د - أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5254
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بسم الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن الجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة معرضة للخلل والفساد لأنه لا أمن فيها للبيت، ولا حرمة فيها للأسرة. والبيت هو الوحدة الأولى في بناء الجماعة لأنه هو المحضن الذي تنشأ فيه الطفولة وتنمو، ولابد له من الأمن والاستقرار والطهارة، ليصلح محضنا ومدرجا، وليعيش فيه الوالدان مطمئنا كلاهما للآخر، وهما يرعيان ذلك المحضن ومن فيه من فراخ.
إذن فلابد من تنظيم الدوافع الفطرية في صورة مثمرة نظيفة، لا يخجل الأطفال معها من الطريقة التي جاءوا بها إلى هذا العالم، لأنها طريقة نظيفة معروفة، يعرف فيها كل طفل أباه، لا كالحيوان الهابط الذي تلقى الأنثى فيه الذكر اللقاح، وبدافع اللقاح، ثم لا يعرف الفصيل كيف جاء ولا من أين جاء.
هكذا قال علماؤنا رحمة الله عليهم عند تفسيرهم لقوله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ [المؤمنون: 5]، وهو خير ما نقدم به هذا الكتيب الثامن عشر الذي يتناول موضوع "عفاف المحبين" من سلسلة "مختارات من كتب التراث الإسلامي" الذي نواصل به رحلتنا مع الشيخ ابن القيم رحمه الله في كتابه "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" الذي حققه الدكتور سيد الجميلي.
نسأل الله أن يكون هذا العمل في ميزان حسناتنا يوم القيامة.
د. أحمد إبراهيم خضر
جدة – رجب 1415هـ - ديسمبر 1994م
--------
وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها دخلت الجنة))[1]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرأة اتقت ربها وأحصنت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها يوم القيامة ادخلي من أي أبواب الجنة شئت)) [2].
أولاً: لماذا يعفون؟
الاستمتاع الحرام في الدنيا يمنع العبد من الاستمتاع واللذة في الدار الآخرة لأن عليه أن يتخير إحدى اللذتين لنفسه. والله عز وجل لا يجمع للعبد لذة شرب الخمر ولبس الحرير والتمتع بما حرم الله عليه من النساء ولذة التمتع بذلك في الآخرة. ولعفة الناس أسباب أقواها إجلال الله عز وجل والرغبة في الحور الحسان في دار القرار. وهؤلاء هم أعلى مرتبة. يتلوهم من يترك ذلك خوف النار فقط. ومن تركها رغبة ومحبة أفضل ممن تركها لمجرد خوف العقوبة. وأدنى من ذلك هؤلاء الذين يتعففون خوفًا من العار والعيب. ومنهم من يتعفف ليبقى على حبه خوفًا من أن يذهب بالوصال. ومنهم من يرغمه على ذلك عفة محبوبه ونزاهته، ومنهم من يتعفف حياء من المحبوب واحتشامًا له ولعظمته في صدره، ومنهم من يطمع في السمعة والذكر الحسن أو الإبقاء على جاهه ومروءته وقدره عند محبوبه وعند الناس، ومنهم يتعفف لكرم شرف نفسه وعلو همته، ومنهم من ينظر إلى لذة الظفر بالعفة فإن للعفة لذة أعظم من لذة قضاء الوطر، وهي لذة يسبقها ألم حبس النفس ثم تعقبها اللذة على عكس قضاء الوطر. وهناك من يعلم ما تعقبه اللذة المحرمة من مضار ومفاسد وفجور فيمتنع عن الوقوع في الحرام.
ولم يزل الناس يفتخرون بالعفة قديمًا وحديثًا فقالوا في ذلك:
ولرب لذة ليلةٍ قد نلتها
وحرامها بحلالها مدفوع
وقال آخر:
كم قد خلوت بمن أهوى فيمنعني
منه الحياء وخوف الله و الحذر
وقيل لامرأة من عُذرة – حي من أحياء العرب – لما علم أن بها هوى غالبا قد يفضي بها إلى الموت: ما بال العشق يقتلكم معاشر عذرة من بين أحياء العرب؟ فقالت: فينا جمال وتعفف، والجمال يحلمنا على العفاف، والعفاف يورثنا رقة القلوب، والعشق يفني آجالنا، وإنا نرى عدونا لا ترونها. نرى عيونا لا ترونها.
ثانيًا: جزاء العفاف كما جاء عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
1- قال صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال؛ فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه))[3].
2- قص رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قصة الثلاثة الذين كانوا يمشون فأخذتهم السماء فأووا إلى غار في الجبل فانحطت عليهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا صالحة عملتموها فادعو الله بها "فقص الأول منهم عمله، وقال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عم فأحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء فطلبت إليها نفسها فأبت حتى أتيتها بمائة دينار فسعيت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها فلما قعدت بين رجليها قالت: يا عبدالله اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وتركت المائة دينار فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا من هذه الصخرة ففرج الله عنهم فرجة، ولما قص الثالث عمله فرج الله عنهم وخرجوا يمشون[4].
3- قال صلى الله عليه وسلم: ((كان ذو الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارًا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة أرعدت وبكت فقال: ما يبكيك أكرهتك؟ قالت: لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط! قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط؟ قالت: حملتني عليه الحاجة فتركها ثم قال: اذهبي والدنانير لك ثم قال: والله لا يعصى الله ذو الكفل أبدًا فمات فأصبح مكتوبًا على بابه: غفر الله لذي الكفل))[5].
ثالثًا: عفاف يوسف عليه السلام:
ذكر الله سبحانه وتعالى عن يوسف الصديق عليه السلام من العفاف أعظم ما يكون. كان شابًا والشباب مركب الشهوة، وكان عزبًا ليس عنده ما يعوضه، وكان غريبا من أهله ووطنه، والمقيم بين أهله وأصحابه يستحيي منهم أن يعلموا عنه شيئًا فيسقط من عيونهم، فإذا تغرب زال هذا المانع، وكان في صورة المملوك والعبد لا يأنف مما يأنف منه الحر، وكانت المرأة ذات منصب وجمالٍ، وكانت هي التي تطلبه لا هو وزادت مع الطلب الرغبة التامة والمراودة التي يزول معها ظن الامتحان والاختبار لتعلم عفافه من فجوره، وكانت في محل سلطانها وبيتها بحيث تعرف الوقت والمكان الذي لا تناله العيون، وزادت مع ذلك تغليق الأبواب لتأمن هجوم الداخل على بغتة، وأتته بالرغبة والرهبة، ومع هذا كله عفَّ الله ولم يطعها، وقدم حق الله وحق سيدها على ذلك كله، وهذا أمر لو ابتلى به سواه لم يعلم كيف كانت تكون حاله. وكان يعرف ربه ونفسه تمام المعرفة فلما أظهر براءته ونزاهته مما قذف به أخبر عن حال نفسه وأنه لا يزكيها ولا يبرئها، فإنها أمارة بالسوء لكن رحمة ربه وفضله هو الذي عصمه[6].
رابعًا: عفاف من قال: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأنعام: 15]:
كان بالكوفة فتى جميل الوجه شديد التعبد والاجتهاد فنزل في جوار قوم ونظر إلى جارة منهن جميلة فهويها وهام بها عقله، ونزل بالجارية ما نزل به فأرسل يخطبها من أبيها، فأخبره أبوها أنها مخطوبة لابن عم لها، فلما اشتد عليهما ما يقاسيانه من ألم الهوى أرسلت إليه الجارية: قد بلغني شدةُ محبتك لي وقد اشتد بلائي بك، فإن شئت زرتك، وإن شئت سهلت لك أن تأتيني إلى منزلي، فقال للرسول: ولا واحدة من هاتني الخلتين.
﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أخاف نارًا لا يخبو سعيرها ولا يخمد لهيبها، فلما أبلغها الرسول قوله قالت: وأراه مع هذا يخاف الله؟ والله ما أحدٌ أحق بهذا من أحدٍ، وإن العباد فيه لمشتركون، ثم انخلعت من الدنيا وتركتها لتتعبد وكانت مع ذلك تذوب وتنحل حبا للفتى وشوقا إليه حتى ماتت من ذلك، فكان الفتى يأتي قبرها فيبكي عنده ويدعو لها، فغلبته عنيه ذات يوم على قبرها فرآها في أحسن منظر فقال: كيف أنت وما لقيت بعدي؟ قال:
نعم المحبة يا سؤلي محبتكم
حب يقوم إلى خير وإحسان
إلى نعيم وعيش لا زوال له
في جنة الخلد ملك ليس بالفاني
فقال لها: اذكريني هناك فإني لست أنساك، فقالت: ولا أنا والله أنساك، ولقد سألت مولاي ومولاك أن يجمع بيننا فأعني على ذلك بالاجتهاد، فقال لها: متى أراك؟ فقالت: ستأتينا عن قريب فترانا، فلم يعش الفتى بعد الرؤيا إلا سبع ليالٍ حتى مات.
