شريفة بنزايد - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5899 dhibi_chrifa@yahoo.fr
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
إن ما يفسّر تشكّل الفكرة الذهنيّة في صورة ماديّة هو البحث الذهني للمبدع و سعيه الدءوب في تمثيل فكرته الفنيّة بأسلوبه الخاص وتعبيره الذّاتي ، و الساحة الفنيّة العربيّة تحاول بناء علاقة تأسيسيّة مع التّراث من خلال استغلال العلامة و الرّمز كموروث ثقافي و فنّي حيث يتمظهر هذا الرّمز الثّقافي في المجال البصري التشكيلي ،فيه تجسيد للموطن و الجذور’ان التّراث ليس كيانا ثابتا موجود هناك...بل ان التّراث يسير معنا في رحلة الزمان ولا مفرمن ان نعمل على ربطه بحاضرنا و توظيفه كقوّة توجّه حياتنا ‘ فلم يكن التّحول الذي يشهده العالم بمعزل عن التّحول الذي تشهده البنية الفكريّة العربيّة ، حيث تنبهت إلى الغزو الثقافي الغربي تجاه البلدان العربيّة ، فحاولت التصدي له من تنظير لمفهوم الهويّة و الأصالة ومحاولة لتأسيس منهج ثقافي ، وهو المسؤوليّة الثقافيّة من أجل تثبيت الذاتيّة ‘ فالتّاريخ المشترك و قوامه الزمان المشترك ، يتألّف من المجموعة البشريّة التي تربط بروابط المسؤوليّة الواحدة ، مسؤوليّة العطاء و الإبداع وهو الانتماء الحقيقي و ليس الشّكلي فرابطة الدّم هي رابطة شكليّة نظريّة أما رابطة المسؤوليّة فإنها تصدر عن الانتماء الطوعي الفاعل ‘
فالتّراث له تأثير نفسي داخلي للإنسان يعزّز الذاتيّة و التميّز و الفرادة خاصة فيما يتعلق بالعمل الإبداعي، و الفكر الفنّي هو الكفيل بالارتقاء بهذا الفنّان أو ذاك وتقدير قدراته النقديّة على أساس أنه واع لما يحيط به بالرّغم من الاستدراج الفكري الذي يحاول حصره داخل ترهات فارغة و مخادعة و إقناعه بزيف النظرة الفنيّة البحتة وحشره في زاوية فلكلوريّة ، وهو بذلك لا يقزّم من قيمة الفلكلور فيبقى دائما الفلكلور قيمة ثابتة للشخصيّة الثقافيّة و لكن وجب عدم الاستهتار بالهويّة الذاتيّة التي تجمع داخلها عدة معطيات، في محاولة للبناء و التكوين النّاضج و الذي ولّد في تراثه دافعا و محمّسا للمستقبل تفعّل فيه الذاكرة الموقف البنّاء الواعي . لينفعل الفنّان المنشأ والمتقبّل و يتقاسما الفعل الإبداعي الحقيقي ويثير بواطن الخلق و يستشرف معالم المستقبل في صيرورة و كينونة متدفّقة تجمع الذوات تحت حيويّة الخلق الإبداعي الواعي بين المرجع الثقافي التراثي وبين التعبيرة الحداثيّة المعاصرة . ولعلّ هذا الخطاب يعبّر عن امتثال الفنّان للتغيّرات في الذهنيّة الفكريّة المعاصرة و التي أصبحت تنظر إلى التراث نظرة نقديّة و تساؤليّة حول ماهيته و تفعيل دوره تفعيلا صحيحا، بحيث يمكن أن يشكّل مخزونا إبداعيّا يقع استغلاله استغلالا واعيا وممنهج داخل النّظرة الفنيّة التي لا تريد التعلّق بأحبال واهية تسقطها في متاهات الغربة داخل الماضي و التراث و إنّما هي نظرة إستشرافيّة تحاول تكوين مصطلح فنّي أصيل معايش للمحيط و العصر. فأن نجعل من الرمز و العلامة التراثيّة مادة للتّشكيل الفنّي، هذه العلامات و الرّموز التي تسكنها فلسفة بصريّة فكريّة وهو ما مكّن من الولوج في جوهر هذه المادة الثقافيّة (نقوش,رموز ,الوشم ...) و الاستفادة في طاقاتها الجماليّة حيث كانت التّجارب الفنيّة متجذّرة في التّراث و الأصالة في الوقت الذي كانت تتّطلع إلى خلق تجارب تشكيليّة حديثة مثال ذلك الفنّان الجزائري رشيد القريشي و المغربي فريد بالكاهية و إبراهيم العزابي و نجيب بالخوجة وغيرهم ... ممّن وجدوا في العلامات و الرموز التراثيّة منطلقا لمختلف أعمالهم الفنيّة فكانت المادة التعبيريّة مشبعة بالأشكال و الرّموز تبعا للثقافة المحليّة حيث تكشف عن بنيات أساسيّة تؤسّس لتنظيرات، لتخرج مادتها إلى سياق روحي ترتبط بقيمة الرموز و الأشكال المرسومة ، حيث تجعل سطح اللوحة منشأ لتتكشّف التكوينات ذات صبغة بدائيّة لها خصائص محليّة ، و كأنّ الفنّان هنا يغذّي شعوره الرّوحي من خلال تنشيط فضاءاته الفنيّة ليبدأ رحلة البحث عن الحقيقة عبر العلامات و الرموز و الخطوط ، أشكال مجرّدة و تكرار لامتناهي في تعبير حسّي يتحوّل فيه الّرمز و الكتابة إلى مادة للرّسم ، فقوّة و ثراء الكلمة و الرّمز في أعماله تعبر عن أصالة و انفتاح ، فككل أثر له ظروفه التي أنتجته فداخله يضمّ عالما من الأشكال و الألوان و المواد التي تختزن مفاهيم و إيحاءات يصعب إدراكها او فهمها من خلال إدراكنا الأوّل لها فالأثر ،أثر لفنّان ، شكل أثره ليصوغ علاقات و سياقات فنيّة واعية و قصديّة نظام و فوضى ، تضايف بين الأشكال و الألوان ، قدّمها في صورة ولادة لعالمه الجديد ،علامات و رموز هي تجسيد لخبرة الفنّان و معرفته الجمالية ، اختبرها و جسّدها ليجمع بين المتخيّل الذّهني و المتكيّف مع تقنياته وخاماته الماديّة المطروحة أمامه تخطت زمانها و مكانها ،كانت عين الفنّان فيها عينا عربيّة رغم انفتاحها حاولت تبيان الثّقافة داخلها ، فحوّلت كل ما تراه إلى منطقها التّشكيلي كان خطابها خطاب ،أنا الفنّان بكل ما تحويه هذه الأنا من أسس ومعرفة و مبادئ و قناعات، هذه الأنا التي استطالت في بحثها المستمر لانكشاف عالم فنّي جديد يفتح لها إمكانيّة المشاركة في تأسيس مدينة على مشارف المستقبل ‘ المدينة العربيّة المستقبليّة هي مدينة العصر بكل منجزاته ولكنّها قبل أي شيء هي مدينة الإنسان العربي ‘ وهو ما يفسّر إنكبابه و بحثه في تراثه، فأضحت العلامات و الرّموز الموجودة في مختلف المجالات التزويقيّة و الزخرفيّة التقليديّة ، ملاذه ومنبع إبداعه التّشكيلي المعاصر، و للحقيقة فانّه لامفرّ من طرح مسالة التّراث والحداثة في ظلّ ما تعيشه السّاحة الفنيّة للّوحة التشكيليّة العربيّة إلى يومنا هذا فاصبحت هويّة هذه اللوحة ضبابيّة، لا تكاد تعرف مأتاها،ولم تستطيع حتى تلك الرموز والعلامات التراثيّة من الاعتراف بها وان مثّلت بعض العناصر التراثيّة طوق النّجاة للبعض ، فإنّها فتحت أيضا طريق للضّياع للآخرين، ورغم انّ بعض هذه الّتجارب تلمّست بوادر التّحرر الثّقافي سواء ان كان ذاتيّا أو خارجيّا ، فإننا لا نستطيع الجزم حول الهويّة الثقافيّة للّوحة العربيّة عامة ، ولا نملك صورة واضحة لها ، لا في اذهاننا ولا في اذهان الاخرين وهو ما يلزمنا بضرورة الوعي الكامل والشامل للخصوصيّة التّي تحملها اللّوحة عندنا وضرورة تفسير هيمنة اللّوحة الغربيّة بكل مقوماتها على جميع مستويات الفنّ، ان كان ممارسة او تدريسا ‘ورغم ان جمالية اللوحة الغربية كثيرا ما تأخذ من جمالية اللوحة العربية فيما يخص الفنّ الإسلامي و لا يقتصر الأمر حول هذا التّأثر و إنّما حول المأخذ أو نظرة اللوحة الغربية و فنانيها إلي الفنّ الإسلامي’ ف’بقدر ما هم يقرّون بإستيحائهم من التراث الصيني مثلا ،بقدر ما نجدهم صامتين عندما يكون مصدر إيحاءهم التراث الإسلامي ‘ ونحن بذلك لا ننظر إلى المسألة نظرة تشاؤميّة ، بل بالعكس نظرة مستقبليّة ، تحفّز على ضرورة الفهم و الوعي بالخصوصيّة الثقافيّة .
------------
المراجع و المصادر :
+أبو راشد (عبد اللّه):التّذوق و النّقد الفنّي دمشق منشورات وزارة الثقافة الجمهوريّة العربية السورية 2000 .
+قوبعة (خليل): الفنّ التجريدي العربي الإسلامي من كتاب فعاليّات أيام الخطّ العربي 29 سبتمبر 12 أكتوبر 1997 وزارة الثقافة المجمّع التونسي للعلوم و الأداب و الفنون بيت الحكمة .
+الناصر بن الشيخ الملتقى العربي في الأنماط المعاصرة للفنون التشكيلية العربية الحمامات من 4 إلى 11 سبتمبر 1972.+عفيف بهنسي ‘خطاب الأصالة في الفن و العمارة ‘ دار الشرق للنشر الطبعة الأولى 2004 .
+عفيف البهنسي ‘العمران الثقافي بين التراث و القومية ‘ دار الكتاب العربي الطبعة الأولى 1997
+المهدي المنجرة ‘قيمة القيم ‘مطبعة النجاح الجديد الدار البيضاء 2008
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: