د - أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6522
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إنَّ الإسلام دينُ الله الذي اختاره واصطفاه وطهَّره، وهو أحقُّ بالتوقيرِ والاحترام والتنزه مما قد يشينُه ويعيبه، والمسلمون الذين يلجؤون إلى زواجِ التَّحليل يخادعون الله، كأنما يخادعون الصبيانَ ويتخذون آياتِ الله هزوًا، وهم عاصون لله، مطيعون للشَّيطانِ، وهم السبب في تعيير الكفارِ للمسلمين بهذا النوعِ من الزواج الفاسد، وقد شبه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - (المحلل) بالتَّيسِ المستعار وسمَّاه السَّلفُ بمسمارِ النَّار.
خصصنا هذا الإصدارَ الثالث من سلسلة "مختارات من كتب التراث الإسلامي" لتناول هذه الظَّاهرة، استخرجنا موضوعها من كتاب: "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان"؛ للإمام أبي عبدالله محمد بن أبي بكر الشهير باين قيم الجوزية، وطعمناه في شروحِ الإمام محمد بن إسماعيل الكحلاني في كتابِه: "سبل السلام"، وعالجنا الموضوع بشكلٍ يغطِّي الأدلة من السنة النبوية ومن آثار الصحابة والتابعين - رضوان الله عليهم - على بطلانِ هذا النوع من الزواج، ورددنا على من يستندون إلى قولِه - عزَّ وجلَّ -: ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾ [البقرة : 230] في إثباتِ التحليل، ثم قدمنا أدلةً جامعة على بطلانِ هذا الزَّواج، وأخيرًا انتقلنا إلى بيانِ سبب زواج التحليل وكيفية الاستغناء عن حيلةِ التحليل، نسأله - عزَّ وجلَّ - أن يكون هذا العمل نافعًا خالصًا لوجهه الكريم، مثقِلاً لميزاننا يوم الموقف العظيم.
د. أحمد إبراهيم خضر
جدة- جمادى الأولى 1415- أكتوبر 1994.
-------
التيس المستعار:
"التيس المستعار" هو "المحلِّل" وصاحب هذا التشبيه هو الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي لعن المحلِّلَ والمحلَّل له، والمحلل رجل تزوَّج من امرأةٍ طلَّقها زوجُها ثلاث مرات، فحرمت عليه، والغرض من هذا الزواج ليس الإقامة المستقرة الدائمة مع المرأة، وإنما تحليلها لمطلقها، وهذا النوعُ من الزواجِ هو أحدُ مكايد الشَّيطان؛ وهي "مكيدة التحليل".
وبسبب هذا النوع من الزَّواج أصاب المسلمين العارُ، وعيَّرهم الكفَّارُ به، وأدى إلى فساد كبير، وهو زواجٌ لا ترضى به النفوس الأبية، بل وتنفر منه نفورًا شديدًا، وترى أنه ليس بزواج صحيح؛ لأنه لو كان صحيحًا لمَ لعن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاعلَه، فالزواج من سنةِ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفاعل السنَّةِ مقرَّبٌ وليس بالملعون، لكن الملعون هو (المحلِّل) وهو المشبه بالتيس المستعار، وهو الذي سماه السَّلف: "بمسمار النار)"[1].
وبسبب هذا النوعِ من الزواج تتبذل المرأةُ الحرة المصونة أمام المحللين، وتنظرُ المرأة هنا إلى محللها نظرةَ الشاة إلى السكين، التي سيذبحها بها الجزار، وتتمنَّى أن تموتَ قبل أن تعيشَ هذه اللحظة.
يتزوجُ المحللُ من هذه المرأةِ، بلا زفافٍ ولا إعلان، وإنَّما بتكتم وتخفٍّ، لا جهاز يُنقل، ولا فراش إلى بيت الزوجية يُحمَل، ولا تُهدى للعروس هدايا من صاحباتها، ولا وليمة تُقام، ولا تُزيَّن لزوجِها لليلة زفافها، ولا مهرَ تقبضُه، ولا نفقة ولا كسوة تُعطى لها، ولا عرسَ يقام للعروسين، إنما يدفعُ المطلقُ المهر، ويقوم التيس بجماعِ مطلقته بأجرٍ أو بلا أجر.
وفي اللحظةِ التي يخلو بها "التيس" يكون المطلقُ والولي واقفين على البابِ ينتظرانِ إلى أن ينجسَها هذا التيسُ بمائه الحرام، ويطيبها بلعنةِ الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويسمَّى عرسهما: "بعرسِ التحليل"، وهو عرسٌ يفتقد إلى المودةِ والرحمة التي ذكرها الله في كتابه العزيز، و(المحلل) إما أن يكونَ قد قبض أجرَه سلفًا، أو يبقي على المرأة عنده طويلاً حتى يأخذَ أجره، وعلى المرأة بعد أن ينتهي "عُرس التحليل" أن تعترفَ بالذي حدث بينهما حتى يتمَّ الطلاق، وحينما يسألها الشهودُ فلا تستطيعُ أن تنكر، فيأخذون الأجرَ منها أو من مطلقِها وهم عادة من المستأجرين.
أولاً: الأدلة من سنة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على بطلان هذا الزواج:
1- عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "لعن رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - المحلِّل والمحلَّل له".
2- ما رواه الإمام أحمد في مسندِه والنسائي في سننه بإسنادٍ صحيح ولفظهما: "لعن رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الواشمة والمؤتشمة[2]، والواصلة والموصولة، والمحلِّل والمحلَّل له، وآكل الربا وموكله".
3- عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "أنَّه لعن المحلِّل والمحلَّل له"؛ رواه الإمام أحمد وأهل السنن.
4- عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضًا قال: سُئل رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن المحلِّل؛ فقال: ((لا نكاح إلا نكاح رغبة، ولا نكاح دلْسَة، ولا مستهزئٍ بكتاب الله لم يذق العُسيلَة))؛ ((والعسيلة)): مصغر عسل؛ وأُنِّث لأنَّ العسلَ مؤنث، وقيل: إنه يذكَّر ويؤنث، وقد اختلف في المرادِ بذلك، فقيل: إنزال المني، وأنَّ التحليل لا يكون إلا بذلك، وقيل: ذوق العسيلةِ كناية عن المجامعة؛ وهو تغيب الحشفة من الرجل في فرج المرأة، ويكفي منه ما يوجب الحد والصداق، وقيل: إنَّ العسيلة هي لذة الجماع، والعرب تسمي كلَّ شيء تستلذه: عسلاً[3].
5- عن عقبةَ بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألا أخبركم بالتَّيس المستعار؟))، قالوا: بلى، يا رسولَ الله، قال: ((هو المحلل، لعنَ الله المحلِّل والمحلَّل له)).
6- عن عمرو بن دينار - وهو من أعيان التابعين - أنه سئل عن رجلٍ طلَّقَ امرأته، فجاء رجلٌ من أهلِ القرية بغير علمه ولا علمها، فأخرج شيئًا من ماله، فتزوجَها ليحلها له، فقال: لا، ثم ذكر أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - سُئل عن مثل ذلك، فقال: ((لا حتى ينكحها مرتغبًا لنفسه، حتى يتزوجَها مرتغبًا لنفسه، فإذا فعل ذلك لم تحل له حتى يذوق العسيلة)).
7- عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ رجلاً قال له: امرأة تزوجتُها أحلُّها لزوجِها، لم يأمرني، ولم يعلم؟ قال: "لا، إلا نكاح رغبة، إن أعجبتْك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها، وإن كنا لنعدُّ هذا على عهدِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سفاحًا".
ثانيًا: الأدلة من الآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - على بطلان هذا الزواج:
1- تهديد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - برجم المحلِّل والمحلَّلة له:
عن عمر بنِ الخطاب - رضي الله عنه - أنَّه قال: "لا أُوتي بمحلِّل ولا محلَّل له إلا رجمتهما"، وفي رواية أخرى: "لا أوتى بمحلِّل ولا محلَّلة إلا رجمتهما".
2- تشبيه زواج التحليل بالسِّفاح:
عن عبدالملك بن المغيرة قال: سُئل ابن عمر - رضي الله عنهما - عن تحليلِ المرأةِ لزوجها، فقال: "ذاك السفاح".
3- اعتبار زواج التحليل زنًا، وإن طالت مُدَّتُه:
عن بن شريك العامري قال: سمعتُ ابنَ عمر - رضي الله تعالى عنهما - سُئل عن رجل طلق ابنة عم له، ثم رغب فيها وندم، فأراد أن يتزوجَها رجلٌ يحللها له، فقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "كلاهما زانٍ، وإن مكث عشرين سنة أو نحو ذلك، إذا كان الله يعلمُ أنه يريد أن يحلها له".
4- زواج التحليل ينتجُ عن عصيانِ الله - عزَّ وجلَّ - وطاعة الشيطان، وهو محاولة لخداعِ الله - تعالى:
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - سأله رجلٌ فقال: إن عمي طلَّق امرأته ثلاثًا، فقال: "إنَّ عمَّك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجًا"، فقال: كيف ترى في رجلٍ يحلِّلُها؟ قال: "من يخادعُ الله يخدعْه".
5- التفريق بين المحلِّل والمحلَّلة له:
عن سليمان بن يسار قال: "رفع إلى عثمان - رضي الله عنه - رجل تزوج امرأةً ليحلها لزوجِها، ففرق بينهما، وقال: "لا ترجع إليه إلا بنكاحِ رغبة غير دلسة".
- وأتى رجلٌ عثمان - رضي الله عنه - فقال: إن جاري طلَّق امرأتَه في غضبِه، ولقي شدة، فأردت أن أحتسب نفسي ومالي فأتزوجها، ثم أبني بها، ثم أطلقها، فترجع إلى زوجِها الأول، فقال له عثمان - رضي الله عنه -: "لا تنكحْها إلا نكاحَ رغبة".
6- زواج التحليل استهزاء بكتاب الله:
عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في المحلِّل قال: "لا ترجع إليه إلا بنكاحِ رغبة غير دلسة، ولا استهزاء بكتاب الله".
7- زواج التحليل باطلٌ ولو لم تعلم المرأة، فكيف لو تعاقدت واتفقت أطرافه عليه؟!:
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لعن الله المحلِّل والمحلَّل له"، وهو من روى عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَعْنَ المحلل، وقد فسَّره بما قصد به التحليل وإن لم تعلم به المرأةُ، فكيف بما اتفقا عليه وتراضيا وتعاقدا على أنه نكاح لعنة لا نكاح رغبة؟
هذا ولم يُعلم أنَّ أحدًا من أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فرَّق بين تحليلٍ وتحليل، ولا رخَّصَ في شيء من أنواعِه.
ثالثًا: الأدلة من الآثار عن التابعين على بطلان زواج التحليل:
1- عدم صلاحية زواج التحليل:
عن معمر عن قتادة قال: "إذا نوى الناكحُ أو المنكِح أو المرأةُ أو أحدٌ منهم التحليلَ؛ فلا يصلح".
2- أطراف زواج التحليل جميعهم مسيئون، ويرى البعضُ عقوبةَ المحلل:
عن ابن جريج قال: قلتُ لعطاء: المحلل عامدًا هل عليه عقوبة؟ قال: "ما علمت، وإني لأرى أن يعاقَب"، قال: "وكلهم إن تمالؤوا على ذلك مسيئون، وإن أعظموا الصَّداق".