خامسًا: عفاف من سمع قوله تعالى: ﴿الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67]:
نزل رجل بمكة وكان من عُبّاد أهلها فسمِّي القس من عبادته، فمر يوما بجارية تغني فوقف فسمع غناءها فرآه مولاها فأمره أن يدخل عليها فأبى، فقال: فاقعد في مكان تسمع غناءها ولا تراها ففعل فأعجبته، فقال له مولاها: هل لك أن أحولها إليك؟ فامتنع بعض الامتناع ثم أجابه إلى ذلك، فنظر إليها فأعجبته فشغف بها وشغفت به، وعلم بذلك أهل مكة، فقالت له ذات يوم: أنا والله أحبك، فقال: وأنا والله أحبك، قالت: فإني والله أحب أن أضع فمي على فمك، قال: وأنا والله أحب ذلك، قالت: فما يمنعك؟ فإن الموضع خالٍ، قال لها: ويحك: إني سمعت الله يقول: ﴿الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ﴾. فأنا والله أكره أن يكون صلة ما بيني وبينك في الدنيا عداوة في القيامة، ثم نهض وعيناه تذرفان بالدموع من حبها.
سادسًا: عفاف من دعا امرأة إلى الحلال فدعته إلى الحرام:
هوي فتى من العُبَّاد جارية من أهل البصرة فبعث إليها يخطبها فامتنعت وقالت: إن أردت غير ذلك فعلت، فأرسل إليها: سبحان الله! أدعوك إلى ما لا إثم فيه وتدعينني إلى ما لا تصلح؟ فقالت: قد أخبرتك بالذي عندي فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر، فقال:
وأسألها الحلال وتدعُ قلبي
إلى ما لا أريد من الحرام
كداعي آل فرعون إليه
وهم يدعونه نحو الأثام
فظل منعمًا في الخلد يسعى
وظلوا في الجحيم وفي السقام
فلما علمت أنه قد امتنع من الفاحشة أرسلت إليه: أنا بين يديك على الذي تحب، فأرسل إليها: لا حاجة لنا فيمن دعوناه إلى الطاعة ودعانا إلى المعصية ثم أنشد:
لا خير فيمن لا يراقب ربه
عند الهوى ويخافه إيمانًا
حجب التقى سبل الهوى فأخو
التقى يخشى إذا وافى المعاد هوانا
سابعًا: عفاف الأخ عن زوجة أخيه:
كان أخوان من ثقيف بينهما المحبة شيء لا يعلمه إلا الله وكل واحد منهما أخوه عنده مثل نفسه، فخرج الأكبر منهما إلى سفر وله امرأة فأوصى أخاه بحاجة أهله وبينما هو في دار أخيه بعد سفره مرت امرأة أخيه في درع تنتقل من بيت إلى بيت، وكانت من أجمل البشر، فرأى شيئًا حيره، فلما رأته ولت ووضعت يدها على رأسها ودخلت بيتا، ووقع حبها في قلبه، فكان يذوب وينحل جسمه ويتغير لونه، وقدم أخوه فقال: مالك يا أخي متغيرًا، ما وجعك؟ قال: ما بي من وجع، فدعا له الأطباء فلم يقف أحد على دائه إلا من قال له أرى عينين صحيحيتين وما أدري ما هذا الوجع وما أظنه إلا عاشقا، فقال له أخوه: أسألك عن وجع أخي وأنت تستهزئ بي، فقال: ما فعلت، وسأسقيه شرابًا عندي فإن كان عاشقًا فسيتبين لكم، فأتاه بشراب سقاه إياه قليلا قليلا، فلما أخذه الشراب هاج واعترف. فقال: أنت طبيب العرب فبمن؟ قال: سأعيد له الشراب ولعله يسميها فأعاد له الشراب فسمى المرأة، فطلقها أخوه ليتزوجها فقال المريض: على كذا وكذا إن تزوجتها، فقضى ولم يتزوجها.
وعرض على الحجاج بن يوسف سجينًا فسأله: ما كان جرمك؟ قال: أصلح الله الأمير أخذني حرس الليل وأنا مخبرك بخبري فإن كان الكذب ينجي فالصدق أولى بالنجاة، كنت أخا لفلان ابتعث إلى خراسان وكانت امرأته تهواني وأنا لا أشعر، فبعثت إلي ذات يوم رسولا أن صاحبك أرسل كتابا تريد أن أقرأه، فمضيت إليها فجعلت تشغلني بالحديث حتى صلينا المغرب، ثم أظهرت لي ما في نفسها ودعتني إلى السوء، فأبيت ذلك فقالت: والله لئن لم تفعل لأصيحن ولأقولن إنك لص، فخفتها والله يا أمير المؤمنين على نفسي فقلت: أمهليني حتى الليل، فلما صليت العشاء خرجت من عندها هاربا فلقيني حرس الأمير فأخذوني وكان القتل أيسر علي من خيانة أخي وأنشدت في ذلك شعرًا:
رب بيضاء أنس ذات ذلٍّ
قد دعتني لوصلها فأبيت
لم يكن شأني العفاف ولكن
كنت خلا لزوجها فاستحييت
فأمر الحجاج بإطلاقه.
ثامنًا: قصة من كانت كل ليلة عروسا فصارت راهبة:
ذُكر أن امرأة جميلة كانت بمكة، وكان لها زوج، فنظرت يومًا إلى وجهها في المرآة فقالت لزوجها: أترى أحدًا يرى هذا الوجه ولا يفتن به؟ قال: نعم، قالت: من؟ قال: عبيد بن عمير، قالت: فائذن لي فيه فلأفتنه، قال: قد أذنت لك، فذهبت إليه كأنها تستفيه في أمر، فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام فأسفرت عن وجه مثل فلقة القمر، فقال لها: يا أمة الله استتري، فقالت: إني قد فتنت بك، قال: إني سائلك عن شيء، فإن أنت صدقتيني نظرت في أمرك. قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك، قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو دخلت قبرك وأجلست للمساءلة أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين أتأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت اللهم لا، قال: صدقت: قال: فلو أردت الممر إلى الصراط ولا تدرين هل تنجحين أولا تنجحين أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو وقفت بين يدي الله للمساءلة أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت. قال: اتقي الله فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك، قال: فرجعت إلى زوجها، فقال: ما صنعت؟ قالت: أن بطّال ونحن بطّالون. فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة، فكان زوجها يقول: مالي ولعبيد بن عمير أفسد علي امرأتي، كانت في كل ليلة عروسًا فصيّرها راهبة.
تاسعًا: قصة من قالت: ما نكح ب قط إلا فسد:
قال أعرابي: علقتُ امرأة كنت آتيها فأحدثها سنين وما جرت بيننا ريبة قط، إلا أني رأيت بياض كفها في ليلة ظلماء فوضعت يدي على يدها، فقالت: مَهْ لا تفسد ما بيني وبينك، فإنه ما نكح حب قط إلا فسد. قال: فقمت وقد تصببت عرقا حياء منها ولم أعد إلى شيء من ذلك.
عاشرًا: قصة عفاف من دعي إلى فراش وطيٍّ وعيش رخيّ:
نزل رجل في دربٍ بمصر وكانت فيه امرأة جميلة فتنت الناس بجمالها، فعلمت به المرأة فقالت: لأفتننه، فلما دخلت من باب الدار تكشفت وأظهرت نفسها، فقال: مالك، فقالت: هل لك في فراش وطيٍّ وعيشٍ رخيٍّ؟
فأقبلها عليها وهو يقول:
وكم ذي معاصٍ نال منهن لذة
ومات فخلاها وذاق الدواهيا
تصرم لذات المعاصي وتنقضي
وتبقى تباعات المعاصي كما هيا
فيا سوءتا والله راءٍ وسامع
لعبد بعين الله يغشى المعاصيا
حادي عشر: المحبون عند موت محبوبهم:
قيل لبثينة: هذا جميل فهل عندك من حيلة تنفسين بها عشقه لك؟ فقالت: ما عندي أكثر من البكاء إلى أن ألقاه في الدار الأخرى، أو زيارته وهو ميت تحت الثرى.
وقيل لعُتْبة بعد موت عاشقها: ما كان يضرك لو أمتعتيه بوجهك؟ قالت: منعني من ذلك خوف العار، وشماتة الجار، ومخافة الجبار، وإن بقلبي أضعاف ما بقلبه غير أني أجد سترة أبقى للمودة، وأحمد للعاقبة، وأطوع للرب وأخف للذنب.
