إفلاس الاقتصاد المصري بين التخويف المغرض والتطمين المخدر
يحيي البوليني - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
المشاهدات: 5114
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
منذ اللحظة الأولى التي تم فيها الاستفتاء , ومنذ اللحظة التي بدت فيها ملامح هدوء واستقرار نسبيين لم تشهد مثلهما الحالة المصرية منذ اندلاع الثورة قبل عامين, فمنذ ذلك الحين بدأت أصوات معروفة بحرصها على عرقلة أي مظهر للتهدئة , فقامت ببشاعة إعلان عام بان مصر على شفا الإفلاس الاقتصادي مستغلة قدرتها على الوصول والتأثير في قطاعات عريضة من الشعب المصري عن طريق وسائل إعلام هي نفسها التي استغلت في إشعال الموقف الداخلي المصري كثيرا خلال كل الأحداث السابقة .
وبالنظر إلى تلك الدعوى التي انطلقت في آن واحد بدا متسقا ويوحي بأنه متفق عليه من القنوات والوسائل الإعلامية التي اصطلح عليها بمصطلح " إعلام الفلول " نسبة لأغلب مالكيها من رجال الأعمال المحسوبين على النظام السابق والمتحكمين في جزء لا يستهان به من الاقتصاد المصري كما ينسب لكثير منهم تورطهم في قضايا فساد مالي وذلك منذ عهد المخلوع وللآن .
واللافت أن انطلاقتهم الموحدة لإثارة فزع العامة من أفراد الشعب أو المستثمرين لم تنطلق من وجهة نظر اقتصادية بل كان التفسير الأكثر قبولا لدى الكثيرين أنها وجه آخر من وجوه معركة النظام القديم وتصفية لحساباته مع النظام الجديد للدكتور مرسي وخاصة أن الأخير لم يتخذ قرارا اقتصاديا وصف بأنه سلبي أو مؤثر تأثيرا تراجعيا على الاقتصاد أو الاستثمار , والقرار الوحيد الذي اتخذه وكان يمكن أن يكون له تأثير سلبي على الاقتصاد والاستثمار وهو الخاص برفع بعض نسب الضرائب على بعض المنتجات ورفع الدعم عن نوع من الوقود خاص بالأثرياء تراجع عنه وألغى القرار الذي أصدرته حكومته .
ومن المتفق عليه بين كل جموع الشعب المصري بل وبين الأصوات الخارجة من تلك الوسائل الإعلامية أن مرسي ورث تركة مثقلة بالهموم والمشكلات الاقتصادية والتي تحتاج لوقت طويل جدا حتى يمكنه معالجة أثاراها وبداية البناء الاقتصادي الحقيقي للدولة المصرية بل وتعتبر المنادة بظهور أثار لإصلاحات اقتصادية جوهرية ومؤثرة ويشعر بنتائجها المواطن البسيط يعد في نظر كبار الاقتصاديين نوعا من الأحلام في الوقت الحاضر , وإنما يكون أقصى آمال الاقتصاديين العالمين أن يتم وقف التدهور الاقتصادي ويحاول أن يجعل النظام الاقتصادي يخرج من طور التراجع إلى حد الثبات على الأكثر .
حقيقة المشكلة الاقتصادية
ولم تكن المشكلات الاقتصادية التي ورثها مرسي وحكومته من جراء السنين الطويلة من الفساد الاقتصادي في عهد مبارك فحسب بل جاءت إلى الاقتصاد المصري ضربة أخرى شديدة في عهد المجلس العسكري الحاكم بقيادة المشير الذي طنطاوي الذي أزاحه مرسي .
فعندما عُرضت الموازنة العاملة للدولة للعام المالي 7/2012 : 6/2013 والمقدمة من حكومة الجنزوري على مجلس الشعب السابق – الذي عارضته الوسائل الإعلامية لغالبية الإسلامية وتمكنت من إسقاطه فيما وصف بالمؤامرة بين المحكمة الدستورية والمجلس العسكري بمباركة الوسائل الإعلامية الفلولية – رفض مجلس الشعب إقرارها واعتمادها لوجود أخطاء جسيمة بها ولعدم تحقيقها لأهداف الثورة , فقام المجلس العسكري وفور تسلمه الصفة التشريعية بعد حل مجلس الشعب باعتماد تلك الميزانية لكي تقع كل حكومة بعد ذلك في تخبط شديد فالموارد تتم توجيهها وإنفاقها وفقا لرؤى وأهداف مختلفة تماما لاحتياجات المواطنين , وبالتالي كثرت مطالب المواطنين من الحكومة بضرورة توجيه الموارد لمعالجة مشكلات الناس فوجئت الحكومة بان كل الموارد قد تم توجيهها وعليها العمل الحالي على إيجاد أو استحداث موارد تستطيع مواجهة متطلبات المصريين منها مما دفعهم في التفكير في الاستدانة من صندوق النقد الدولي الذي دائما ما يشترط شروطا شديدة للإقراض أهمها رفع الدعم عن بعض المنتجات مما يضع الحكومة بين خيارين أحلاهما مر , إما مواجهة الشعب والضغط عليه بتنفيذ شروط صندوق النقد , وإما مواجهة الشعب بعدم توفير الموارد لمتطلباته , وهذا مما استغله جيدا هؤلاء الإعلاميون ليثبتوا فشل الحكومة الحالية وليحرجوها شعبيا .
ولن تستطيع الحكومة الحالية – مهما كانت هذه الحكومة أو توجهاتها - إلا تسكين الأوضاع حتى تأتي الموازنة الجديدة في شهر يوليو 2013 , ليتم توجيه الإيرادات للدولة للجوانب الأكثر إلحاحا والأشد حاجة وتلامسا لمصالح اكبر قدر من الناس , وهذا العامل – عامل الوقت – هو الذي يحاول مرسي والحكومة أن تثبت كل الأمور وتحافظ على استقرارها مع مروره بينما تزداد الهجمات من الإعلام الفلولي شراسة كلما اقتربت هذه السنة المالية من الانتهاء , مما يفسر وجود حالات التشنج والتعصب في الإعلام الخاص كلما مر الوقت .
والأزمات الاقتصادية التي تواجهها الإدارة المصرية ناتجة عن سبب أساسي وجوهري وهو فترة حكم مبارك وسبب آخر مكمل له , ففترة مبارك هي الفترة التي امتلأت بالفساد المالي والإداري حتى صار الفساد أصلا من أصول التعاملات الكبيرة , فارض الدولة التي يملكها المواطنون وزعت على دائرة محدودة جدا بأبخس الأثمان , ثم أعيد بيعها بأعلى سعر متاح ليحقق كل منهم مليارات من الجنيهات , ولم يترك باب من أبواب السرقة والنهب إلا واستغل أسوأ استغلال , وتم تجريف الثروات الطبيعية المصرية التي لم يكن يعلم عنها المواطن المصري شيئا لصالح نفس المجموعة الصغيرة العدد التي تحكمت في حوالي 90% من الاقتصاد المصري , وما الحرب الدائرة الآن بين زعماء الفلول والنظام المصري إلا حرب اقتصادية في المقام الأول فسيل السرقات أصبح مضيقا عليه ووجد نائب عام جديد يفتح الملفات المغلقة المسكوت عنها .
اما السبب المكمل له فهو استكمال لمسلسل الفساد بصورة متعمدة في الفترة التي تلت الثورة والتي حاول فيها بعض من رجال الأعمال الفاسدين ان يساهموا في كوارث اقتصادية جديدة مثل سرقات منظمة للوقود المدعم والتخلص منه ولو بسكبه في الصحراء وذلك في غياب متعمد أيضا من الشرطة التي تسبب غيابها أيضا في أزمة أمنية لا يكاد يشعر المواطن فيها بالأمن على نفسه وممتلكاته بسبب جيوش البلطجية المنظمين المنتشرين في كل مكان , وذلك لإيجاد أزمات متلاحقة تضغط على الشعب الذي لا يستطيع أن يعي كل هذه المؤامرات وبالتالي يفتح سمعه وعقله فقط لإعلام الفلول الذي يصور لهم أن الحكومة الجديدة لم ولن تفعل شيئا .
حرب الدولار والتخويف المغرض
وتطورت الحرب بعد الاستفتاء بمحاولة استثارة الشعب كله على الحكومة وذلك بشن حرب جديدة وقوية تصل إلى حد الشراسة الحقيقية يمكن ان نسميها بحرب الدولار التي لم ينظر فيها هؤلاء إلى مصلحة البلاد ولا الشعب كما لم يشغلهم ان ما يفعلونه يسقط مصر وليس نظامها الحاكم فحسب , وكان هدفهم النهائي منها ان ترتفع الأسعار ارتفاعا جنونيا يسهل بعده استثارة الناس وخروجهم بثورة شعبية جائعة على نظام الرئيس مرسي .
فمعلوم ان غالبية أسعار السلع المصرية ترتبط ارتباطا وثيقا بسعر صرف الدولار داخل مصر مقارنة بالجنيه , فما من سلعة في السوق المصري إلا وتستورد بالكامل أو تستورد أجزاؤها أو موادها الخام أو آلاتها أو تستورد سلعتها المكملة أو البديلة , فاي ارتفاع في سعر الصرف للدولار سيؤثر يقينا على غالبية الأسعار , وسيقل الدخل الحقيقي للناس ويزداد سخطهم ونقمتهم في ظل تغذية دائمة من الإعلام على اختيارهم لمرسي بل ربما على الثورة عموما على نظام مبارك .
وبدأت الخطة بإشاعة استقالة محافظ البنك المركزي لعدم قدرته على توفير مرتبات الموظفين للشهر المقبل , ثم لحقتها إشاعة أخرى ان مصر مقبلة على إفلاس حقيقي لن تستطيع فيه البنوك رد مودعات المواطنين والشركات , وصوروا للناس ان الحل الأسلم هو سحب مودعاتهم من البنوك وتبديلها في صورة عملة أجنبية لضمان ثبات قيمتها , فهرع الكثيرون للوقوف بالطوابير أمام البنوك لسحب مدخراتهم ونشطت سوق سوداء للدولار , وأكملوا الخطة بطلب كبار المودعين تحويل أموالهم لدولارات وطلب سحب إيداعاتهم من البنوك فتسببوا بالفعل في إيجاد جو من الشك والريبة نحو الأداء المصرفي المصري , وساعدهم بصورة مباشرة تخفيض ثلاث مؤسسات مالية دولية للتصنيف الائتماني لمصر إلى B- وهو الذي يعني للمستثمرين الأجانب والمواطنين أيضا أن مصر أضحت قريبة جدا من عدم تمكنها من الوفاء بالاستحقاقات الخارجية عليها , فاستثمرت تلك الوسائل الإعلامية هذه التقارير في بث الرعب في النفوس .
وجاء حل عبقري لهذه الأزمة – بعد فضل الله سبحانه – عن طريق الدعوات الكريمة من المصريين في الخارج وأيضا من محبي مصر من أشقائها العرب كأفراد ومجموعات في ضخ دولارات داخل الدولة المصرية حتى يمكنها السيطرة على سوق الدولار السوداء ومن خلال إجراءات مصرفية عاقلة وهادئة حجمت كمية السحب اليومي للمدخرات أو التحويل للدولار , فتمت السيطرة نوعا ما على سعر الدولار مرة أخرى إلا انه في الحقيقة قد ارتفع عما كان من قبل .
هل ستفلس مصر ؟
رغم ان هذا السؤال قد أثير كثيرا في الفترة السابقة إلا انه سؤال يتسم بكونه إما ساذجا أو مغرضا , فاصغر وأفقر دولة لا يمكن ان يشهر إفلاسها بمجرد تعرض اقتصادها لخلل أو مشكلة , وان دولة بحجم مصر التي تمتلك من الموارد الطبيعية الكثير جدا ومن الموارد البشرية أكثر من تسعين مليونا داخلها غير الكفاءات المتميزة في خارجها , وان دولة بحجم مصر وتاريخها وجغرافيتها وممتلكاتها ومؤسساتها لا يمكن ان تسقط بهذه السهولة أو السرعة .
ولكن في ذات الوقت لا يعني هذا أنها محصنة من الوقوع في المشكلات الاقتصادية , لان كل دولة من دول العالم معرضة في وقت من الأوقات للوقوع في مشكلة أو مشاكل اقتصادية سواء كانت تلك الدولة دولة كبرى أو نامية , فلا توجد تقريبا دول في العالم غير مدينة لغيرها , ومعظم الاقتصاديات في العالم تعاني مشكلات ولا تدل تلك المشكلات عن قرب إفلاس أو سقوط تلك الدول فالاقتصاد الأمريكي يعاني مشكلات ضخمة وكذلك اقتصاديات كثير من الدول الأوروبية وبالمثل فإيران تعاني منذ فترة طويلة من مشكلة اقتصادية في عملتها التي تنخفض قيمتها باستمرار , وكذلك أكثر دول أفريقيا واسيا وأمريكا الجنوبية ولا يعني ذلك مطلقا احتمالية تعرض دولة لشبح الإفلاس .
وبمثل هذه يعبر أكثر الاقتصاديين خبرة ودراية فيقول السفير جمال بيومى أمين عام اتحاد المستثمرين العرب : " ان المرددين لمقولة إفلاس مصر لا يفهمون شيئا في علم الاقتصاد , فمصر أغنى ثالث دولة عربية وأغنى دولة في شمال إفريقيا بمعيار القوة الشرائية للناتج القومي " , ووافقه الرأي الكثيرون مثل وزير المالية السابق ممتاز السعيد وهشام رامز الخبير الاقتصادي والرئيس التنفيذي بالبنك التجاري الدولي ونائب محافظ البنك المركزي والخبراء الاقتصاديون دكتور حمدى عبد العظيم ود. رشاد عبده و د. أسامة عبد الخالق وكذلك الدكتور صلاح الدين فهمي رئيس قسم الاقتصاد بكلية التجارة بجامعة الأزهر .
وجاءت نفس نتيجة التوقعات المبنية على اسس علمية سليمة من خبراء عالميين مثل د."بول كروجمان" خبير الاقتصاد الأمريكي المعروف وكذلك مجموعة أكسفورد العالمية للأعمال على لسان " روربرت تاشيما " مديرها الإقليمي .
التطمين المخدر
وعلى الرغم من هذه التطمينات الصادرة من أهل الاختصاص إلا انه لابد وألا يتخدر الشعب المصري بها , فالاقتصاد المصري بالفعل يمر بأزمة كبيرة لها إبعاد سياسية متشعبة , فما بين أعداء حقيقيين لمصر الإسلامية من الداخل والخارج , وأعداء حقيقيين لمصر تحت حكم نزيه في الداخل وتعينهم جهات من الخارج , وبين أعداء حقيقيين للتجربة الثورية يتمنون وأدها خوفا من انتقال العدوى الثورية ونجاح التجربة , وبين أعداء عالميين للنظرية الإسلامية التي يخشون نجاحها ويمنون إفشالها بأية طريقة واستعادة الشعب المصري لأحضان النخب العلمانية لتعبث بعقيدته كما شاءت .
ان كثرة هؤلاء الأعداء لابد ان تجعل المصريين لا يثقون إلا بالله أولا فهو القائل – ولو كره الكارهون – " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " , وان يثقوا ثانيا بقيادتهم المنتخبة انتخابا شرعيا وتحاول ان توقف قطار النهب السريع الذي كان يتجول بكل حرية في خيرات مصر , وان يتوجهوا للعمل الجاد المنتج المثمر ومن أهمه الأعمال الأساسية كالزراعية والصناعية وصيد الأسماك – فمن غير المقبول أن دولة تمتلك شواطئ على بحر من الشمال وبحر من الشرق ونهر يقطعها طولا ولا تصطاد ما يكفيها بل وتكون من أوائل الدول في العالم تصديرا للأسماك ومنتجاتها , وكذلك يجب الاهتمام بالأعمال الذهنية المنتجة كالابتكارات والمخترعات وتشجيع أصحابها والاستفادة بالموارد الطبيعية كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح والاستفادة من الطاقة البشرية الهائلة في استزراع اكبر قدر ممكن من الأرض , وذلك يقدم على الاهتمام بالأعمال الصناعية التحويلية التي تحتاج لوقت وإمكانيات ربما توفر لاحقا , وعليهم كذلك أن يتفهموا حقيقة هذا الإعلام الفاسد المروج للاشاعات الذي لا يهمه مصلحة مصر ولا المصريين وان كل ما يهمهم هو مصلحة من يدفعون لهم من كبار المنتفعين بعصر مبارك .
إن الاقتصاد المصري اقتصاد واعد بإذن الله لكنه يحتاج بعد عون الله سبحانه لسواعد أبنائه داخل مصر وخارجها مع تقديم الشكر لأبناء مصر الحقيقيين الذين لم يتركوها في محنة وكذلك الشكر للدعاة والشيوخ من الأفاضل من غير المصريين الذين أدركوا خطورة ما يحدث فدفعوا الناس وتقدموا بمبادرات لإنقاذ اقتصاد مصر فجزاهم الله خيرا
----------
المصدر : مركز التاصيل للدراسات والبحوث
5-03-2013
|