د - أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4866
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
اعترافات علماء الاجتماع: الحلقة الثانية عشر
يُدرِك رِجال الاجتماع في بلادنا أنَّ الإسلام يقدِّم تصورًا معرفيًّا لتفسير العالم الاجتماعي، وأنَّه لا يمكن تصوُّر استقلاليَّةٍ لهذا العالم إلا في حُدود (المشروع الرباني) الذي يمنحه إيَّاها - هكذا قالوا بنصِّ عباراتهم - كما يُدرِكون أيضًا أنَّ هذا الإسلام يُشكِّل نمطًا للبناء الاجتماعي، وإطارًا مرجعيًّا يلجأ إليه الناس بطريقةٍ تلقائيَّة للتفكُّر في هذا العالم الذي يعيشون فيه.
ويرفُض عِلم الاجتماع ذلك لأنَّه يريدُ أنْ يقدِّم معطيات الحياة الاجتماعيَّة من عنده تحت غِطاء تعرية هذه المُعطَيات؛ ولهذا السبب كان انتقاد علم الاجتماع للدِّين جزءًا لا يتجزَّأ من طبيعة تكوينه، وكان صِدامه مع الدِّين أمرًا لا مفرَّ منه، وإذا التقيا فإنَّ التقاءهما لا يمكن أن يتمَّ إلا عبر صِراعات.
يقول محمد شقرون أستاذ الاجتماع في جامعة محمد الخامس بالمغرب: "تدخُل السوسيولوجيا في هذا المجال في صِدامٍ مع الدِّين، إنها تصطدم به من جهة؛ لأنَّ الدين يُشكِّل نمطًا للبناء الاجتماعي للواقع، ونسقًا مرجعيًّا يلجأ إليه الفاعلون الاجتماعيُّون بكيفيَّة تلقائيَّة لتفكُّر العالم الذي يَعِيشون فيه، ويُشكِّل هنا انتقاد الدِّين جزءًا لا يتجزَّأ من تعرية المعطيات التلقائيَّة للتجربة الاجتماعيَّة؛ حيث تكون الوقائع السوسيولوجية ملتصقةً، وتُشكِّل هذه التعرية نقطةَ عبورٍ لا مفرَّ منها في عمليَّة مَوْضَعة هذه المعطيات.
وتلتَقِي السوسيولوجيا بالدِّين كذلك في الوقت الذي يُعتَبر الدِّين تصورًا عِرفانيًّا لتفسير العالم الاجتماعي، والذي لا يمكن أنْ يتصوَّر استقلاليَّة لهذا العالم إلا في حُدود المشروع الرباني الذي يمنَحُه إيَّاها؛ لهذا فإنَّ التِقاء السوسيولوجيا بعِلم اللاهوت لا يمكن أنْ يتمَّ إلا عبر صِراعات"[1].
يريدُ رِجال الاجتماع في بلادنا إخْضاعَ الدِّين لتحليلاتهم وتفسيراتهم وتصوُّراتهم.
وفي أذهانهم اعتقادٌ خاطئ بأنَّ الدِّين كان ولا يزال يُنافِس العلم في العالم العربي، وغابَ عنهم تمامًا أنَّ الدِّين والعلم في الإسلام مُتَساندان وليسا في تَصارُع وصِدامٍ كالحال في بلاد الغرب.
ويُعبِّر محمد شقرون عن هذا الاعتقاد الخاطئ فيقول: "إلاَّ أنَّه لا يمكن أنْ نتجاهَلَ الإشارة إلى هذا الصراع الأوَّلي عندما نتكلَّم عن الشروط التي جعل العلم فيها الدِّين موضوعًا له؛ لأنَّه قبل أنْ يصبح الدِّين موضوعًا من بين مواضيع السوسيولوجيا فإنَّه كان المنافس لها وما زال يُنافسها في مجتمعاتنا العربيَّة الحديثة العهد بالعلم الحديث"[2].
انبِثاقًا من هذا التصوُّر الخاطِئ بتَصادُم الدِّين والعلم في بلادنا قِياسًا على ما تعلَّمَه هؤلاء من الغرب، فإنهم قد أعلنوا ثورتَهم على عقيدة الإسلام صَراحةً، ووقوفَهم إلى جانب العلم تمامًا، وقالوا: إنهم إذا خُيِّروا بين عقيدة تحدِّد لهم أصل الإنسان ومصيره وعلة وجوده، وبين علمٍ يقدم لهم ما يتصوَّرونه أنَّه معارف وحقائق متاحة أمامهم - فإنهم سيَختارُون طريق العلم، بالرغم من اعترافهم بأنَّ إسهام الأخير إسهامٌ محدود.
يقول محمد الجوهري أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة[3]: "... ومن الممكن أنْ نجيب على هذا السؤال: ... الأشياء التي يقدر الإنسان على تحقيقها، وما هو مَدَى قُدرتها على التكيُّف بطريقتين مختلفتين الأول (كذا): على أساس عقيدة دينية أو دنيوية تحدِّد لنا المسائل المطلقة والنهائية في حياة البشر، عقيدة تحدِّد لنا أصل الإنسان ومصيره وعلة وجوده... إلخ.
والطريقة الثانية: أنْ نجيب على أساس المعارف والحقائق العلمية المتاحة لنا، وفي الحالة الثانية يتحتَّم علينا الإقلاعُ تمامًا منذ البداية عن محاولة الوصول إلى أيِّ إجابةٍ عن مثل هذه التساؤلات النهائيَّة والمطلقة، ونقصر أنفسنا على كلِّ ما هو مُتاح (إمبيريقيًّا)[4]؛ أي: ما يمكن أنْ نتوصل إلى إدراكه من الواقع، ونستطيع تحليله تحليلاً مفهومًا مقبولاً، ومن الواضح أنَّنا - المشتغِلين بالعلم - لا نفكر سوى في هذا الطريق الثاني، طريق العلم والتأسيس على العلم.
كما أنَّنا لا نستطيع كمُتخصِّصين اجتماعيين أنْ نقدِّم في هذا الطريق سوى إسهامًا محدودًا، وهذا قيد نعرفه ونُسلِّم به منذ البداية".
لم يكتفِ رجال الاجتماع في بلادنا بناءً على هذا التصوُّر الخاطئ بتصادُم الدِّين بالعلم بإعلان ثورتهم على عقيدة الإسلام، ولكنَّهم اتَّجهوا أيضًا إلى مُهمَّة أخرى؛ وهي: تفكيك الدِّين سعيًا وراء وهْمٍ اسمه (استقلاليَّة العلم)، أو بمعنى آخَر: الانفراد بتفسير شؤون الحياة الاجتماعيَّة وفصلها تمامًا عن الدِّين.
تصوَّر رجال الاجتماع أنَّ ممارستهم لهذا العلم لن تتحقَّق، ولن تتمَّ إلا إذا طرحوا قضيَّة تفكيك الدِّين بِجُرأة وصَراحة كضرورةٍ واضحةٍ لهذه الممارسة المزعومة.
يقول محمد شقرون: "إنَّ ضرورةَ تفكيك الدِّين من أجل التحرير الضروري لمجال الفكر؛ وذلك لإنتاج تأويلٍ علمي عن الاجتماعي لم تُطرَح بصراحةٍ وجُرأة في الوطن العربي كضرورةٍ واضحة لِمُمارسة العِلم بصفةٍ عامَّة وممارسة العلوم الإنسانيَّة بصفةٍ خاصَّة،، ويرجع هذا بالطبع إلى غِياب حقلٍ علمي يتمتَّع بكامل الاستقلاليَّة عن السياسي وعن الدِّين نفسه"[5].
وربَط رجال الاجتماع بين شرعيَّة ممارستهم للعِلم واستِمرار صِدامهم مع الدِّين لتحقيق هذه الاستقلاليَّة التي يطمَحُون فيها، إلا أنهم رأوا أنَّه يمكن أنْ يقبلوا بين صُفوفهم - تواضعًا - أي عالم مؤمن شريطة ألا يتحدث عن إيمانه، وبهذا كان إقصاء الدِّين شرطًا ضروريًّا لممارسة العلم.
يقول محمد شقرون: "وما زالتْ شرعيَّة العمل العلمي مضمونة بالإحالة إلى هذا الصِّراع من أجل استقلاليَّة المعرفة العلميَّة، يقبل عالم مؤمن في مجموعة العلماء شريطة ألاَّ يتحدَّث عن إيمانه.
إنَّ كبر سنِّه وشهرته هما اللذان يَسمَحان له بـ(اعترافات) ذاتية بعيدة عن الممارسة العلمية"[6].
ولو توقَّف طُموح رجال الاجتماع في بلادنا عند حدِّ السعي لاستقلاليَّة العلم لهانَ الأمر، لكنَّهم لا يكتَفُون بذلك، بل جعلوا مهمَّة تفكيك الدِّين - كما أوضحنا - ضرورةً لتأويل وتفسير الحياة الاجتماعية وفقًا لترَّهاتهم التي يُطلِقون عليها (علمًا)، إنهم لا يُكنُّون أيَّ احترامٍ للدِّين الذي يريدون التعامُل معه مثلما يتعامَلون مع أيِّ وقائع أخرى، وما زالوا يصرُّون على التمسُّك بأسطورة (العقلانية) رغم اعترافهم - كما أوضحنا سابقًا - بسقوطها وإشارتهم هنا على استِحياء بأنَّ هذه العقلانيَّة عليها مَآخِذ.
يقول محمد شقرون: "وطموح السوسيولوجيا الدينية يمكن تعريفُه في هذا الإطار مهما تكن المآخِذ على العقلانية العلمية.
ويمكن تلخيصُ هذا الطموح بكيفيَّةٍ بسيطةٍ: إنَّ الأمر يتعلَّق فقط بمعاملة الوقائع الدينيَّة كما تعامل الوقائع الاجتماعية الأخرى من الناحية السوسيولوجية؛ أي: بِناءً هذه الوقائع وتصنيفها ومقابلتها ومعالجتها بمفهومي العلاقات والصراعات"[7].
ينتظر رجال الاجتماع في بلادنا ما يُسمُّونه بـ(تراجع الدِّين)، يأمُلون أنْ تأتي العقلانية - رغم اعترافهم بفشلها - بثِمارها مثلما حدَث في الغرب.
يتوقَّعون مواجهةً منسجمة بين الدولة والإسلام مثلما حدث بين الدولة والكنيسة في الغرب.
يطمحون أنْ تسجل بحوثهم شَهادةً على تَراجُع الدين، ممثَّلة في قلَّة الممارسة الدينيَّة وتطبيق الفروض الدينيَّة، وتفكُّك الشعائر الدينية تحت ضغط التمدُّن والتصنيع مثلما حدث في الغرب.
يُشكِّل هذا التراجُع الذي يَطمَحون إليه بالنسبة إليهم أفقًا فكريًّا وثقافيًّا يسمَحُ لهم بالعبث في النسيج العقَدِيِّ لبلادنا وتخريبه.
لا يُرِيد رجال الاجتماع في بلادنا أيَّ مقاومة من علماء الدِّين لِمُواجَهة هذا التخريب، ويسعَوْن إلى الانفِلات من قبضتهم مثلما أفلت الغربيون من ضغوط الكنيسة، إنَّ نجاحهم في الإفلات من قَبضة علماء الدِّين سيَسمَح لهم بعملٍ مميَّز في علم الاجتماع؛ ألا وهو (نقْد الدين) الذي يُمثِّل أوَّل خطوة في تفكيك الدِّين.
يقول محمد شقرون: "وإذا كان الإرث الفلسفي للعقلانية قد أثَّر في تطوُّر السوسيولوجيا الدينيَّة في المجتمعات المتقدِّمة الغربيَّة، فإنَّ ذلك يَرجِع إلى التجانُس الخاص بتاريخ المواجهة بين الكنيسة والدولة في هذه المجتمعات من جهةٍ، ويرجع ذلك من جهةٍ أخرى إلى كَوْنِ البحوث المقامة حول الوضعية الدينية في هذه المجتمعات قد قدَّمت إثباتًا أساسًا لِمُسلَّمة تراجُع الدِّين في العالم الحديث: قلة الممارسات الدينية، وتطبيق الفروض الدينية، تفكك الشعائر التقليدية تحت ضغط التمدُّن والتصنيع، تقلُّص نسبة الرجال والنساء الذين ينخَرِطون في الرهبانيَّة... إلخ وعمليَّة تراجُع الدِّين الذي هو الأفق الفكري والثقافي الذي تفترضه الحداثة[8] كانت تُشكِّل في هذه البحوث ظاهرة ملاحظة ومقاسة.
من هنا جاءتْ ضرورة إفلات الممارسة السوسيولوجية من تأثير رجال الدِّين، إنَّ هذه الإرادة في الإفلات أو الانعتاق من ضُغوط الهرمية الكنسية ومن احتواء رجال الدِّين، كانت تُمثِّل الشكل الأول لمتطلبات النقد التي تميِّز كلَّ عمل سوسيولوجي"[9].
جاءت الصحوة الإسلامية لتُصِيب أماني وطُموحات رجال الاجتماع في بلادنا في تراجُع الدِّين وأحلام نقده وتفكيكه ثم اختفائه في الصميم، وبيَّنت لهم المآل الحقيقي للحداثة، وأثبتت لهم أنَّ الطريق الذي سلَكُوه ليس طريقًا سهلاً، وفُوجِئ رجال الاجتماع بأنَّ الدِّين بدلاً من أنْ يختفي فإنَّه يُقاوِم ويتحوَّل ويمتدُّ إلى قِطاعات كانوا يُسَيطِرون هم عليها.
أصبح رجال الاجتماع أمامَ هذا الموقف الجديد في موقف الدِّفاع مع المقاومة الشديدة التي واجهَتْهم في ظروفٍ غير مواتية لهم، لكنهم لا زالوا يُصمِّمون على الكفاح من أجل الحِفاظ على ما يُسمُّونه: (الطموح في نقد الدِّين).
يقول محمد شقرون: "إنَّ الأهميَّة القُصوَى التي أصبح يَحظَى بها الحدث الدِّيني في المجتمعات الحديثة في أوساط المهتمِّين بالسياسة وفي أوساط المثقَّفين الذين يتحدَّد دورهم في فهْم مَآلِ الحداثة لا تسهل الوضع الفكري لعُلَماء اجتماع الدِّين تجاه موضوعهم.
فقد بيَّن هؤلاء منذ زمنٍ بعيد أنَّ الدِّين عوض أنْ يختفي يُقاوِم ويتحوَّل ويستولي على موضوعاتٍ جديدة لا صلة لها بالدِّين، وأنَّه بإمكانه أنْ يخلق ما هو جديد، ولكنَّه يبدو أنَّ مجموع هذه الظواهر (المقاومة، التحويل، التعويض، التجديد... إلخ) تأخُذ قيمة جديدة في النظرة السوسيولوجية، فقد أصبحت السوسيولوجيا اليوم وخاصَّة في المجتمعات العربيَّة أمام وضعيَّة الكفاح من أجل الحِفاظ على طُموحها النقدي في ظرفيَّةٍ تتميَّز بتبنِّي كلِّ أشكال المقاومات الدينيَّة واستخدامها لمصلحة اللاعقلانية"[10].
يدرك رجال الاجتماع في بلادنا أنَّ طموحاتهم في نقْد الدِّين وتفكيكه لا تَزال قائمةً ما دامت الدولة تُقاسِمهم هذه المهمَّة وتشترك معهم في التآمُر ضد الدِّين.
تعطي الدولة وزنًا كبيرًا للعلوم الإنسانية لا يُماثِل هذا الوزن الذي تُعطِيه للعلوم الطبيعيَّة، حيث تظهر العلوم الإنسانيَّة أنَّ سلوك الإنسان بما فيه (السلوك الدِّيني) يخضع لتأثير مُعطَيات نفسية واجتماعية، كما تُبَرهن العلوم الاجتماعية وخاصَّة علم الاجتماع وعلم النفس والتحليل النفسي أنَّ القوى والدوافع التي تتحكَّم بالآراء والمعتقدات والإرادات هي قوى ودوافع ذات طبيعة متغيرة تبعًا لدرجة تطوُّر المجتمعات؛ أي: (لا تأثير للدِّين والعقيدة فيها)، وتبين هذه العلوم (للدين) كما يقول فرحان الديك أنَّ الإنسان تابعٌ لنظامٍ اجتماعي يرتبط فيه التفريق بين الدِّيني والدنيوي؛ أي: فصل الشؤون الدنيوية عن الدِّين.
ومن هنا لا نستغرب أن نجد أنَّ عَداء رجال الاجتماع في بلادنا مرتبط ومحتمٍ بعداء الدولة للدِّين التي اتَّخذت منذ زمن بعيد خطوات محدَّدة مهَّدت الطريق لرجال الاجتماع لأداء مهمَّتهم في تفكيك الدِّين، وقد كان أبرز هذه الخطوات الآتي:
أولاً: التركيز على القوميَّة كهدفٍ أعلى وغاية أسمى، والعمل على ترويض الإنسان، ومحاولة الاستِئثار به كليًّا وإبعاده عن الدِّين، مع تشديد الدولة على رَعاياها بالتأكيد على عدم الخلْط بين الدِّين والدُّنيا، وتحرير السلطة السياسية من وصاية الدِّين، وتطوير أخلاقٍ سياسيَّةٍ لا تمتُّ بصلةٍ إلى أيِّ مِعيارٍ سماوي، ولا تترك الدولة للأفراد فرصة اختيار موقف محايد في الصِّراعات الاجتماعية والسياسية القائمة بتطبيقها، بل تصرُّ على مبدأ (مَن ليس معنا فهو ضدنا).
يقول فرحان الديك: "في الماضي غير البعيد بالنسبة إلى المجتمع العربي كان الدِّين الإسلامي يتغلغل كليَّة أو في محمل حياة الفرد وفكره.
وعلى هذا الأساس كانت سِيادته كأفق ثقافي للفرد، لكن عندما حلَّت الدولة بمفهومها الحديث محلَّ الدِّين في مناخٍ صراعي حدَث تنافُس بين الدِّين والمجتمع، فالأمَّة عندما تكفُّ عن الخضوع للدِّين ومنذ أنْ تصبح القوميَّة الهدف الأعلى وتعدَّ الغاية الأسمى تصبح بالضرورة عدوًّا للدِّين، فهي تتطلَّع إلى تَروِيض الإنسان لتجعل منه غرضها وشأنها وإبعاده عن الأجواء التقليديَّة لتستأثر به كليًّا[11].
ثانيًا: تطبيق سياسة العَلمَنَة كتحدٍّ شامل وعام للدِّين خاصَّة؛ لأنَّ الدِّين في الإسلام ليس قضيَّة خاصَّة أو مجالاً أو حيِّزًا محددًا بدقة مستقلاًّ ومفصولاً عن المجالات الأخرى، وإنما يُغطِّي بشمول كبير المحيط العائلي والاجتماعي، والسياسي والقانوني، لا يترك حيِّزًا من الحياة الفردية والجماعية دُون أحكامٍ وقواعد، وتمتدُّ فروعه إلى كلِّ مجال، وتأثيره حاضر باستمرار.
ولتحقيق هذا الاستقلال والانفصال بين شؤون الدُّنيا والدِّين قامت الدولة بما يلي[12]:
1- توطيد المؤسسات العلمانية التي تُؤسِّسها، والتي تأخُذ الطفل والشاب إلى جوٍّ يختلف كليَّة عن جوِّ الأوساط الدينية، وإدخال الفرد في عدَّة جماعات ذات أهداف مستقلَّة لا تفكِّر مطلقًا في الدِّين أو اليوم الآخِر.
وتفرض الدولة على الفرد الانتقال باستمرارٍ من المحيط الديني إلى محيطٍ يجهل كلَّ شيء عن الدِّين، أو يكنُّ له عداءً مكشوفًا، ويتمَركَز أصلاً حول المصالح الدنيوية المادية، إلى أنْ ينتهي الأمر بالفرد إلى اعتبار الدِّين مؤسسة شبيهة بالمؤسسات الاجتماعية الأخرى، لا يكرس له من وقته ونفسه إلا حيِّزًا محدودًا.
2- العمل على تحقيق العَلمَنة الفعليَّة للمجتمع بتأسيس منظمات وجمعيات ثقافية ونقابية وحزبية وتنظيمية (كالنادي الرياضي، أو التنظيم المهني، أو الجماهيري، أو السكني)، تتوسَّط بين الفرد والمجتمع دون ضرورةٍ للمرور على المؤسسات الدينية كما كان الحال في الماضي.
وبتأسيس هذه المنظمات يضعف اعتماد الفرد في تفسير أمور حياته على القِيَم الدينيَّة.
وتتَّسِع هذه المنظمات إلى لا تُقِيم اعتبارًا لقيم الفرد الدينيَّة، ولا تهتمُّ إلا بمصلحة الفرد في ضوء هدفها الذي تسعى إلى تحقيقه، ومن ثَمَّ يتحوَّل الدِّين إلى مسألة خيار شخصي لا يَعنِيها ولا يهمُّها.
3- فصل المجالات الاقتصادية عن الدِّين، بإعادة بناء المجتمع وفقًا لمقتضيات ومتطلَّبات الإنتاج والاستهلاك، بحيث تكون الكلمة العُليا للربح والدعاية والتنافس وتقنيات الإنتاج والتسويق والإدارة، ولا يكون هناك تأثيرٌ مطلقًا للأخلاق الدينيَّة، ويكون القَرار في يد أولئك الذين يملكون سلطة سياسية واقتصادية وسيطرة لا حدَّ لها.
ومن هنا تختلف خيارات الإنسان المرتبطة بتصوُّره وحاجاته عن التصوُّر الذي ينبثق من مبادئ الدِّين وقيمه، بحيث يشتدُّ التركيز على الجانب المادي من الحياة وعلى السعادة الدنيويَّة، دون وضْع اعتبارٍ لقِيَم الدِّين؛ كالقناعة والابتعاد عن الغش والاحتكار... إلخ.
4- التركيز على سياسة تحديد النسل وتدخُّل السلطات الرسمية فيها، وهي تعلم أنَّه مجال يَلقَى معارضة شديدة من الدِّين وعلمائه.
تؤكِّد الدولة للإنسان بأنَّ له حقَّ التصرُّف في جسده، كما تقوم بإدخال معطيات ديموغرافية وفيزيولوجية ونفسية وطبية وسياسية في مسألة الإنجاب، وهي معطيات من شأنها أن تُقوِّض المرتكزات الدينية التي تقوم عليها هذه المسألة.
ثالثًا: تصوير الحضارة الصناعية على أنها حَضارة منافسة للدِّين متحدِّية له بما تُقدِّمه من إمكانيَّات العلم والتقنية، وبتصويرها للإنسان على أنَّه سيِّد للطبيعة، وأنَّ على الإنسان أنْ يتكيَّف لهذه الحضارة بسبلها المادية والفكرية معًا، وهذا يستلزم منه أنْ يُعِيد النظر في أفكاره الدينية التي تكوَّنت عبر مراحل تنشئته الاجتماعية.
وتُؤدِّي هذه العملية إلى أنْ يصبح العالم الفكري للإنسان (عقلانيًّا) فلا يحتاج بالتالي إلى الدين الذي ينظر إلى هذه الحضارة - كما يتصوَّر فرحان الديك - نظرة ترقُّب وتجاهُل.
رابعًا: الاستفادة من انتشار العمران والحراك الجغرافي والاجتماعي بالتأكيد على التجديد والابتكار، وبتعدُّدية المواقف ونسبيَّة الخيارات، كلُّ ذلك بقصْد ألاَّ تنطَلِق المواقف والخِيارات من الدِّين وحده، مع تأكيد النظرة إلى المسجد على أنَّه أحد القِطاعات التي تضمُّها المدينة أو القرية الريفيَّة، والعمل على ألاَّ يختلط المسجد بالحي أو بالوسط الريفي مثلما كان سائدًا في الماضي مع تحجيم دوره بالصورة التي تمنع هذا الخلط.
________________________________________
[1] محمد شقرون، شروط إمكانية قيام سوسيولوجيا دينية في المجتمعات العربية، الدين والمجتمع العربي، مركز الدراسات العربية بيروت 1990 ص 128.
[2] تابع ص 128.
[3] بوتومور، تمهيد في علم الاجتماع، محمد الجوهري وآخرون دار المعارف، سلسلة علم الاجتماع، الكتاب الرابع، 1987 ص 16.
[4] الإمبيريقية Empricism مصطلح مشتق من الكلمة اليونانية Empeira، وترجمتها إلى اللاتينية Experientia بمعنى: التجربة، والإمبيريقية على عكس العقلانية، هي: النظرية التي تقول أنَّ التجربة - وليس العقل - هي مصدر المعرفة؛ بمعنى: أنَّ كل ما نعرفه إنما يرتبط مباشرةً بالخبرة الحسية أو يشتقُّ منها بوسائل تجريبيَّة تعتمد على الإدراك الحسي، انظر: D w Hamlyn Empricism the Encyclopedia of Philosophy، Paul Edwards، Macmillan Publishing، New York، London P 499.
وحسبُنا في بيان تعارُض الإمبيريقية مع العقيدة شهادةُ رجال الاجتماع في بلادنا في قولهم "أنَّ الإمبيريقية تستند إلى ما يَسُود العلوم الاجتماعية بوجْه عام؛ من اتجاه علماني، ومن اهتمام بمسائل علمانية".
ولأن الإمبيريقية تعتمد فقط على الأساليب الفنية فإنها ترفض أي فكر، وتبدأ بالواقع، وترى بصراحة "أنَّ كل ما لا يخضع للتجريب فهو باطل".
انظر: محمد عاطف غيث، دراسات في تاريخ التفكير واتجاهات النظرية في علم الاجتماع، دار النهضة العربية بيروت 1975 ص 284.
وعن الإمبيريقية يقول رجال الاجتماع في بلادنا: إنها تلفيقية تلقيطية جزئية عديمة اللون والطعم، تعتمد على الموقف الخبري المبسط الذي يلاحق الظاهرات مبعثرة، مسقطة من حِسابها الإطار النظري الشامل الذي يحتويها، وتعتمد البحوث الإمبيريقية على جمْع فكرة من هنا وأخرى من هناك، ثم اختيار عيِّنةٍ عشوائية عمديَّة في معظم الأحيان، ثم تصميم استمارة بحثٍ يعرض الباحث نتائجها في صورة جداول إجابة المبحوث فيها هي التي يريدها الباحث، موقفها مفتعلٌ ونتائجها مفتعلةٌ أيضًا.
انظر عبدالباسط عبدالمعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1981 ص 273-278.
[5] محمد شقرون، تابع ص 129.
[6] تابع ص 128.
[7] تابع ص 128-129.
[8] الحداثة كمفهوم وكحركة نقلها الببغائيون العرب إلى مجتمعاتنا العربية من الغرب؛ ولهذا لا يمكن فصل الحداثة العربية عن الحداثة الغربية باعتراف الحداثيين العرب أنفسهم، يقول محمد براده: "إنَّ الحديث عن حداثة عربية مشروط تاريخيًّا بوجودٍ سابق للحداثة الغربية، وبامتِداد قنواتٍ للتواصُل بين الثقافتين".
انظر: محمد برادة في اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة، فصول مجلد 4 عدد 1983 ص 11.
أشار برادة إلى ذلك أيضًا في الفقرة التي اقتبسها من جون بودريان في قوله: "تَفرِض الحداثة نفسَها وكأنها وحدة متجانسة مشعَّة عالميًّا من الغرب"، نفس المصدر ص 12.
والحداثة كما تعرفها الموسوعات الغربية هي أيُّ نظرةٍ تقوم على الاقتناع بأنَّ العلم والتقدُّم العلمي الحديث تتطلَّب إعادة تقييمٍ أساسي للعقائد التقليدية؛ ومن ثَمَّ لا تنظر إلى الدِّين على أنه صياغة دقيقة لسلطة جديرة باعتماد وقبول للحقائق المنزلة من الله، وإنما تنظر إليه على أنَّه مقولات لمشاعر وخبرات دِينية عاشها بعض الرجال عبر حقبة تاريخية معيَّنة؛ ولهذا تكون الحقائق الدينية عرضةً لعمليَّة تطوير مستمر كجزء من الخبرة المتقدمة للجنس البشري.
وتستلزم هذه العملية إدخال مفاهيم عديدة وجديدة كشيء متطلب للتغيير عن الفكر والتقدُّم الحديث، وليس الوحي في مفهوم الحداثة إلا مجرَّد خبرة شخصية حسية لمجموعة حقائق (عن) الله أكثر منه موضع اتصال لحقيقة شاملة (من) الله انظر: Modernism: in the Encyclopedia، Americana، American Corporation، N Y، 1967، P2891.
وترجع جذور الحداثة كحركة عامة إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اتجهت هذه الحركة إلى تطبيق المناهج النقدية على التوراة والإنجيل وتاريخ العقائد ممَّا أدَّى إلى الحطِّ من قدرها والنظر إلى الله - تعالى - على أنه ليس فوق الوجود المادي انظر: Modernism: in the new Columbia Encyclopedia، Columbia University Press، U S A، 1970، P1801.
ويشير جون بوتي في الموسوعة الأكاديمية الأمريكية إلى أن هذا المصطلح قد استخدم في العصر الحديث لنقد الدين بصفة عامة انظر: John Booty، Modernism in Academia American Encyclopedia، Arete Publishing Comp Inc، Princeton، Newjersey، 1980، P 498.
بهذه المفاهيم التي نقلها الببغائيون العرب من الغرب شنوا هجومهم الضاري على الإسلام، مُفترِضين - عن جهلٍ - تصادُم الإسلام مع العلم كالحال في بلاد الغرب، فراحوا يُقيِّمون ويعدِّلون في الإسلام والوحي والرسالة وفْق أهوائهم، ومن أبرز المعاصرين الذين حملوا على عاتقهم هده المهمَّة (حسن حنفي) أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، دعا حسن حنفي إلى إخضاع القرآن للنقد وللمنهج النقدي مثلما فعل (سبينوزا) مع التوراة والإنجيل، رافضًا تفسير قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]؛ بمعنى: أنَّه حفظ للنص، متهمًا النظرة القائلة بأنَّ معنى الآية حفظ للنص الحرفي المدوَّن بأنها نظرةٌ (لاهوتية صرفة تهرب من (النقد) وتلجأ للسلطة الإلهية).
انظر: أحمد إبراهيم خضر، وقفات مع اليسار الإسلامي، مجلة المجتمع عدد 901 وما بعده، 17 جمادى الآخرة، ص 1406/ 24 يناير 1989.
وعن رفض الحداثيين العرب (لله) و(للدين) وتشبُّثهم بالفكر العلماني والنظر إلى الإنسان على أنَّه محور الوجود وليس الله، يقول كمال أبو ديب: "الحداثة انقطاع معرفي؛ ذلك أنَّ مصادرها المعرفية لا تكمن في المصادر المعرفية للتراث في كتب ابن خلدون الأربعة، أو في اللغة المؤسساتية والفكر الديني وكون الله مركز الوجود... الحداثة انقطاع؛ لأنَّ مصادرها المعرفية هي اللغة البكر والفكر العلماني وكون الإنسان مركز الوجود".
انظر: كمال أبو ديب، الحداثة، السلطة، النص، مجلة فصول، مجلد 4 عدد 3 عام 1984، ص 37.
[9] محمد شقرون تابع ص 129-130.
[10] تابع ص 131-132.
[11] فرحان الديك، الأساس الديني في الشخصية العربية، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ص 117.
[12] انظر: فرحان الديك، تحت (تحديات حضارة المجتمع الصناعي للدين وتراجع الدين في الحياة الاجتماعية) المرجع السابق ص 111-125
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
6-07-2012 / 21:00:26 أحمد عامر