ثاني عشر: عفاف جميل وبثينة:
ذهب البعض يعودون "جميلا" في مرضه فدخلوا عليه والموت يشتد عليه، فنظر إلى واحد منهم وقال: يا ابن سهل، ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط، ولم يزن، ولم يقتل نفسا؟ يشهد أ، لا إله إلا الله؟ قال ابن سهل: أظنه قد نجا وأرجو له الجنة، فمن هذا الرجل؟ قال: أنا، قال ابن سهل: والله ما أحسبك وأنت تتغزل في بثينة عشرين سنة. فقال: لا نالتني شفاعة محمد – صلى الله عليه وسلم – يوم القيامة – فإني في أول يوم من أيام الأخرة وآخر يوم من أيام الدنيا – إن كانت وضعت يدي عليها لريبة. وظل الرجال معه ولم يتركوه حتى مات.
وكانت جارية قد وشت ببثينة إلى أبيها وأخيها وقالت: إن جميلا عندها، فأتيا ومعهما سيفيهما فرأياه خاليًا حجرة منها يحدثها ويشكو إليها حزنه الذي لا يصبر عليه، ثم قال لها: يا بثينة أرأيت ما بي من الشغف والعشق ألا تجزينيه؟ قالت له: بماذا؟ قال: بما يكون من المتحابين، فقالت له: يا جميل أهذا تبغي؟ والله لقد كنت بعيدًا منه، فإذا عاودت ذلك لا رأيت وجهي أبدًا، فضحك، وقال: والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك، ولو علمت أنك تجيبيني إليه لعلمت أنك تحبين غيري، ولو رأيت منك مساعدة لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي أن طاوعتني نفسي، أو هجرتك أبدًا. فقال أبوها لأخيها: قم بنا فما ينبغي لنا بعد هذا اليوم أن نمنع هذا الرجل من إتيانها.
ثالث عشر: عفاف الأعضاء والسراويل عن الحرام:
لما قدم عروة بن الزبير على الوليد بن عبدالملك أصاب رجله مرض الجرب فاجتمع رأي الأطباء على نشرها وإن لم يفعل سرت إلى جسمه فهلك فلما عزموا على ذلك أرادوا أن يسقوه شيئًا حتى لا يشعر بألم النشر فرفض فلما نشروها نظر إليها في أيديهم وتناولها وقال: الحمد لله، أما والذي حملني عليك أنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام قط.
وشوهد رجل وهو يموت وقد اتجه نحو القبلة فقامت جاريته تغمز رجليه، فقال: اغمزيها فإن الله يعلم أنهما ما مشتا إلى حرام قط.
لما حضرت الوفاة القاضي حفص بن غياث أغمي عليه فبكى ولده عمر عند رأسه فقال له حين أفاق: ما يبكيك؟ قال: لفراقك، قال: لا تبك فإني ما حللت سراويلي على حرام قط.
وسمع رجلا يقول في مرضه الذي مات فيه: "اللهم إنك تعلم أني لم أطأ فرجًا حراما قط وأنا أعلم، ولم آكل درهما حراما قط وأنا أعلم".
رابع عشر: عفاف ابن عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
لما احتضر أبو سفيان بن الحارث وهو ابن عم النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لأهله: لا تبكو عليَّ فإني لم أتلوث بخطيئة منذ أسلمت. وعن عفاف والده (الحارث) فقد كان عبدالمطلب لا يسافر إلا ومعه ابنه الحارث هذا وكان أكبر ولده، وكان شبيهًا به جمالاً وحسنًا، فأتى اليمن وكان يجالس عظيمًا من عظمائهم فقال له: لو أمرت ابنك هذا يجالسني وينادمني، ففعل، فعشقت امرأته الحارث، فراسلته فأبى عليها، فألحت عليه، فأخبر بذلك أباه، فلما يئست منه سقته سمّ شهرٍ، فارتحل به عبدالمطلب حتى إذا قدم مكة مات الحارث.
هذه بعض القصص عن عفاف المحبين وغيرهم كما رواها الشيخ ابن القيم رحمه الله نختمها بقول ابن مسعود – رضي الله عنه -: "التمسوا الغنى في النكاح"، وأخيرًا بقوله – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه أحمد وأخرجه الترمذي: ((ثلاثة حق الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله))[7].
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
-----------
[1] الحديث رواه أحمد والبزار والطبراني (المحقق).
[2] الحديث ورد في مسند أحمد (المحقق).
[3] رواه الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد (المحقق).
[4] الحديث (بكامله) رواه الشيخان (المحقق).
[5] رواه الترمذي (المحقق).
[6] انظر قصة شبيه يوسف مع عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في الكتيب السادس عشر عن الجمال والغَيْرة.
[7] تخريج الحديث للمحقق.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: