لا تشربوا حليبا ولا تأكلوا وجبتين في اليوم!
أو مجتمع الاستهلاك بين الترهيب والترغيب
د. خــالد الطــراولي
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9952 ktraouli@yahoo.fr
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
نعم سوف يتفاجأ القارئ ظانا أنه يتصفح موقعا للمطبخ وصنوف الأكل، نعم ليس المقال وصفة للحمية ولا تركيبة لأكلة شهية، وليس المقام ركن كيف تحافظ على رشاقتك ولا كيف تطبخ بدون كولسترول...
المقام مع الأسف غير هذا بكثير.. المقام حزين ومتوتر... كلمات سياسية جدية من شخصية مرموقة، حيث أعلمتنا الأخبار أن المستشارة الألمانية أرجعت الأزمة الغذائية العالمية الحالية التي تضرب الكثير من البلدان الفقيرة والتي في طريق النمو، أرجعتها سيادتها إلى الهنود والصينيين حيث قرر هؤلاء نتيجة تحسن أوضاعهم الاجتماعية أن يأكلوا مرتين في اليوم عوض مرة واحدة وأن يشربوا الحليب بعد أن كان محرما عليهم... وهذه الأطروحة يعاد تشكيلها بصفة علمية وإعطائها الجانب الموضوعي عند تفسير الأزمة الغذائية العالمية الحالية.
رغم أن دخول الصنيين والهنود إلى منازل الكرامة الإنسانية، بُعدُُ لا يجب إنكاره أو تجاهله، إلا أن الصورة تبدو مغشوشة ولا شك، والمرآة العاكسة لها أكثر غشا حيث يتجلى المشهد حزينا يدفع نحو مناطق الافتراء والاستخفاف وقلب الحقائق وتغطية الفواجع...
لن ننكر حالة العدم والفشل والتخلف والهزيمة التي تضرب بلداننا..، لن نختبئ وراء حكومات عاث بعضها في أوطانها فسادا وإفسادا... ولكنا لن نخفي فشل نماذج التنمية التي أوجع كل من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي رؤوسنا وهو يعتبرنا مخابر لنظرياته وتصوراته، لن ننسى فصولا من تاريخنا حيث ابتزت ثرواتنا وبقي الجنوب جنوبا والشمال شمالا وبينهما خنادق وبروج...
أليس هذا هو نموذج الاستهلاك الذي يطرق آذاننا ويجلب أنظارنا ليلا ونهارا، أليست هذه ثقافة الاستهلاك التي يراد لنا اتباعها، فلم يكن الصينيون والهنود أصحاب بدعة بل أنهم اتبعوا ما نصحوهم به في اتباع نموذج مهيمن وعالمي. ومع ذلك فلم يأكلوا بعد الهمبرغر والآيس كريم، وكل حواشي وطفيليات الاستهلاك الغربي واكتفوا يملئ بطون كانت خاوية، بضروريات الحياة حليب ووجبتين في اليوم!
إن نموذج الاستهلاك الذي أثبتته الحضارة المهيمنة واعتبرته جزء مهما من تفوقها وإحدى الصور الحالمة لجمالها ولقوتها، والمرتكز أساسا على مبدأ "تستهلك لتعيش وتعيش لتستهلك" أضحى النقطة الهشة لكل البناء النظري والتطبيقي، حيث بدت النظرية لا تستطيع أن تتمثل في أكثر من نموذج محدود ومغلق على بعض الاقتصادات، وفي اعتبار عدم محدودية الثروات أو عدم زوالها المتسارع بنسب مرتفعة ومخيفة. كما بدا البعد التطبيقي مترهلا حيث أصبح أحد العناصر النشيطة للنموذج وهو الاستهلاك بابا مفنوحا لتقويض كل البناء والدفع بالمجتمع العالمي نحو الهاوية. ألا تقشعر الأبدان ويهتز الوجدان وتنتابنا الأحزان حين نفكر ولو قليلا ونتساءل كيف حال العالم لو عُمّم نموذج الاستهلاك الحالي بتطرفه ومغالاته المعروفة على نصف المعمورة [الصين والهند] وأصبح كل هندي وصيني يريد أن يركب السيارة رباعية الدفع، وما يتبعها من هلاك بيئي رهيب وعاجل. إن الهندي والصني والمصري والمغربي والافريقي وغيرهم من سكان هذه المعمورة التي حباها الله بكل نعم [وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ] [الحجر21]، لا يرجون السقوط في هذا المستنقع وإن كانت الدلائل اليوم تؤكد على هذا المسعى المخيف نحو النهاية كالتي تبحث عن حتفها بظلفها..، إن ما يطلبه هؤلاء... حليبا ووجبتين في اليوم لا أكثر ولا أقل!!!
يقول سارج لاتوش وهو أحد كبار منظري التنمية في العالم "إن التنمية تعني في المفهوم العام مستوى عيش و رفاهية للجميع و هي تعني لدى جماهير العالم الثالث قوة استهلاك مماثلة للأمريكي المتوسط و لدى حكوماتها الدخول إلى نادي البلدان العظمى (بامتلاك القنبلة الذرية)."[1]
حتما سيقولون للعربي لا تأكل رغيفا واحدا بل نصف رغيف، فقد ثبت في علم الأولين والآخرين أن من اكتفى بنصف رغيف لم يمت ولم يمرض و كان من الزهاد والصالحين، وسيقولون للإفريقي لا تجزع ولا تترك بطنك تنتفخ جوعا، واكتف بالمرق إن لم تجد خبزا فقد ثبت أن الماء حمال أوجه، وسيقولون للآسيوي الفقير ابق على رشاقتك ونحالة جسمك واكتف بحفنة من الأرز السقيم، ففيها خير كثير ألا ترى ما نقاسيه نحن من أمراض التخمة والجشع، يموت بعضنا وهو يرد غصبا إتمام لقمة ارتعشت لها كل أطرافه...
حتما سيقولون للجميع من فقراء هذه القرية الكونية أو كما يزعمون، أن غذاء الروح قبل غذاء الجسد وأن لقيمات إن وجدت خير من الدنيا وما فيها، وأن من أصاب حبات قمح، فليعدها قبل أن يأكلها فهو خير له ولأهله وتلهية له عن الجوع، وتعظيما للفعل الذي سيقدم عليه وتقديرا لِشأنه، فهو سيأكل وهذا كثير! حتى إذا أكلها عرف قدرها ومقدارها ولم يكن من الغافلين حتى يعلم حق النعمة عليه!
حتما سيقولون لنا اخفوا عنا هذه الكلمات وهذه اليافطات وهذه العناوين ولا نريد رؤيتها ولا التيقن من وجودها : كاد الفقر أن يكون كفرا...أعوذ بك من الكفر والفقر...لا يؤمن أحدكم وجاره إلى جانبه جائع...وصلى الله على محمد.
----------
1- سارج لاتوش " هل يجب رفض التنمية " PARIS PUF 1988 P : 7