3- لا يحل للزوج الأول أن يقربَ الزوجة إذا كان نكاحه على وجه التحليل:
عن معمر عن قتادةَ قال: "إن طلَّقها المحلِّل فلا يحلُّ لزوجها الأول أن يقربها إذا كان نكاحه على وجه التحليل".
وعن جريج قال: قلتُ لعطاء: فطلق المحلل؛ فراجعها زوجُها، قال: "يُفرَّق بينهما".
وقال النخعي: "إذا كان نية أحد الثلاثة: الزوج الأول، أو الزوج الآخر، أو المرأة: أنه محلل، فنكاحُ الآخر باطل ولا تحلُّ للأول".
وقال الحسن البصري: "إذا همَّ أحدُ الثلاثة بالتحليل، فقد أفسد".
4- لا بد من أن يُعمِّر الزوجان ويقيما معًا:
عن الشَّعبي أنه سئل عن رجلٍ تزوَّج امرأةً كان زوجُها طلَّقها ثلاثًا قبل ذلك، أيطلقها لترجعَ إلى زوجها الأول؟ فقال: "لا، حتى يحدث نفسه أنه يعمِّر معها وتعمِّر معه"؛ أي: تقيم معه.
5- بطلان زواج التحليل وإن لم يعلم به الزوج الأول أو المرأة:
قال سعيد بن المسيب في رجلٍ تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول ولم يشعر بذلك زوجُها الأول ولا المرأة، قال: "إن كان إنما نكحَها ليحلها، فلا يصلح ذلك لهما ولا تحل له".
6- وجوب أن يكونَ الزواج زواجًا صحيحًا:
قال سعيد بن المسيب: "إنَّ الناس يقولون: حتى يجامعها، وأنا أقول: إذا تزوجها زواجًا صحيحًا لا يريدُ بذلك إحلالها؛ فلا بأس أن يتزوجَها الأول".
رابعًا: الرد على من يستندون إلى قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾ [البقرة : 230] بإثباتِ التحليل على أساسِ أنَّ الله - تعالى - سماه "محللاً"، ولولا أنه أثبت الحل لم يكن محللاً:
الرد على ذلك هو أنَّ الله - تعالى - أنزل هذه الآيةَ على رسولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم، والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو الذي لعنَ المحلِّل والمحلَّل له، وأصحابه هم أعلمُ النَّاسِ بكتاب الله - عز وجل - فلم يجعلوه زوجًا، وأبطلوا نكاحَه ولعنوه.
والقول السابق يعني أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعن من فعل السنة التي جاء بها وفعل ما هو جائز صحيح في شريعته، وقد سمي "بالمحلل"؛ لأنَّه أحلَّ ما حرم الله فاستحقَّ اللعنة؛ فإنَّ الله - تعالى - حرمها على المطلِّق حتى تتزوجَ من غيره، والنكاح اسم في كتابِ الله وسنة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو النكاح المتعارَفُ عليه بين النَّاسِ، الذي شرع إعلانه والضرب عليه بالدفوف والوليمة فيه، وجعل للإيواء والسكن، وفيه المودة والرحمة، وهذا يختلف تمامًا عن نكاحِ التحليل الذي ذكرنا فيه أنَّ المحلل لا يدخل على نفقةٍ ولا كسوة ولا سُكنى ولا إعطاء مهر، كما لا يترتَّبُ عليه نسبٌ ولا صهر، ولا يقصد الإقامة مع الزوجةِ، ولهذا شبهه الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - "بالتيس المستعار" ولعنه، ومن هذا يعرف أنه ليس هو الزواج المذكور في القرآنِ، ولا نكاحه هو النكاح المذكور في القرآن، كما أنَّ الله - تعالى - قد فطر قلوبَ الناس على أنَّ هذا ليس بزواج، ولا المحلل بزوج، وأن هذا منكر قبيح تُعيَّر به المرأةُ والزوج والمحلل والولي، فكيف يدخل هذا في الزواجِ الذي شرعه الله ورسوله، وأحبه وأخبر أنه سنتُه ومن رغب عنه فليس منه؟!
والمتأمِّل في قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا ﴾ [البقرة: 230] يجد أنه إن طلقَهَا هذا الثاني فلا جناحَ عليها، وعلى الأولِ أن يتراجعا؛ أي: ترجع إليه بعقدٍ جديد، فحرف (إن) هنا يدلُّ على أنه يمكنُه أن يطلق وأن يقيم، أمَّا في زواجِ التحليل فإن الثاني لا يتمكن فيه من الأمرين، بل يشترطون عليه أنه متى جامَعَها فهي طالق، وهم يعلمون أنه قد لا يخبرُ بالجماعِ ولا يقبل قول الزوجة في وقوعِ الطَّلاق، فتحايلوا على ذلك بأن جعلوا الشرطَ هو أن تخبرَ المرأةُ بأنه دخل بها، وبمجرد إخبارها بذلك تُطلَّق من الثاني، وهذا يخالف ما شرعه الله - تعالى - الذي جعل الزَّواجَ وشرعه للصلة الدائمة والاستمتاع، في حين أنَّ أصحابَ زواج التحليل جعلوه سببًا لانقطاعِه ولوقوع الطلاق فيه، فإنه متى جامعها الثاني كان هذا الجماعُ سببًا لانقطاعِ الزَّواج، وهذا ضدُّ شرع الله.
وبالإضافةِ إلى ذلك، فإنَّ الله - تعالى - جعل نكاحَ الثاني وطلاقه واسمه كنكاحِ الأول وطلاقه واسمه، فهذا نكاح وهذا نكاح، وكذلك الطلاق، لكن زواج المحلل وطلاقه واسمه لا يشبه زواجَ الأول ولا طلاقَه ولا اسمه، هذا زواجُ راغبٍ يقصدُ الزواجَ، ويدفع المهرَ ويلتزم بالنفقة والسكنى والكسوة وغير ذلك من خصائصِ الزواج، أمَّا المحلل فبريء من ذلك كلِّه، غير ملتزم بشيء منه.
خامسًا: أدلة جامعة على بطلانِ زواج التحليل:
1- أنَّ زواجَ التحليل لم يشرع في أيِّ زمنٍ من الأزمان.
2- أنه لم يكن في الصَّحابةِ محلِّلٌ قط.
3- أنَّ الصحابة أجمعوا على بطلانِ زواج التحليل.
4- أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والصحابة - رضوان الله عليهم - لعنوا المحلِّلَ والمحلَّل له.
5- أنه لا غرض للمحلل والمحلَّل له، ولا للمرأة ولا الولي، في أن يكون الزواجُ دائمًا بين طرفيه.
6- أنَّ أطرافَ زواج التحليل من المخادعين الذين يخدعون الله كما يخدعون الصِّبيان، والمحللُ ماكرٌ مخادع متخذ آيات الله هزوًا.
7- المحلل لا يريدُ المرأة لنفسِه، وإنما يريدُ حلها لغيره، ولهذا سمي محللاً، ولهذا كان جماعها حرامًا وضد شرع الله ودينه، وضدَّ ما وضع له الزواج.
8- أنَّ الفطرَ السليمة والقلوب التي لم يتمكَّنُ منها مرضُ الجهل والتقليد، تنفر من التحليلِ أشد نفار، وتعير به أكثر مما يعيرها الزنا.
9- أنَّ المحلل من جنسِ المنافق، فإنَّ المنافق يظهر أنه ملتزم لعقدِ الإسلام ظاهرًا وباطنًا، وهو في الباطنِ غير ملتزم له، وكذلك المحلل يظهرُ أنه زوج، وأنه يريد الزواجَ ويُسمى المهر، ويُشهد على رضا المرأة، وفي الباطنِ يخالف ذلك، لا يريدُ أن يكون زوجًا، ولا أن تكون المرأةُ زوجةً له، ولا يريدُ دفع الصداق، ولا القيام بحقوقِ الزوجية، وقد أظهر خلاف ما أبطن وأنه مريدٌ لذلك، والله يعلم، والحاضرون والمرأة وهو والمطلق أنَّ الأمرَ كذلك، وأنه ليس بزوجٍ حقيقة، ولا هي امرأته على الحقيقة.
10- أنَّ نكاحَ المحلل لا يشبهُ زواجَ أهل الجاهلية ولا زواج أهل الإسلام، كان أهلُ الجاهلية يمارسون في زواجِهم أمورًا منكرة، ولم يكونوا يرضون نكاحَ التحليل ولا يفعلونه، ففي صحيحِ البخاري عن عروةَ بن الزبير أنَّ عائشة - رضي الله عنها - أخبرته: "أنَّ النكاح في الجاهليةِ كان علىأربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم: يخطبُ الرجل إلى الرجل وليتَه أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر: كان الرجلُ يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلانٍ فاستبضعي منه فيعتزلها زوجُها، ولا يمسها أبدًا حتى يتبينَ حملها من ذلك الرجلِ الذي تستبضعُ منه، فإذا تبيَّن حملها أصابها زوجُها إذا أحب، وإنما يفعلُ ذلك رغبةً في نجابةِ الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر: يجتمع الرهطُ ما دون العشرة فيدخلون على المرأةِ كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومرَّ عليها ليالٍ بعد أن تضعَ حملَها، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجلٌ منهم أن يمتنعَ حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمرِكم، وقد ولدتُ فهو ابنك يا فلان، تسمِّي من أحبت باسمه فيُلحق به ولدُها لا يستطيع أن يمتنعَ منه، ونكاح رابع: يجتمع الناسُ الكثير فيدخلون على المرأةِ لا تمتنع ممن جاءها، وهنَّ البغايا، كنَّ ينصبنَ على أبوابهنَّ راياتٍ تكون علمًا، فمن أرادهنَّ دخل عليهنَّ، فإذا حملت إحداهنَّ ووضعت حملَها، جمعوا لها ودعوا لهم القافة[4]، ثم ألحقوا ولدَها بالذي يرون فالتاط[5] به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك، فلمَّا بعثَ الله - تعالى - محمَّدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالحقِّ؛ هدم نكاحَ الجاهلية كلَّه، إلا نكاح النَّاس اليوم".
ونكاحُ التحليل لا يدخل في نكاحِ الناس الذي أشارت إليه عائشة - رضي الله عنها - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أقرَّه ولم يهدمه، ولا كان أهل الجاهلية يرضون به، فلم يكن من أنكحتِهم.
سادسًا: سبب زواج التحليل وكيفية الاستغناء عن حيلة التحليل:
السبب في زواجِ التحليل هو معصيةُ الله ورسوله، وطاعة الشيطان في إيقاع الطَّلاق على غيرِ الوجه الذي شرعه الله - عزَّ وجلَّ.
وفي سننِ ابن ماجه من حديثِ أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما بال قومٍ يلعبون بحدودِ الله؛ يقول: قد طلقتُك، قد راجعتُك، قد طلقتك))، وفي صحيحِ مسلم عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ إبليس يضع عرشَه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدُهم، فيقول: قد فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، قال: ويجيء أحدُهم، فيقول: ما تركتُه حتى فرقتُ بينه وبين أهلِه، قال: فيدنيه منه - أو قال: يلتزمه - ويقول: نعم، أنت أنت))، أو كما قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
فالشيطانُ وحزبه يغرون بإيقاعِ الطلاق والتفريق بين المرء وزوجِه، وكثيرًا ما يندم المطلقُ ولا يصبر على فراقِ امرأتِه، ولا تطاوعه نفسُه أن يصبرَ عنها، ويراها تتزوج رجلاً آخر عن رغبةٍ تبقى فيه معه، إلى أن يموتَ عنها، أو يفارقها، إذا قضى منها وطرَه، ولا بد له منها، فيهرع إلى التحليل.
ومن يتقِ الله في طلاقِه فيطلق كما أمره اللهُ ورسوله وشرعه له، أغناه عن ذلك كلِّه، كما جاء في قولِه - تعالى -: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: 2]، فلو اتقى الله عامَّةُ المطلِّقين لاستغنوا بتقوى الله عن المكرِ والاحتيال وعن أغلالِ التحليل.
إنَّ الطَّلاقَ الذي شرعه الله - تعالى -: أن يطلقَها طاهرًا من غيرِ جماع، ويطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتُها، فإن بدا له أن يبقي عليها في العِدَّة أبقى عليها، وإن لم يراجعها حتى انتقضت عدتُها أمكنَه أن يعقدَ عليها دون الحاجةِ إلى زوجٍ آخر، وإن لم يكن له فيها غرض لم يضره أن تتزوجَ بزوجٍ غيره، فمن فعل هذا لم يندم ولم يحتج إلى حيلةٍ ولا تحليل، ولهذا سُئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن رجلٍ طلَّقَ امرأته مائة فقال: "عصيتَ ربك، وفارقت امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجًا".
وقال سعيد بن جبير: "جاء رجلٌ إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال: إني طلقتُ امرأتي ألفًا، فقال: "أمَّا ثلاث فتحرِّمُ عليك امرأتَك، وبقيتهن وزر، اتخذتَ آيات الله هزوًا".
وقال مجاهد: "كنت عند ابن عباس، فجاءه رجلٌ فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا، فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: "ينطلقُ أحدُكم فيركب الأحموقة[6]، ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، وإنَّ الله تعالى قال: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق : 2]، وإنك لم تتقِ الله، فلا أجد لك مخرجًا، عصيتَ ربَّك وبانت منك امرأتُك".
وروى النسائي عن محمود بن لبيد قال: أُخبر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن رجلٍ طلَّقَ امرأتَه ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان، ثم قال: ((أيُلعبُ بكتاب الله وأنا بين أظهرِكم؟))، حتى قام رجل، فقال: يا رسول اللهِ ألا أقتله؟
إنَّ الله - تعالى - إنما شرعَ الطلاقَ مرَّةً بعد مرة، ولم يشرعه جملةً واحدة أصلاً؛ قال - تعالى -: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾ [البقرة : 229]، والمرتان في لغةِ العرب بل وسائر لغات الناس: إنما تكونُ لما يأتي مرة بعد مرة، فهذا القرآنُ من أولِه إلى آخره، وسنة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكلام العرب قاطبة شاهدٌ بذلك، ثم قال - تعالى -: ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾ [البقرة : 230]؛ فهذه المرة الثالثة.
هذا هو زواج التحليل: وهذه هي أدلة بطلانه، وكيفية الاستغناء عنه.
وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
________________________________________
[1] - المسمار الذي يثبت الشيء المسمور؛ فكذلك المحلل يثبت تلك المرأة لزوجها، وقد حرمها الله عليه.
[2] - الوشم: تغيير لون البشرة إلى الخضرة، يكون بغرز إبر وحشو مكانها بكحل أو حبر، وقد كان ذلك فيما مضى من الزمن، أمَّا اليوم فقد ابتدع المغيرون لخلق الله أنواعًا أخرى من الأصباغِ المختلفة الألوان في الأظافرِ والشفتين والخدود.
[3] - انظر: محمد بن إسماعيل الكحلاني؛ "سبل السلام"، الجزء الثالث، كتاب النكاح، مكتبة الحلبي، الطبعة الرابعة، 1960 ص (128).
[4] - القافة: جمع قائف، وهو ما يشبه بين الناس، فيلحق الولد بالشبه.
[5] - التاط به: التصق به وثبت النسب بينهما.
[6] - الأحموقة: الأمر البالغ في السفاهة والحماقة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: