مجدي داود - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4236
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
استيقظت تركيا في السابع عشر من ديسمبر الماضي على وقع فضيحة فساد هزت الحكومة التركية، اتهم فيها أبناء العديد من كبار المسؤولين في حكومة رجب طيب أردوغان، وذكرت بعض الصحف التركية أن القضية قد تطال نجل أردوغان نفسه، لكن لم تمر سوى ساعات قليلة حتى بدأت بعض الحقائق تتكشف، وبدأت حكومة أردوغان تطيح بعدد من ضباط الشرطة بعدما ثبت أنهم قاموا بترتيب القضية فيما بينهم دون الرجوع لقياداتهم ودون الالتزام بالقانون الذي يحرك قياداتهم، حتى أن ضباطًا من اسطنبول قاموا بحملة اعتقالات في أنقرة بغير علم قيادة الأمن فيها، وهو ما يمثل خرقًا للقانون.
حكومة أردوغان اتهمت جماعة فتح كولن بالوقوف وراء القضية التي ظهرت فجأة، وتحدثت عن وجود ما يشبه "الدولة العميقة" داخل مؤسستي القضاء والشرطة، وبدأت في اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة هذا الأمر، وطفى على السطح الخلاف الكبير بين كولن وأردوغان.
كولن والخدمة:
هو "محمد فتح الله كولن" أحد تلاميذ الشيخ "سعيد النورسي" وأحد رواد الجيل الثاني في الحركة النورسية بعد تفرقها، وهي حركة صوفية نشأت في تركيا، لكن لم يلبث كولن أن استقل عنها وأسس جماعته الخاصة والتي عرفت باسم "الخدمة" أو "حزمت" بالتركية، وباتت تعرف باسم "جماعة كولن"، وقد ميزت الجماعة نفسها عن بقية التيارات الصوفية، وكذلك عن التيارات الإسلامية الأخرى التي تؤمن بشمولية الإسلام، وقد ظهر ذلك جليًا في الخلاف الكبير بين كولن ونجم الدين أربيكان، رائد الحركة الإسلامية في تركيا، وترى الجماعة أن الإسلام ليس أيديولوجية سياسية أو نظام حكم أو شكلاً للدولة، كما أنها تردد دومًا شعار الشيخ النورسي "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم والسياسة".
على الرغم من رؤية جماعة كولن للسياسة إلا أنها لم تبتعد عنها، فقد خاضت الجماعة غمار السياسة بقوة لكن من خلف الستار، عبر التحالفات مع القوى السياسية المختلفة في تركيا، وصارت الجماعة بمثابة شريكة لبعض الأنظمة، بعد الانقلاب العسكري الذي حدث في عام 1980، إذ رأت فيه قيادة الجيش الانقلابية بديلاً عن ما تسميه "الإسلام السياسي"، وتعمقت تلك الشراكة بعد الإطاحة بنجم الدين أربيكان في عام 1997، ودعمت الجماعة حزب "الوطن الأم" وحزب "اليسار الديمقراطي" الذي كان يتزعمه بولنت أجاويد الذي قال عنه "لو كان لي حق الشفاعة في الآخرة لاستخدمتها لأجاويد"، فيما نأت الجماعة بنفسها عن دعم الأحزاب التي أسسها "نجم الدين أربيكان"، بل كانت تقف دائمًا في صف الانقلابات العسكرية التي أطاحت به.
مشروع الجماعة:
للجماعة مشروع لم تعلن عن غايتها منه بعد، إنه مشروع للتمكين، لكن ماذا بعد التمكين؟ ماذا تريد؟ كل هذه الأسئلة لا يجد المختصون إجابة لها، فعلى سبيل المثال رغم أنها جماعة إسلامية إلا أنه لم يثبت أنها احتجت مرة واحدة على حظر ارتداء الفتيات الحجاب في الجامعات، وفي الوقت الذي كان المنتمون للتيار الإسلامي يحتجون على ذلك الحظر، كان كولن يطلب من الفتيات خلع الحجاب لمواصلة دراستهن، ويقول إن قضية الحجاب ليست من أصول الإسلام، بل هي قضية فرعية، كما أنها خلافًا عن كل الجماعات الإسلامية الأخرى ترى أن المقاومة الفلسطينية "تنظيمات إرهابية"، وترفض سياسة أردوغان الخارجية بالانفتاح على العالم العربي، متجاهلة أن المسلمين جميعًا أمة واحدة.
وفي سبيل تحقيق الجماعة لمشروعها الغامض، فإنها تتوغل منذ فترة طويلة في أجهزة الدولة ومؤسساتها، وخاصة مؤسستي الشرطة والقضاء، حتى صارت الجماعة تشبه ما يمكن تسميته "الدولة العميقة" أو "دولة داخل دولة"، وساعد الجماعة في تحقيق هذا بعدها عن ممارسة العمل السياسي بصفة رسمية، حتى أنه سرب تسجيل للقاء جمع كولن مع بعض قيادات جماعته، يحدثهم فيها عن ضرورة التخفي للسيطرة على جميع الأجهزة والمؤسسات المهمة، ومن بين ذلك "شراء قضاة" ليحكموا لصالحهم في المحاكم، وقد أثارت بعض القوى العلمانية هذه القضية منذ سنوات، حتى ألف بعضهم كتبًا لكشف مخططات الجماعة، إلا أنها نفتها نفيًا قاطعًا.
مع بروز نجم حزب العدالة والتنمية في عام 2002 تحالفت الجماعة مع الحزب، وحصل كل منهما على مكاسب من هذا التحالف، فمن ناحية دخل بعض أعضاء البرلمان على قوائم الحزب، فيما حصل الحزب على أصوات الجماعة وتقدر بـ 2% إلى 5% من الأصوات وكذلك دعمها الإعلامي، وظل ذلك التحالف قائمًا لعدة سنوات، إلى أن بدأ الصدام بين الجانبين، عقب محاولات الجماعة فرض وصاية على الحكومة، والمطالبة بنوع من الامتيازات بعد أن شعرت أنها صار يمكنها فرض ما تريد على الحكومة بما حققته من توغل في أجهزة الدولة، حتى وصل الأمر إلى أن طلبت من الحكومة أن تترك لها أجهزة الشرطة والاستخبارات وتهتم بالسياسة الخارجية، كما طلبت من الحزب 150 مقعدًا في البرلمان، وهو رقم لم تكن الجماعة لتحصل عليه إذا دخلت الانتخابات بصفة رسمية.
عندما شعرت حكومة أردوغان بهذا الاستفزاز بدأت في تقليم أظافر الجماعة التي رأت أنها شبت عن الطوق وبدأت تمارس ما لا يحق لها، ولا يحق للحكومة أن ترضخ لها وهي المخولة بحماية وإدارة الدولة، وهي المسؤولة أمام مواطنيها عن أي خلل أو تقصير، وبدأت الحكومة في ذلك وفق خطة ممنهجة في عام 2011، ومنذ ذلك الحين والجماعة تتحين الفرصة لرد الصاع لحكومة أردوغان، حتى جاءت اللحظة المناسبة التي ظنوا فيها أنهم سيوجهون ضربة قوية لأردوغان بمحاكمة رئيس استخباراته وذراعه القوي "هاكان فيدان" بدعوى إجرائه مفاوضات مع حزب العمال الكردستاني باعتبار ذلك أمرًا خارجًا عن اختصاصه، إلا أن السبب الأساسي وراء استهدافه هو دوره في مواجهة نفوذ الجماعة ومشروعها في التغلغل في مؤسسات الدولة.
تنبه أردوغان للخطة مبكرًا وأجهضها سريعًا بتعديل قانون جهاز الاستخبارات، ليحمي رجله القوي في المخابرات، ثم تبين له وقوف الجماعة وراء تلك المؤامرة، فازداد إصرارًا على تحجيمها وحرمانها من كل مصادر النفوذ، فقرر بعد عدة أشهر إغلاق المدارس التحضيرية التابعة للجماعة، وهي الذراع الطولى للجماعة التي تدر عليها أموالاً طائلة، فجاء الرد من الجماعة قويًا بفتح ملفات الفساد الأخيرة، والتي كان يراد لها أن تكون عملية انقلاب قضائي تطيح بحكومة أردوغان.
صمود أردوغان وتجاوز المحنة:
تلقت حكومة أردوغان صدمة ملفات الفساد بشيء من الهدوء سرعان ما تحول إلى هجوم شرس على جماعة كولن، فقد قامت الحكومة خلال أيام قليلة بإقالة ونقل أكثر من 500 ضابط شرطة ينتمون للجماعة في العديد من المحافظات، تلاها فتح ملفات المدعين العامين، وخاصة المدعي العام الذي فتح التحقيق في القضية، وكشفت عن بعض التحركات والأسفار المريبة له وعلاقته بالإمارات، ثم قدمت مشروع قانون للبرلمان لإجراء تعديل على عمل القضاء التركي، حتى تضمن التصفية التامة لكل أنصار الجماعة ونفوذها داخل مؤسسة القضاء وبالتالي مؤسسة الشرطة.
وعلى الرغم من الآثار السلبية التي تلت فتح ملفات الفساد والتي بلغت عشرات المليارات من الدولارات وانخفاض قيمة العملة التركية، إلا أن الصلابة التي ظهرت بها الحكومة بعد ذلك، ورسائل الطمأنة التي أرسلتها للمستثمرين من خلال عقد اجتماعات معهم، وما أضحته الحكومة للمستثمرين من خطورة وجود تنظيم داخل السلك القضائي على مصالحهم، إجراءات من شأنها تخفيف حدة قلقهم وبالتالي تخفيف من حدة الخسائر.
مستقبل الصراع:
بات اللعب الآن على المكشوف بين حزب العدالة والتنمية وجماعة كولن، فكل منهما يسعى للخلاص من الآخر، وبات الصراع شبه صفري، بعد أن تبين كل طرف نوايا الطرف الآخر وكشف مخططاته، فالجماعة بعدما وجهت ضربتها للحكومة بدت وكأنها صدمت من رد فعلها والإطاحة بالكثير من رجالها في القضاء والشرطة، والتصريحات العلنية للمسؤولين في الحكومة ضد الجماعة، وعلى رأسهم رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، وإن الحكومة التي استطاعت خلال عقد واحد التخلص من سطوة العسكر ومحاكمة جنرالاته، لن تسمح لأي تنظيم آخر أن يحل محله بشكل آخر.
يمكن القول أن الحكومة التركية حتى الآن في موقف قوي، استنادًا إلى الإنجازات الهائلة التي حققتها خلال العقد المنصرم، وشعبيتها الحقيقية في الشارع، خاصة أن العامل القوي في المعادلة لم يعد لديه استعداد للدخول في غمار السياسة من جديد، وأعني بذلك الجيش التركي، بعد سلسلة المحاكمات التي طالت عددًا من قياداته المتقاعدين وغير المتقاعدين بتهم الانقلاب أو محاولة الانقلاب، حيث أعلنت قيادة الجيش أنها ستلتزم بالبعد عن السياسة وعدم المشاركة في الصراع السياسي الحالي، وهو أمر ربما شكل صدمة أخرى لجماعة كولن والقوى الداعمة لها.
الجماعة والخسارة الفادحة:
لقد منيت الجماعة حتى اللحظة بخسارة فادحة، إن لم يكن بيدها أوراق خفية تلعب بها، لأن الصراع العلني جعل العين مفتوحة على الجماعة ونشاطاتها وتغلغلها في مؤسسات الدولة، وهو أمر لا يمكن القبول به في أي نظام ديمقراطي حقيقي، وحتى القوى العلمانية الداعمة للجماعة في صراعها الحالي مع أردوغان، أو الجيش المعتزل السياسة لن يقبلوا وجود نفوذ للجماعة في مؤسسات الدولة، وسينقلبون عليها حال وصولهم للسلطة كي لا تفعل معهم ما تفعل مع أردوغان اليوم، فلا هي قبلت بوضعها في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية ولا هي تضمن استمرار التحالف وعدم الصدام مع القوى العلمانية حال وصولها للسلطة.
-------------
نشر اولا بموقع "قاوم"
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: