون هذه المدة الطويلة والتي تنوف على الستين عاماً، يفترض أنها كانت قد تعرفت على فئات وشخصيات لا حصر لها، بل أن هناك مؤسسات عراقية كاملة حديثة قامت وتأسـست في عهود السـيطرة الاستعمارية وبأشراف البريطانيين أنفسهم، منها مؤسسات حساسة مثل الجيش والشرطة والأمن العامة تقريباً (تأسست عام 1957 ) بالإضافة إلى دوائر الداخلية والعقار والزراعة وغيرها، وإن كانت هذه المؤسسات قد أنشأت أساساً في إطار جهود المستعمر بإنشاء البناء ألارتكازي Infrastructure، لتسهيل نهب البلاد، لذلك كان اهتمامها مركزاً على السكك الحديدية ـ النفط ـ الموانئ. وكانت تأمل من تأسيس الجيش والشرطة العراقية أن تكون لها عوناً على قمع أبناء البلاد ورديفاً لها في فتح وإلحاق بلداناً أخرى كما كان يفعل مع الهنود والأستراليون والنيوزيلنديون والكنديون وغيرهم، ولكن هذه المؤسسات كانت مخلصة لجذورها الوطنية والقومية، أصبحت سلاحاً بيد الشعب في المعارك الحاسمة لا بيد الإنكليز، وتلك هي من عبر الحياة لمن يعتبر من المستعمرين والإمبرياليين، سابقاً والآن وفي المستقبل.
ثم أننا نلاحظ على سبيل المثال لا الحصر، أن هذه الدوائر التي كنا نفترض نحن وغيرنا أنها تعمل في غاية الدقة، بحيث كنا نطلق على أي عمل دقيق (شغل إنكليز.. !)، إذ بها تقع في أخطاء كبيرة لا تغتفر، فهل يعقل مثلاً أن يخطأ الملحق العسكري البريطاني في السفارة ببغداد أو وزارة الخارجية البريطانية في معرفة شخصية قائد الثورة العميد الركن عبد الكريم قاسم على أنه خريج كلية الأركان البريطانية (كامبرلي)، في حين أن قاسماً لم يتبع سوى دورة قصيرة للضباط الأقدمين في تشيرليس ببريطانيا، ثم هل يعقل أن سفيراً بمرتبة السير مايكل رايت MichaelWright أن يبعث تقريراً إلى وزارة الخارجية البريطانية في لندن يتضمن معلومات خطيرة عن الوضع السياسي والأمني اعتمادا على أقوال بستاني عراقي يعمل في حدائق السفارة، ربما هو أمي على الأرجح وذا عقلية سياسية بسيطة، هذا إذا استبعدنا أن يكون الرجل على صلة بدوائر أمنية في بلادة، فالأمر يدل في النهاية على ضعف مصادرهم المعلوماتية وتشير الوقائع أن أفضل تلك المعلومات التي حصلوا عليها، كانت عبر المصادر الرسمية العراقية، التي كانت تبلغهم وغيرهم من ممثلي السفارات الأجنبية في بغداد تطورات الموقف وما يودون الحصول عليه من معلومات.
ويثير الاستغراب مرة أخرى الجهل البريطاني المطبق (كانت معلوماتهم شكلية وبعيدة عن التحسس العميق لمعاناة الشعب العراقي ومشكلاته) عن التيار الوطني والقومي المعادي للاستعمار ضمن الجيش العراقي، وقد لاحظنا أن مفاجأتهم بالثورة كانت كاملة، رغم أن حركة الضباط الأحرار كانت تعمل بنشاط ودأب منذ عام 1948، حيث ابتدأت الخلايا بالعمل عقب حرب فلسطين التي دقت جرس الإنذار: الخطر القومي !..عندما قررت الجيوش العربية التصدي للتآمر الاستعماري في إقامة الكيان الصهيوني، وتوج هذا النشاط في مصر بثورة تموزـ يوليو/1952، مع أنهم كان يفترض بهم أن يتعظوا من حركة مايس /1941 التي قادها الوطنيون والقوميون في الجيش العراقي ومن خارجه، والاندفاع القومي للجنود والضباط في حرب فلسطين.
ثم أننا نلاحظ أن ارتباكاً شديداً وجهلاً وتخبطاً يسود أوساط الدبلوماسية البريطانية، وأخطاء فاحشة تتحكم في تطورات وتقديرات هذه الدبلوماسية العريقة، للاحتمالات القادمة. فقد كانت الثورة وأسماء قادتها مثلاً، مجهولة!.. ولا سيما الضباط بالدرجة الأولى ويا للعجب!!
وكذلك أسماء العناصر المدنية، وما يدعو للاستغراب أكثر فأكثر، هزاله التصور وقياس حجم وأبعاد وأستمكان الحركة الوطنية والقومية التقدمية العراقية، فنلاحظ مثلاً في أول تقرير تفصيلي للسير مايكل رايت (السفير البريطاني) بتأريخ 20 تموز 1958، أي بعد أسبوع كامل على الثورة، أن ينطوي تقريه على معلومات وتصورات ساذجة عن القوى السياسية الرئيسية في العراق: البعث / الشيوعي /الاستقلال / الوطني الديمقراطي، وأبرز ما يدل على بساطة وسطحية تصوراتهم السياسية، أنهم لم يدركوا مطلقاً قوة التيار الوطني والقومي التقدمي في صفوف الشعب العراقي، لذلك كانت تصوراتهم السياسية الشاملة على خطأ واضح وجلي.
وهذا يعني ضآلة العناصر التي كانوا يتعاملون معها سياسيا واستخباريا. ولابد من الاعتراف أن هذه الحقائق سببت لنا الدهشة، فقد كنا نتوقع أن بريطانيا قد استطاعت خلال عقود طويلة من العمل، أن تحقق أكثر من هذه الصلات الهزيلة (تكرر سيناريو هزالة المعلومات بعد 45 عاماً أبن حرب العراق واحتلاله 2003). فدقة المعلومات إذن هي مسألة لا يعول عليها في كافة التقارير. أما التحليل (وهو موقف ورأي السفارة) فهو الآخر ينطوي بسبب الجهل والخطل بمفردات الموقف السياسي الميداني على استنتاجات خاطئة، فعلى سبيل المثال: على مدى دراسة 550 وثيقة تضمنتها ثلاث مجلدات مجموع صفحاتها1117 صفحة، لم نجد ولا مرة واحدة تنبؤ مصيب، وتحليلا مسبقاً يتوقع أحداثاً مهمة حتى لو كانت واضحة جلية، مثل الأحداث التي بتراكمها قادت إلى حركة الشواف في الموصل (1959)، ناهيك أنهم لم يكونوا على بينة من نوايا الحكومة العراقية في الانسحاب من حلف بغداد ومنطقة الإسترليني، ومواقف وقرارات أخرى كثيرة.
أما عن موضوعية الأحكام والمواقف، فمن المثير للاستغراب حقاً، أن بريطانيا لم تكن يوماً حريصة، حتى في العهد الملكي يوم كانت القيادات العراقية الرسمية متحالفة مع بريطانيا وتربط معها بوشائج الصداقة والتحالف على كافة الأصعدة، إذ لم نلمس في أي من التقارير الحرص على الصداقة وعلى الصديق ولم يتولد لدينا الشعور بأن البريطانيين الذين رغم تناقضنا معهم، فهم يستحوذون على ثرواتنا، ثم يجعلون بلداننا، العراق والبلاد العربية المجال الرئيسي لفعالياتهم الاقتصادية بالإضافة إلى الارتباط الثقافي والتعليمي، لم نلحظ حرصاً بريطانياً على أي من المصالح العراقية إطلاقا.
ومن حيثيات التقارير البريطانية نلاحظ أيضاً بوضوح، عدم رغبة الحكومة البريطانية تسليح الجيش العراقي بمعدات وأعتده حديثة وفعالة حتى في مراحل قبل الثورة، بل هي تحاول عرقلة حصول العراق عليها من مصادر أخرى (من الدول الاشتراكية خاصة)، أو إقامة صناعة عراقية ولو بسيطة، أو مساعدة العراق (ضمن دورهم كصديق وحليف مفترض) على أحداث نهضة دراسية وعلمية وهو أمر مدهش ومحزن في ذات الوقت، فقد كان مطلوبا من العراق أن يقدم كل شيء مقابل لا شيء، أفلا يثير الدهشة والأمر كذلك ألا تتوقع بريطانيا غضب يقود إلى ثورة وطنية…؟ تطيح بمصالحهم وعملائهم ليقرر الشعب العراقي مصلحته؟
ونلاحظ بدهشة أن الموضوعية والأنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه هي مبادئ مستبعدة في السياسة الاستعمارية قديماً وحديثاً، التي تهدف إلى أمر واحد، هو الاستيلاء على المزيد، والمزيد من الأرباح والمزايا والمكاسب على كافة الأصعدة، سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية، بصرف النظر عن الوسيلة، وليس هناك شيء مهم سوى تكديس المزيد منها. والبريطانيون هم أصحاب القاعدة السياسية المبتذلة المعروفة ( ليس هناك أصدقاء دائمين ولا أعداء دائمين، هناك مصالح دائمة) .
ومن شاء الإطلاع على المذاهب السياسية البريطانية الحديثة، فأنة سيجد في مذكرات ونستون تشرشل وأنطوني أيدن (الشخصيتان السياسيتان المعروفتان:عمل كلاهما رئيساً للوزراء في حقب سياسية مهمة وحاسمة) الكثير مما يدل على أن المذاهب السياسية الاستعمارية تعمل أساساً وفق قاعدة تحقيق المصالح بصرف النظر عن الأساليب، وعلى هذا الأساس كرس العلم السياسي البورجوازي الاستعماري مذاهبه على قاعدة الأفكار الميكافيلية ( أنطونيو ميكافيلي1527 ـ 1469الإيطالي من عصر النهضة الذي تعتبره بعض الأوساط مؤسس علم السياسة الحديث).
وقد أجرى العلم السياسي الاستعماري الحديث تعديلاً ولكنه ليس بتعديل جوهري على أية حال بل هو ضرب من أحداث ملائمة ومسايرة للعصر ومتطلباته تمثلت بالفلسفة البراغماتية Pragmatism، وهي فلسفة تستند أساساً إلى قواعد رجعية إنتهازيه واعتداءيه، تعتبر أن النتائج العملية تبرر أساليب الوصول إليها، على هذا النحو فأن بريطانيا الاستعمارية أقامت أمجادها وثرواتها اعتمادا على الاعتداء على شعوب أخرى، بل هي استخدمت أبناء المستعمرات في الحروب الاستعمارية ضمن سياسة الضم والإلحاق، واستنكرت وقاومت وقمعت أي عملية تحرر ومقاومة أبدتها الشعوب المستعمرة، ومن تلك على سبيل المثال، الحرب العدوانية على مصر 1956، بالاشتراك مع فرنسا والكيان الصهيوني على أثر استعادة مصر لإحدى مصادر ثروتها الوطنية (تأميم قناة السويس) من أجل إنماء البلاد، بعد رفضوا إقراضها، ومنعوا حتى المؤسسات الدولية من إقراض مصر لتشيد السد العالي في أسوان، ولكن كتاب ومحللين سياسيين واقتصاديين إنكليز أقروا واعترفوا، بأن ذلك كان السبيل الوحيد الممكن لتنمية مصر وإن ذلك كان من حقها الشرعي. ولكنها (تلك الأوساط) لم تفعل ذلك إلا بعد مرور عقود طويلة على التأميم والعدوان الثلاثي وعلى بحر من الدماء والآلام والتضحيات الغالية التي قدمها شعبنا في مصر وفي أقطار أخرى وغيرها في العالم. أو لم تكن %84، من مساحة اليابسة في العالم حتى مطلع القرن العشرين تدار استعماريا وإذا كانت الأساليب الاستعمارية قد أرغمتها على التراجع، إلا أن جوهرها ما زال عدوانياً نهابا ويفتقر إلى الأخلاق والشرعية القانونية، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة لا حصر لها، ففي كل بقعة من الكرة الأرضية هناك شواهد شاخصة تطل على الإنسانية وهي تحمل آثار جروح أو نزف مستمر بسبب الأنشطة الاستعمارية: سياسياً واقتصاديا وعسكرياً وثقافياً، في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، وفي استخدام مفرط للقوة المسلحة في العلاقات الدولية، وفيما يتعرض له العراق وفلسطين وليبيا والصومال وأفغانستان ونيكاراغوا، ابرز شواهد وأدلة في العصر الحديث على ذلك، وما هذه العولمة Globalisation، إلا استعمار وإمبريالية الألفية الثالثة ونسخة حديثه عنها لنهب وجلد شعوب العالم.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: