د. ضرغام الدباغ
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 10607
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
البحر صمت احتجاجاً عند فيركور صمتاً غدا شهيراً، بل صاخباً بشهرته، عندما كتب رائعته الغير قابلة للنسيان " صمت البحر " والتي يعتبرها معظم النقاد من أجمل نتاجات أدب المقاومة، بل ونالت حقاً جائزة أفضل عمل أدبي أشهره قلم كاتب حر لمقاومة أحتلال النازي لفرنسا في الحرب العالمية الثانية.
تقرر فتاة عزلاء بمفردها مقاومة جبروت النازي المحتل لبلادها (فرنسا) مقاومة الغستابو والآلة الوحشية للأجهزة السرية، والإعدامات الجماعية، عندما تقرر مقاطعة تبادل الحديث مع ضابط نازي، فرضته إدارة الاحتلال للبلدة كضيف إجباري في بيتهم هي ووالدتها العجوز، صمت بليغ .. فيه إهانة للمحتل المغتصب .. هو أضعف الأيمان ..!
راح الضابط الألماني، وكان وسيماً ومثقفاً، في محاولة يائسة لكسب ود الفتاة، يعزف بمهارة على البيانو الموجود في بيتها، يعزف روائع الكلاسيك العالمي، يحدثها عن الأدب العالمي، يخبرها بكلمات لزجة، يحاول بذكاء أن يكسب ودها، أن هناك سياسة دولية لها أبعادها، وأنه ليس مسؤولاً عن وجود النازي في بلادها، وهو الذي لم يكن ضابطاً مقاتلاً، بل ضابط أحتياط ملحق بالجيش كإداري، فهو لم يكن اليد التي تضرب، أو القدم التي ترفس.
ولكنه كان الشريان الذي يمد الجيش بالمؤونة، فهو واجب أمضى من القتل .. بالسلاح، كان مهذباً وراقياً، وذلك تحريف ألمعي للمحتل المكروه ... سيان أي رداء أرتدى ..
الفتاة أحبته، وتلك عواطف إنسانية، ولكنها كانت تدرك أن حبها الأول هو لبلادها الراية الوطنية المثلثة الألوان، ونشيد المارسلييز .. وليس موسيقى الكلاسيك الجميلة التي يجيد المحتل الوسيم المظهر والقبيح الجوهر عزفها ..
قاطعته، لم تكن ترد حتى على تحية الصباح أو المساء التي يلقيها .. كانت تقمع قلبها .. فداء لوطنها ..
الضابط أدرك .. أنه محتل لبلادها ولكنه عاجز عن أحتلال قلبها .. تقول له بلغة العيون .. أنت قد تفلح بأحتلال الأرض بالدبابات والطائرات، بل ربما بوسعك أن تغتصب .. نعم هكذا يطلق عليها في قواميس ولغات العالم، هي بالألمانية Vergewaltigungأغتصاب، وبالفرنسية Violation وفي الإنكليزية Assault بمدلول واحد، أن تنال شيئ عنوة، ما ليس هو حقك .. وهو أمر لا يمتع إلا المرضى العصابيون، لكنك هيهات أن تتمكن من قلبي، هيهات أن تنال أحترامي، هيهات أن تنال بوحشيتك إعجاب أحد سوى الذئاب والكلاب المتوحشة ... كان صمتاً بليغاً .. صمت البحر كان صاخباً، يرد على لعلعة الرصاص بصمت الكبرياء ...
عار الأحتلال والتعاون مع المحتل لن تمحوه خزعبلات العلاقات العامة ومحترفوها من الكتاب المرتزقة .. الذين يؤجرون أقلامهم ورؤوسهم أيضاً بتراب الفلوس .. ففي فرنسا المحتلة من النازي، وكان هناك أيضاً ممن أمتهنوا بيع الضمير وأشتغلوا بالدعارة القلمية، فبرز كالعادة خونة ومتعاونون، ومنهارون، وزاحفون، بعضهم حاول أن يفلسف هذا الانهيار والانبطاح، فقالوا أن الأمة الألمانية والفرنسية كانت متحدة حتى عام 1200 ميلادية، ولديهم فصول تاريخ مشتركة، وبعضهم زعم أنها سيف الحضارة المسيحية الأمضى، ولكن الحقيقة الناصعة أنهم كانوا راكعون، يعانون من خواء داخلي وهزيمة لعينة تعشش في رؤوسهم.
كتب أحد هؤلاء، الكاتب الفرنسي المتعاون مع العدو ديشانبرمان: " أنه أعمي من لا يعرف الدور الذي أوكله القدر إلى ألمانيا، بل منحطة وملعونة أي أمة أوربية لا تحي هذا السيف المرفوع ".
وكان الألمان يعدمون رهائن فرنسيين 50 فرنسي مقابل ألماني واحد ...
وكان الخونة الفرنسيون يرددون متعقلين: هل ستخرج هذه العمليات وهذا العنف الألمان من فرنسا ؟
فرنسا تحررت .. والعار كان نصيب للخونة والمتعاونيين يوم فرحة الشعب بالتحرير..
فكتب الشاعر الحر بول فاليري:
أواه كم رأيت وجوهاً فر الشرف من جباهها ..
وكتب يوم التحرير:
ليس هناك نهار أكثر ألقاً، من اليوم الذي يقتل فيه الخونة ..
هكذا هو ديدن المحتل .. وهكذا يفعل أصحاب الأقلام الشريفة، والذين يمتلكون أفئدة حرة لا تجزع، بلا خوف لا وجل .. وطن علمني القراءة والكتابة ... وله فقط أكتب ..
وأما الشرفاء فيقسمون لك أيها الوطن أن لا يخونوا الكلمة ..
* * * *
يمثل إيفان آيفوزوفسكي Iwan Aiwosowiki (1900-1817 ) ظاهرة بارزة في تاريخ رسوم ورسامي البحر في العالم وبين الرسامين الروس الروس. فهذا الفنان الذي ينحدر من أصل أرمني، ثم عاش ودرس الفن في أكاديمية الفنون الجميلة في سانت بطرسبرغ(لينينغراد) استطاع أن يعكس بقوة مذهلة عنف عناصر الطبيعة حتى القاتلة منها، والبعد اللامتناهي للبحر وفي ذات الوقت الجمال المذهل للموج وللعواصف والصفاء البديع لموج البحر، وترك لنا هذا الرسام المبدع ولرصيد العالم من الفن الرفيع والجمال أكثر من 3000 لوحة، يصادفها المرء في أكثر متاحف العالم.
البحر عند إيفان آيفوزوفسكي ليس صامتاً، إلا عندما تقرر ريشته الخلاقة خلاف ذلك ... فتبدع ريشته، فهو يجعل البحر هادئاً ناعماً ليناً كشعر حورية بحر خرافية، يدع اشعة القمر تتراقص على صفحاته، زار بحار العالم ورسمها، ولربما لكل بحر مذاقه عند آيفوزوفسكي، مذاقه الفني بطبيعة الحال.
هو رسم مصبات الأنهار والخلجان، والسواحل الرملية، وابدع في رسم المدن البحرية بأستنكاه لا تخطئه العين، لمن جال المدن البحرية وتعرف على اسرارها ..!
كان آيفوزوفسكي قد ولد عام 1817 في فيودوسيا على البحر الأسود وتعلم الرسم منذ طفولته وكان ألمعياً لدرجة أنه ألتحق وعمره لا يتجاوز السادسة عشر فقط إلى أكاديمية الفن في بطرسبرج(لينينغراد فيما بعد) والتي تخرج منها بعد أربعة سنوات متفوقاً يحمل الميدالية الذهبية الكبرى.
وفي بطرسبرج، نال الفنان الشاب احترام الرسام المشهور كارل برولوف، كما نال انتباه ولفت أنظار بوشكين وكلينكا. وفي صيف 1840، أتاحت له أكاديمية الفن سفرة دراسية إلى إيطاليا، تجول فيها وشاهد سواحل البحر الأبيض المتوسط حيث زار أسبانيا ثم باريس. وكانت شهرته قد وصلت حتى إلى بريطانيا وهولندة حيث تلقى رسوم البحر هناك اهتماماً أكبر وأهديت له قصيدة غنائية (Sonata ).
ونادرا ما تخلو لوحات آيفوزوفسكي من السماء والبحر، ولكن الماء(في اللوحات) أمراً نادراً ما تخلو منه أعماله وهي بلا حدود. وهل تعلمون ما هو مثير للدهشة في ذلك ؟ أن آيفوزوفسكي بعبقريته ونبوغه في الرؤية وأفكاره ومعرفته للطبيعة، سمحت له أن يقوم بالرسم حتى دون أعمال تخطيط مسبقة(سكيتشات) ..!
في شتاء 1873 أقام آيفوزوفسكي في نيس معرضاً رائعاً لأعماله. وفي فلورنسا تعرض إلى التلف كامل المعروضات بسبب الفيضان، وفي كل معرض كان يحدث تحول مهم. وكان آيفوزوفسكي قد اشتهر كفنان أجنبي وكان يقوم بعمل صور شخصية(بورتريهات) للضباط، وكان ذلك يعتبر شرفاً كبيراً لم يكن قد ناله فنان(رسام) روسي من قبل إلا أوريست كبيرنسكي Orest Kiprenski .
في باريس، نجحت لوحات آيفوزوفسكي التي عرضت في اللوفر نجاحاً كبيراً، حيث منحت الميدالية الذهبية من الدرجة الثالثة، وهنا أيضاَ أهديت له قصيدة غنائية تقول كلماتها " إن فنك لشيء جليل وعظيم الشأن، لأنك ملهم وعبقري ".
* * * *
ومن أبدع أعمال آيفوزوفسكي طراً، تلك اللوحة الرائعة، التي لا يمكنك مغادرتها بسهولة، وهي تنتمي إلى الفن الكلاسيكي، فئة رسوم البحر ولكن بأمتياز، هي لوحته المذهلة الجمال والقوة والإبداع " الموجة التاسعة "The Tenth Wave " وهذه اللوحة اليوم أحدى الموجودات الثمينة للمتحف الروسي في المدينة التي درس فيها آيفوزوفسكي مدينة لينينغراد "سانت بطرسبرغ" وهي بحجم 221X332 Cm .
ولوحة الموجة التاسعة، اثارت إلهام العديد من الكتاب والأدباء والفنانين، فقد أعتبرها آيفوزوفسكي الخبير بعواصف البحار، تلك الموجة التي أغرقت السفينة التي أتعبها النوء، وأرسلتها إلى قاع البحر العاصف الغاضب، والبحارة يتعلقون يائسين بآخر قلوع السفينة على سطح البحر المدلهم في ظلام الليل، ولا فنار يلوح في الأفق ولا مرساة سوى ضوء القمر الذي شاء آيفوزوفسكي أن يجعله فنار البحارة في مأساتهم هذه ....
ترى هل كانت مثل هذه القراءة الفنية هي التي ألهمت الكاتب المبدع .. العملاق إيليا أهرنبرغ في روايته الكبيرة: " الموجة التاسعة " فقد أعتبرها الموجة التاسعة قبل غرق السفينة ..
إيليا أهرنبرغ يطلق إنذاراً لمن ...؟
للبشرية والإنسانية التي شهدت الفاشية تذبح الجمهورية الأسبانية
كانوا يزودون فرانكو بالسلاح جهاراً وسراً .. ويقولون لك .. لسنا نحن، بل أنها الشركات الهادفة للأرباح..!
لم يقف سوى الأتحاد السوفيتي، الذي أرسل السلاح والمتطوعين لأسبانيا الجمهورية، وعشرات الألوف من الكادحين من كافة أقطار العالم أستادانوا ثمن تذكرة السفر وشخصوا إلى أسبانيا .. وقفوا إلى جانب الجمهورية وقاتلوا إلى جانبها، والألوف منهم قضوا وراحوا في عناق مع الثرى الأسباني إلى الأبد ..!
الكاتب السوفيتي الكبير إيليا أهرنبرغ كان من بين من تطوع ليقاتل بالسلاح ..
وعندما عاد كتب رائعته: " الموجة التاسعة " ليحذر البشرية من الصمت .. هاتفاً ... الموجة العاشرة قادمة ... أنتبهوا ... لا تشاركوا في مؤامرة الصمت .. لا تقفوا مكتوفي الأيدي أمام الجريمة .. فالشيطان لا يريد سوى سكوت الأخيار .....
الصمت عار .. البحر يصمت غاضباً، ويثور عاصفاً ... ما أجمل غضب البحر
هذا هو صمتنا ... هذا هو صخبنا ...
سلاماً للبحر الصاخب العاصف ..
سلاماً لمن وقف قلمه للشعب .. للغد .. للحرية
Ivan Aiwosowiski: 1817- 1900 The Tenth Wave
إيفان آيفوزوفسكي : "الموجة العاشرة"
فيركور و إيليا أهرنبرغ و أيفان آيفوزوفسكي
وحديث البحر