د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4725
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
هل زارت الثورة بيت الحكمة؟
يظهر من حديث رئيس بيت الحكمة الجديد (إسقاط الأسماء من باب المعاملة بالمثل)، المفكر المعروف باختياراته الحادة والمعلنة في الدين والسياسة، في حوار نشرته له في الأيام القليلة الماضية جريدة الصباح، يظهر أنه وفّق الى ما يرضاه من الانتصاب على كرسي هذا البيت ليصرفه، كدأبه في الاستفراد بالغلة في رئاسة قسم الكلية حين كان يتولاه أو العمادة سابقاً، أو كذلك في رئاسة "الجامعة المفتوحة" حالياً، ذات التوجهات الإيديولوجية غير الخفية. ولعله لم يغادرها إلا بساق بعد تعيينه على رأس بيت الحكمة.
فلا مانع من أن تكون هيأت له مسؤولياته السابقة، التي وفرتها له ولأمثاله الأنظمة الحاكمة منذ الدولة الحديثة بعد الاستقلال في ظل منظومات ثقافية وفكرية وتنظيمية، لم تسلم من القدح في حياديتها وسوء تصرفها في الأنفس والأموال. ولكن أن يستمر الوضع بعد الثورة في التعامل مع منظومة الماضي القريب، التي انتفضت عليها المجموعة الوطنية لما أصابها بسببها من غبن وإقصاء وتهميش، فهذا هو الوضع الخاطئ في إعادة الاعتبار لمؤسساتنا الوطنية ذات المسؤوليات السامية على رأس التوجيه الثقافي والفكري والعلمي في بلادنا.
فلقد أُصِبنا من داخلنا عندما تهاونّا بنقد أوضاعنا قبل أن تستفحل الى انفجاراتنا عليها، أو قبل أن تُصحَّح أو تنصلح.
فمنذ أن احتكرت اللوبيات القائمة في الدولة الحديثة المسؤوليات الحساسة في تلك المؤسسات والتعاقبُ على رأسها لا يكاد يخرج من الأيدي المشكوك في انتماءاتها لما يسمى دستور حقيقة، دستور يحترم العربية والإسلام، ويوليهما المكانة اللائقة بعد الاستقلال، بعد ليل طويل من الاستلاب الثقافي والاستغراب والاستلحاق.
عدوى الانتخابات التمهدية
فهذه المؤسسة، بيت الحكمة كانت شيئاً أشبه ما يكون بجنة عدنان لمن يكون قد غادر منصباً أو وزارة ليؤبد لراحته وتقاعده، دون أن يعنيه كثيراً إضاءتها على غير دائرة بيته الفكري والثقافي، وإن خالف الحد الأدنى من الالتزام بمقومات الأمة التي تقوم على رأسها هذه المؤسسة، بدليل هيكلتها نفسه وأدبياتها.
وشقيتْ وزارة الثقافة بها أيما شقوة لتحريك مواتها وتسديد الخلل في تصرفها وفي ميزانيتها. وإذا بها فجأة بعد الثورة تنقل الى مسمى المجامع العلمية في الدول ذات الأنظمة المتطورة. فكادت تكون هيئتها المشرفة على إصلاحها تنتخب لها قانوناً من أرفع القوانين لإدارة المؤسسات المثيلة. فجعلتها ترتبط، لمزيد الحظوة لأهل الشأن بها، برئاسة الحكومة في الهيكلة والميزانية. وعلى رأس تلك القوانين الانتخابُ لرئيسها ومجلسها العلمي وأقسامها، دون ضمانة من أن تسقط في نفس الوقت لُقمة سائغة للأيدى الخفية التي تدير الانتخابات والضغط المعنوي.
كما في الكليات.. من يريد أن يشرّع نفسه الأهلية والمشروعية في المنصب، عليه أن يقتضيه من طريق الانتخاب المعدّ طبقُه سلفاً من خلف الكواليس، وبكل صفاقة العصبية المقيتة وتقاسم الأدوار والأخذ بقانون اللعبة، عبر الابتزاز النقابي والإملاء الحزبي والموالاة للأجنبي. ومعلوم أنه في ظل الحكم الفردي تنتعش بورصة الفئوية ويستفيد الوصوليين من ميوعة الدولة لتحقيق أغراضهم.
أعمدة بيت الحكمة
فرأينا من يجلس على كرسي الحكمة في بيت الحكمة وهو لا يعبأ بعربية البلد أن تكون سليمة في فمه أو لسان قلمه وحتى في الدعوات العامة اليها، ولا بإسلام البلد أن يكون متجسماً في سلوكه العام والخاص، ولا بموضوعية ونزاهة في إدارة الشأن الثقافي والعلمي والفكري من أبوابه المفتوحة.
فمِن منكِر لغار حِراء، الذي كان يتعبد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الوحي؛ ويعتبره ليس فقط أسطورة لا أساس لها من الصحة بل حكاية سخيفة تتداولها كتب التفسير؛ الى من يقول إن المسيحيين أفضل حالاً من المسلمين، لأن الوحي بقي يتطور في ديانتهم بعد عيسى (عليه السلام) ويتناسل في آباء الكنسية، أما في الإسلام فبانقطاعه بموت محمد (صلى الله عليه وسلم) فقَد كل مرجعية لتطوره، ولذلك يتعين تحرير الاجتهاد من منظومة الشريعة التي كبلها بها علماؤها السابقون خدمة لامتيازاتهم في ظل الحكم الفردي، دون أن يكون لها أساس تماماً من القرآن.
الى رئيسها الحالي والذي خطه المعلن في حواره المنشور بعد أن هنأ نفسه بانتخابه رئيساً، هو أن: "الإسلام السياسي مضطر الى التطور والى نبذ كل ما يتعارض مع مقتضيات حرية الضمير والمساواة بين الجنسين وبين جميع المواطنين بصرف النظر عن خياراتهم العقائدية والدينية".
فماذا بعد هذا الاضطرار للإسلام من دين؟
ضياع من راهنوا على سقوط الإسلام
وانطلق يتأسف على ضياع دور صوت المثقفين تحت ما يسميه مطرقة مواقع التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت، إذ كان المثقفون وحدهم كما يقول: "من القلائل الذين يتاح لهم التعبير عن آرائهم، وإذن فهم يؤثرون في الرأي العام وفي الخيارات السياسية والاجتماعية وغيرها".
فكأنه يرثي لحاله ولطبقته من المثقفين، لما ولّدته الثورة الحديثة من وفرة المعلومات ومن حرية في التواصل الاجتماعي. فلم يعد لهم احتكار التأثير فيما كانوا يعتبرونه زرعهم الذي يذودون عنه، لتخريج نبات من سِنْخ نباتهم، متأصلٍ في عزل الدين عن الحياة العامة. وكالإعذار لهم يقول: وذلك بالنظر "الى مواقفهم النقدية، والى أنهم مبدئياً على الأقل غير مشاركين مشاركة مباشرة في الصراعات السياسية والسعي الى الحكم".
وعينُ التلوّن عنده لإخفاء الممارسات غير السليمة يعتقد أنه "من الطبيعي أن المثقف إذا مارس الحكم يفقد صفته مثقفاً حال ممارسته الحكم".
فهل يكون يبرر لنفسه بالتحفظ على التزامه الحزبي أو بالتحفظ على نهجه الفكري والثقافي لأدارة بيت الحكمة إدارة المتلوّن بين سياسة معينة وثقافة معينة؟
ثم يغمرنا في حديثه عن مواقفه السياسية والدينية، ونُبوّته عن "النهضة" في الحكم والدعوة.. أي دعواها فصْل الحزبي عن الدعوي والانسلاخ من جلدها التقليدي، أو انسلاخ الإسلام تماماً من جلد السياسة في مستقبل أمرها بالحكم أو بالمعارضة. ورغم التفاؤل بمآل الثورة لا يُخفي تخوفه من مستقبل الأوضاع الراهنة إذا وهَن عظم الأطراف السياسية الخصيمة للإسلام السياسي. فالهاجس الثابت عنده أن الإسلام يقوى بضعف الآخرين، وبعبارته: "يقوى الإسلام السياسي إذا كانت الأطراف الأخرى ضعيفة".
فتاوى العلمانيين
ويُقسِرنا على قراءة التاريخ بما يحاول تقريره من صحة المشابهات بين الماضي والحاضر أو بين الشعوب والحضارات؛ وكأنها علبة سردين وحداتُها بحجم واحد. فما دام المسيحيون قرأوا قولة عيسى: «أعطوا ما لقيصر لقيصر»! وفي ذلك يقول: «وواضح أن في هذا الاستنجاد بقولة المسيح توظيفاً للماضي»، فعلينا بالنسبة اليه أن نقرأ الحديث النبوي الذي يصرح فيه الرسول «أنتم أعلم بأمور دنياكم» قراءة المسيحيين لعيسى قِدّاً بقدّ! للتقدم بتقدمهم والنهضة بنهضتهم.
ومن الشائع لديه وجماعته، توجيه القراءة في الحديث والقرآن لأغراضهم من التبرير والاقناع؛ دون مبالاة بسياق أو تحقيق من رواية أو تفسير. أما من دونهم، فكل حديث أو قرآن يستشهدون به هو نص يحتمل الصدق وخلافه بحكم المصادر المتناقضة والدراسات الانثروبولوجية والابستمولوجيا والكوديكوجيا، وحتى نظريات شومسكي اللغوي المشهور والعضو المرموق كذلك في بيت الحكمة لدينا.
وفي الحقيقة المهم لديه، ليس الحديث في ذاته ولا القرآن في ذاته، عندما يستخدمهما للإقناع، وإنما لإبكات أتباعهما، وجعلهم يأخذون رأيه فيما يقرره لهم مأخذ الجد والصِّدقية، يقول: «المهم هو مدى الإيمان بهذه القيم اليوم، رغم ما تمثله احياناً من قطيعة مع الماضي، بالخصوص في ما يتعلق بالمساواة بين الجنسين التي هي قيمة جديدة على كل المجتمعات».
﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ ربما هو ذلك لسان حاله في الذين يخالفونه في عدم تطبيق الشريعة في أحكامها جملة، ما دمنا بتقديره لا نطبق قطع اليد والأرجل من خلاف، أو لا نرجم الزانية والزاني أو لا نجلد شارب الخمر. يقول جواباً عن جواز المحظورات الإسلامية التي ترُوج سوقها هذه الأيام حتى اعتنى بذكرها في حديثه: «فينبغي منطقياً أن نطبق الأحكام الفقهية الأخرى التي لم تعد ملائمة لقيم عصرنا مثل قطع يد السارق أو جلد الزانية ولو عدنا الى النص القرآني لرأينا أن «الأحكام» الواردة فيه إنما كانت حلولاً لأوضاع ظرفية بدليل أنها لو طبقناها حرفياً لاستحال تطبيقها مما دعى الفقهاء الى الاستنجاد» بما يمكن أن نسميه نحن بترسانة من الحيل الفقهية حتى نلخّص بقية كلامه. لأنه جعل يسرد علينا طائفة من تلك الحيل، التي ما هي في الحقيقة إلا اجتهادات مفترى على أصحابها، لأنها قائمة على افتراضات فقهية تعليمية أكثر كونها حالات عامة. ويعرفنا بها كأنها أداتنا المثلى للخروج من المأزق، أي تجويز ما يعتبره من الحريات الشخصية التي لا دخل للإسلام للتلصص على أصحابها، لأنها من خصوصيات الفرد، بصفته تلك كمواطن حر محترم في بيته أو مكتبه أو ملهاه أو مُوبِقه.
وختم لنا حديثه الرائق في هذا رمضان المعظم بضرورة السير سيرة من يصفهم ويسميهم "بالمجتمعات التوحيدية الأخرى" و"الانقليكان والبروتستان". وغيرهم من ذوي السِّير العطرة بتقديره.
امتداح الثورة
لكن اللياقة جعلته لا ينسى أن يمتدح الثورة التي نعيشها، كاعتراف بفضلها عليه بالتنصيب على رأس بيت الحكمة، عبر منظومتها القانونية والانتخابية الموروثة عن حكومة الترويكا في أولها، والمباركة على سلفه كذلك رغم المفارقة.. والتي منّت عليها أي الترويكا بالضم تحت جناحها في خطة كاتب دولة لرئيسها للعلوم والآداب والفنون؛ وإنْ باسم مجمع، احتراماً للاعتبارات، وقطعتها قطعاً عن وزارة الإشراف صاحبة الإشراف القديم عليها، إذ كانت من الأدواء المستحكمة في جهازها منذ نشأتها.
ولا يكاد يلقي أهمية للثورة إلا من جانب أنها تتعافى بالمقارنة، ويستدعي لهذه المقارنة بلداناً بعينها في ذهنه، في قوله: «وقارنّا وضع بلادنا بالبلدان المشابهة لنا والمحيطة بنا». ودون أن يشكك في تحليله يقول: «إذا ما كان هذا التحليل صحيحاً (...) فإننا يمكن أن نكون متفائلين رغم التعثر في مقاومة الفساد ورغم الصعوبات في الاستثمار ومن الناحية الأمنية».
ولا لفتةَ الى الفساد في بيت الحكمة! هل وجده كما وجد أعشاشه غيره من المسؤولين في شتى دواليب الدولة أم لم يجده، أم تغاضى عنه؛ أم سوف لن تكون له به عناية في مؤسسته رغم قانونها المستحدث في 2012، الذي أشار اليه عرضاً للتنويه فقط بصبغته الانتخابية النافذة، التي أفضت الى رئاسته عليها. وبالمقابل صمَت عن واجب التطهير والإصلاح داخلها، وإن أقر عموماً على مستوى التطلعات «بالتعثر في مقاومة الفساد».
الطاحونة المشروخة
وفيما يتعلق بموضوع المشاريع، يظهر أنه سيعود الى طاحونة الريح المشروخة، وهي الموسوعة التونسية، التي سماها، واعترف أنها لقيت نقداً واسعاً حين صدورها الأول. دون تعرض لمآسيها العلمية وإهدار المال العام. فماذا يقترح علينا بدلها؟ موسوعة إلكترونية مفتوحة! هكذا، والطريف أن كل شيء في أمرها متوقفٌ على الجهاز الفني والتقني، لكي تدور رحى الموسوعة عبر الانترنت للشباب. أي ننتظر موسوعة مؤدلجة، أو سينافس بها "الويكيبيديا" أو ينسج على منوالها، ويرتاح باله الى صرف الأموال المرصودة. أما النتيجة! فبظهْر الغيب، كما الحال في الموسوعة الورقية التالفة في الأول، لأنها لم تُبن على أساس، وكالموسوعة الخلدونية، فيما بعد، التي سقط مشروعها في الماء، وسببت كذلك من إهدار المال العام؛ ما افتضَحها به نقدي العلمي المطول الذي كتبناه عليها؛ وكالبرنامج الاحتفائي بالقيروان عاصمة للثقافة الإسلامية، الذي ذهب ريعه لأولي القرابة والمتطفلين على المال العام حيثما كان، من ذوي الحساسيات الثقافية والفكرية الجنيسة. وقبْلها الكتاب التخليدي لابن رشد وشرحه المنشور على مقالة أرسطو في النفس في طبعة فضيحة باللغة اللاتينية! محزومة الى جانب الطبعة العربية المشوهة الترجمة عنها أصلاً، مما أسلْنا كذلك حبراً كثيراً للكشف عن تهافتها..
وغيرها من الأعمال التي تولتها هذه الدار المحترمة "بيت الحكمة"، منذ عهدها الأول الى عهدها في أطول بقاء لرئيس عليها رغم الداء والأعداء وسقوط كتابه عن "ثقافة القرآن"، وهي إجازة قرآنية لجدّه، جعلها من أعماله المتوج بها على رأس بيت الحكمة؛ وإذا هي الأخرى لم تصمد لنقدي عليها في كتاب منشور كذلك.
من طرائف ما هناك
من مآسي الموسوعة التي تم إتلافها في مهدها أن "إبراهيم ابن الأغلب"، أول مادة من موادها، نجده عبارة عن مقالة منتزعة دون علم صاحبها من موسوعة أجبنية باللغة الفرنسية (!) لغرض الموسوعة التونسية دون علم الكاتب!؟ على الأقل ليراجع بنفسه ترجمة كلامه بالعربية وهو أستاذ فيها.
ثم استقر الرأي على أن تخلو في طبعتها المصححة بعد الثورة إحياء لمواتها أن تخلو من كل الأسماء لكتّابها وتدرج فقط لرفع العتب في جدول منفصل عن المواد المتعلقة بها، حسماً للنزاع على الحقوق والاعتبارات.
سياسة من دخل بابنا فهو آمن
وكالعادة ليس وراء هذه الأعمال عندما يَكشف عنها النقد لا لجان للقراءة على الحقيقة ولا لجان مراجعة ولا استشارة ولا تحكيم، كما ينص عليها رئيسها في مقدماتها الممهورة باسمه.
وهكذا بإمكان القارئ أن يفهم لماذا يُستبعد الأعضاء المؤهلون بالقوة للنفاذ اليها وترشيدها، وحتى الاستدعاء لتظاهراتها الفضاضة بالمال والوجوه المستجلبة لرد الزيارة في الغالب. والذين لم يمنع كرم الضيافة بعضهم من ملاحظة الغياب في هيئاتها للأسماء المعروفة بجديتها وشهرتها.
هل كان جزاء سِنمّار لهم؟! لأنهم لم يكونوا عند حسن ظن مديريها، ليغضوا عن تهافت الأعمال المنشورة لديه لنقص فادح فيها أو لقصور في التصور والإنجاز.
وكانت الحكمة أن تكون "بيت الحكمة" أبعد ما يكون رئيسها عن الانتماءات الحزبية والمواقف السياسية الرهينة. فضلاً عن القول بضرورة تقديم الأنسب علماً وتحقيقاً والأعرف بأدوات العصر تسييراً وتنظيماً وبحياده للمصلحة العامة.
وكلّ ما هو قوانينٌ ولوائح وسائر شؤون المتابعة والمحاسبة والمراقبة لا يُغني عن اقتضاء قدر من التعاطف الإيجابي بين روح المسؤول وروح المؤسسة. فهذا البيت، بيت الحكمة، هو مستودع روح الأمة. فلا يؤخَّر قسم الإسلام وعلومه في أقسامه، ولا ينبغي أن تغيب العربية والنهضة بمكانتها في عصرها من اهتماماته وأقسامه كذلك.
وليس ما يوحي في كلامه بخصوص التنسيق داخل أقسام المجمع بأن التحديث الجديد في هيكلته العلمية، القائم على انتخاب الرئيس ورؤساء الأقسام لا يجعل كثرة الرئاسات سبباً من أسباب المنازعات وتعطيل العمل، خاصة إن كانت من قبيل انتخابات المحاصصة والنسبية والبقايا والتمييز الإيجابي. ميزة انتخابات تونس ما بعد الثورة الى حد الآن.
والتضحيات مطلوبة لصاحب هذه المهمة، فإن كانت تعوزه الأدوات ويغلب عليه حسن التطلّع للرئاسة، فهذا ليس بيوسف الذي رشّح نفسه لخزائن مصر وقال ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾.
فنحن نخشى بعد الثورة أن تسقط تونس بسقوط بيت الحكمة كما سقطت بسقوط الزيتونة في أول الاستقلال من دائرة الإشعاع العربي الإسلامي؛ ثم ثانية بعد انبعاثها المفاجئ في 2012 كالانبعاث المتزامن لبيت الحكمة.
السيرة الذاتية
وهو الذي يتهم الدولة باللائكية ضمناً في دستورها ويعيبها بالنفاق لوضعها الدين تحت سلطتها؛ ولا يتردد في تحريض المسلمين على العنف والإرهاب، تأسياً بالمسيحيين في الشرق الذين لا يقولون "بمن ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر" في حربهم لإسرائيل من أجل تحرير فلسطين، في حين بقي جل المسلمين يتمسكون بفتاوى أئمتهم في عدم جواز الخروج على الحاكم الجائر؛ وينقدتهم بشدة ويسفههم ويصفهم بفقهاء السلطان.
وسولت له نفسه أن يطعن كذلك في ثقافة المسلمين لموقفهم "المتخلف" من حرية الصحافة عند الدنماركيين في حادثة الكاريكاتور بالرسول صلي الله عليه وسلم. ويعتبر من حقهم المقدس السخرية بمن شاءوا، ومن حقهم على المسلمين أن يقدسوهم من أجل هذا الحق، وإن رغموا أو رغمت ديانتهم.
أما أنه في تقديم نفسه في سيرته الذاتية بأنه من أبرز «دعاة التحديث في قراءة الموروث الديني الإسلامي اعتماداً على المناهج الحديثة للبحث العلمي ومن فرسان محاربة الإسلام السياسي». فهذه صفات في ذاتها لا تمنحه أولوية الترشح لرئاسة مؤسسة علمية أدبية ثقافية عامة؛ أما ما عداها من المؤسسات الخاصة أو الأجنبية، فبإمكانه الفوز بحق الترشح لها.
وذلك أن التراث استعمال يطلق على الميت ومخلفاته والتي يمكن أن تذهب كلها هباء، من مال وعقار؛ أما المعنويات والقيم والتعاليم وما خُط في الألواح كما يقال، فهذه في المحل الأرفع من روح الإنسان وقلبه ووجدانه. يثريها وتثريه على مدى الزمان وامتداد المكان. وهو ذلك الإسلام الذي تحاربه الأقوام من أول ظهوره؛ وليس التخلف في مظاهره عند هذا المسلم أو ذاك، فهذه كلها أمور عارضة تعالج بالعلم وبالمنعة لدُوله. فلا تراث إلا على المجاز، أما حقيقة فهو حياة متصلة من خمسة عشر قرناً من العلم والعلماء، قابلة للإثراء والتقويم بحسب ملكات كل شعوبه وأممه وأجياله.
فكيف يكون الإسلام مضطراً لمصالحة الزمان والمكان، وهو دين، بل بالعكس، هو منزول ليُصلح الزمان والمكان، أو ينصلح الزمان والمكان بصلاحه.
ثانياً: كيف يكون من الدعاة مَن ينفي عن غيره كل ثقافة للدعوة والدعاة في دينه أو معتقده ليدافع عنه ويناصره.
ثالثاً: هذه التواشيح الذي يوشّحنا به الأجانب، في كوننا نأخذ منهم ما نعالج به موروثنا للتقدم مثلهم، هو من حيل الغلبة والتغلب كما يقول ابن خلدون. ومن أيام بونابرت في مصر ولافيجري وجول فيري في تونس ونحن نلوك التحديث والنهضة بحداثة الغرب وبنهضة الغرب وبأنوار الغرب. ويبدو أن الدروس من المقاومات للاستعمار والامبريالية والثورات المليونية عليهما لم تكن كافية لتُعيدنا الى رشدنا، في عدم التصديق بدعاويهم في حملهم النهضة الينا أو في خلقها لنا بأيديهم وأموالهم في بلادنا.
اعتبار
وما يسمونها بالفوضى الخلاقة - عليهم! - في جميع أنحاء العالم إلا دليل على فزَعهم الى مفهوم جديد هو الإرهاب لمحاربة الإسلام، من باب رمي التهمة عليه، أو على غالبية أتباعه من أندونيسيا الى طنجة، وربما في مدن وقرى أوروبا والأمريكيتين وكندا وأقصى الشرق، حيث أتباعه أشد إحساساً بحماية أنفسهم به من الظلم والفقر والدخول فيه أكبر من كل وقت مضى.
ولذلك، للحسرة عند بعضهم أو في قلوب بعضهم بدأ الإحساس بأنه ما أساءت الدول في مقاومة الإرهاب الحقيقي إلا وزاد الإرهاب الإسلامي اشتعالاً الى أن يتيقظوا الى حرب الإرهاب بالإسلام كعهده في أول الدعوة.
مجمعيون مدى الحياة.. والحصانات
وأن يجمع بيت الحكمة من المجمعيين من شرّق وغرّب في فكره واعتقاده، فهذا فيه غنى وليس لنا منه غنى، لكن أن يكون فيه من العاملين بالأسحار والأبكار على وضع الإسلام كشيء متحفي مع عدم اللمس، كما هو فكر عدد لا بأس به من أعضاء البيت؛ لا لشيء من انتهاء التقديس كما يقولون، ولكن لما هو أهم برأيهم، وهو تقدم العصر به وتخلفه عن الركب بموجب منظومته المنافية للحقوق والحريات، خلافاً للحضارة الحديثة المكرسة لهذه المفاهيم الجديدة.
منزلة القرآن في بيت الحكمة
وآخرُ من أعضائها ممنوح بجوائز أجنبية، لأنه يقود ما يسميه ثورة ضد لغة القرآن، باعتبار أن القرآن هو نفسه قام بثورة على لغة قريش، بما أدخل فيها من كلام أجنبي دخيل؛ وعليه بإمكان ثورة الصحافة اليوم أن تقضي على "نمنامة" العربية الفصحى، تأييداً لمقالته المتهافتة بأنه ليس هناك فصحى بل فصاحات! ومن تخليطه كذلك وسوء توجيهه للنصوص زعمه في بعض أعماله، بل أهمها لولا إخفاؤه لها بعد نقدنا إياه، بأنه في تونس في عهد صدور الرائد التونسي، الجريدة الرسمية للدولة آنذاك، كان هناك لليهود مؤسسات معتبرة منها ما سماه "مجلس اليهود" وما سماه في مدخل آخر للتعريف به "المجلس اليهودي"، الى غير ذلك. وبالتدقيق في صحة دعواه تبين لنا أنه لا مجلس هناك بهذا الاسم. كل ما في الأمر غلطٌ منه، فالنص يقول: «وحضر المجلسَ اليهوديُّ فلان نيابة عن اليهوديِّ فلان». فاعتبر الإضافة ولم يراع مقتضى النحو بعدم إضافة المفعول به الى فاعل، فأصبح لديه "المجلس اليهودي". وانما المقصود المجلس المختلط لمحاكمة يهودي بجريرته على مسلم. فهل هذا محصول مجمعي في اللغة؟ يتبوأ مقعده من الضرب بقداسة لغة القرآن بدعوى تطويرها وأنها ككل الظواهر الاجتماعية تحيى وتموت.
لا خوض فيما يخوض فيه الخائضون
وكأن المهم بالنسبة لرئيس بيت الحكمة أن لا يكون مواكباً إلا للأحداث التي تهمه من زاوية نظره، كمحاربة الإسلام السياسي في تونس في شخص النهضة، ولا ندري من هو نظيره على رأس مجمع من المجامع بالخارج من صفته محاربة المسيحية السياسية! أما ما يهم مثلاً العلوم الإسلامية وهي من اختصاص بعض أقسام مجمعه، من زاوية التفسير الذي نشره الشيخ السلامي وأثار من الحبر ما أثار على صفحة نفس الجريدة التي يحاور هو على صفحاتها في تلك الأيام، والتي نشرت سلسلة من المقالات حول ما فيه من مؤخذات تمس المصداقية العلمية والأدبية لتونس وعلمائها وباحثيها. وكأن المجمع لم يكن بإمكانه مساعدة الشيخ السلامي بوضع هيئة علمية على ذمته لتدارك ما في تفسيره من نقائص، خدمة لصورة العلم والنشر في تونس وخاصة لتفسير بخمسة آلاف صفحة تقريباً. وندخر صحته ونكرم شيبته.
أم أن المجمع ليس يخفّ بنفقاته إلا الى تكريمات فضفاضة بمناسبة نشر مؤلفات بعض المحظوظين لديه أو تنظيم أربعينية لوفاته؟ والحال أن الرجل من عِلية القوم ووجهاء الدولة؛ أو أن المجمع ليس من شأنه الخوض في القضايا الحارقة حتى تَخمد، أو تُنسى بمرور أهل الشأن عليها مرور الكرام. فكأنه حتى وإن خطر سؤال من هذا الموضوع الى باله استبعده من باب تجاهل الخصوم وعدم إحراج الأصدقاء ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ﴾.
تونس في 18 جوان 2012
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: