د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6834
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
مع زحمة الأحداث التي تعيشها الأمة العربية وما يبدو من ارتفاع في وتيرة تسارعها أمام أعين الجميع، أصيب تفكيري لفترة طويلة بعُطل، أُغمد بموجبه قلمي، فعجزت عن التفكير وعن الكتابة في ذات الوقت. لكن طبيعتي الرّافضة للاستسلام دفعتني من جديد للتأمل وتحليل ما حلّ بي من تقاعس أولا والبحث في أسبابه على مستوى دوائر اهتمام مختلفة، تتقارب حينا وتتنافرا أحيانا أخرى ثانيا.
انطلاقا من الحكم على ما يجري من حولنا الذي وصفناه بالأحداث المتسارعة، أقول من البداية بأنّ كل تلك الأحداث، بحلوها ومرّها لا تتسم بالتسارع ولا بالتباطؤ، بل هي أمور عادية لو أننا نظرنا إليها في سياقها التاريخي الثوري. فلو عدنا بالذّاكرة الفردية والجماعية إلى الوراء قليلا لوجدنا أننا كنا نتأثر بالأحداث دون أن نشارك في صنعها؛ ومن اللحظة التي تحولنا فيها من أقنان إلى أسياد، فاعلين في صناعة الحدث، بعد طول غياب، تحملنا مسؤولة لم نتعود عليها من قبل، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، لم نتمكن من التخلص بالكامل من تصّحر الماضي الذي كنا فيه متفاعلين بامتياز.
في هذا الوضع الجديد نحاول جميعا ودون استثناء القيام بأفعال ونرفض في ذات الآن تحمل مسؤولية أفعالنا، وبالتالي عمقنا من حيث لا نشعر حالة قديمة من الشكيزوفرينية الجماعية التي تدفعنا دفعا للتّملص من تبعات أعمالنا (الحرّة) والإلقاء بها على الدولة، لأن عقلنا الباطني الجماعي المتواكل لا يزال أسير وهم الدولة الوطنية.
غرضي من هذه المقدمة محاولة التّوصل إلى فهم موضوعي لسلوكيات المجتمع المصري تحديدا. تنتظر مصر نتائج الانتخابات الرئاسة التي سيعلن عنها خلال سويعات قليلة وسيعلم الأخوة في مصر من سيحكمهم بعد الثورة. وبغض النظر عمن سيكون الرئيس المنتخب، نرى بكل وضوح الأزمة النفسية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها إخواننا هناك. أزمة تجلت أعراضها في ضعف الإقبال على التصويت بعد أن أدارت نسبة عالية من المصريين ظهرها للديمقراطية الناشئة وهي تتدّرب على أولى خطواتها. ويبقى السؤال المطروح بكل إلحاح، لماذا هذا العزوف؟ لعل الإجابة تكمن في عدم فهم المثقف المصري لنفسية الإنسان العادي، هذا الإنسان الذي لم يتمتع لحظة بآدميته على امتداد عقود طويلة، كان فيها عبدا لأهواء الحاكم وحاشيته، يرقب استلابه وسلبه، يهادن السلطة ويتملقها تارة ويسخط عليها في سرّه تارة أخرى، بين عشية وضحاها يُوهم بأنه تحوّل إلى سيد حرّ له كل الحقوق، بفضل ثورة لم يبق منها سوى (إلى حدّ الآن) حق الإدلاء بصوته في مناخ اجتماعي واقتصادي متردّي، وهو إحساس دفين/مرير في نفس كل عربي.
لا أحد ينكر أن التصويت حق ولكن هو حق يراد به باطل في زمن الرداءة، وهذا ما تفتح عليه وعي المصريين الذين لم يلمسوا تحسّنا في أوضاعهم المعيشية، بل العكس هو الصحيح، الرشوة الأفقية (أي بين شرائح المجتمع المحرومة لقضاء بعض جوائجهم) والتي كانت تحصل هنا وهناك وبستر الله، أصبحت اليوم رشوة عمودية (أي من الأعلى إلى الأسفل) معلنة ودون حياء من الله، يمارسها أنصار من قدّموا أنفسهم لرئاسة البلد.
لقد خلق بعض المثقفين المنتمين للتيار الإسلاموي، زمنا إفتراضيا للهيمنة على عقول البسطاء، جعلهم يضعون ساقا في الجنة (قبل الأوان وأخرى في جحيم الحياة)، فإن أعطى المصري صوته لهذا المرشح فسيدخل الجنة وإن كان العكس فسيخلّد في النار. أدخل هذا التفسير المسطح على النفوس المؤمنة بفترتها الرّعب من الآخرة التي نحن جميعا قادمون عليها برحمة ربنا لا بأفعالنا. ساهم هذا التلاعب بمشاعر المسلمين في إحاطة المشهد الانتخابي بكثير من التعتيم والضبابية التي حجبت الرؤية على الغالبية المصرية، غيّبت الموضوعية وأطاحت بالمصلحة العليا للبلاد. أما المثقفين من التيارات السياسية الأخرى فقد وقف أفضلهم متفرجا على هذا العبث السياسي السخيف ولم يقاومه بالفكر المستنير ولم يقارعه بالحجة الدّامغة، حتى ينقشع الغيم على أبصار الناس وتفتح البصائر على الواقع المعيش في الدنيا وليس في الآخرة. في نفس الوقف عاضدت شريحة ثالثة من المثقفين/البليتكلوجيين(*) مواقف المتلاعبين بالوجدان الجماعي وساهموا في انحراف المسار الديمقراطي المنتظر في كل أرجاء العالم العربي. تلك هي برأيي، أكبر عملية غشّ وتضليل مارسها المجتمع السياسي على المجتمع المدني.
لقد زهق الحق في بلدان الربيع العربي تحت ضربات أنانية البليتكلوجيين، الانتهازيين، الطامعين في الحكم وانتصر الباطل، لأنهم لم يراعوا في حساباتهم مصلحة البلاد ولا أقول الوطن، لأن مفهوم الوطن يتطلب مواطنة والمواطنة تحتاج مواطنين وكلاهما مفقود في مجتمعاتنا العربية. إنّ المتأمل في الخارطة السياسية في مصر كما في تونس، يلاحظ غياب الثوّار الحقيقيين عن الصراعات السلطوية، وقد كنت شرحت في مناسبات عديدة أسباب هذا التّراجع الذي لا مبرر له سوى وطنيتهم الحقّة، فلم يكونوا لا في مصر ولا في تونس طالبي حكم ولا سلطة ولا سلطان. إنّ نُبْلَ أخلاقهم جعلهم لا يستبدلون الذي هو خير بالذي هو أدنى، لكن هذه العفّة وهذا التّعفف لم يُقْرَأ كذلك عند الذئاب الكاسرة، المتربصة، المتحينة لغفلة الغافلين الذين أهدوا لهم انتصارا تاريخيا على أعدائهم التقليدين من حكّام مستبدين، شردّوهم وقتّلوا أبناءهم واستحيوا نسائهم...
كان الثّوار المصريون في تعاملهم مع ثورة 25 جانفي/يناير 2011 يراوحون بين الغفلة واليقظة. لقد شاهدنا سخط فريق منهم على القضاء المصري وهو قضاء مشهود له من أهله بالنّزاهة والشرف والمهنية ولم يقبلوا بالحكم على الرئيس السابق "محمد حسني مبارك" وأحد مساعديه بالسجن المؤبد وراحوا يقيمون المحاكم الثورية في الساحات العمومية لإعدام رئيسهم المخلوع ومعاونيه. هل هي يقظة من بعد غفلة؟ ثم لماذا لم يمارسوا حقهم الثوري في إبّانه؟ لو أنّهم فعلوا ذلك في حينه، لأسقطوا الدولة برمّتها، بمقدّسها ومدنّسها، غير أن الوطنية المتجذّرة في العمق الأنثروبولوجي للمصريين، تغلبت على الثورية/العفوية/الساذجة. لو أنّهم فعلوا ذلك في زمانه وفي مكانه، لتجّنبوا التّشكيك في القضاء المصري ونأوا بأنفسهم عن التطاول على مؤسسة القضاء التي ستُفْهَمُ عدالة أحكامها بعد مرور العاصفة. لو أنهم حافظوا على ثورتهم بالسيطرة على الدولة، لَمَ أضحوا قاب قوسين أو أدنى من الصدام مع المجلس العسكري ومن ورائه الجيش، هذا المجلس الذي يوشك أن يلقي يمين الطلاق على الثوّار والأحزاب والمجتمع وينقلب عليهم جميعا، ليعيد البلاد لأحكام الطوارئ... الخ...
لقد وقعت الثورة المصرية في نفس الأخطاء المنهجية التي وقعت فيها الثورة التونسية (مع بعض الفوارق الطفيفة غير المؤثرة في المسارين الثوريين). كل من الثورتين تبحثان عن قيادة (ولو بمفعول رجعي) تحميهما من المتطفلين والثوّار الزائفين، اللاّهثين وراء المناصب والثروة والشهرة. كلا الثورتين تمزقهما استقطابات إيديولوجية داخلية وخارجية، متنافرة شكلا، متوافقة مضمونا، هدفها الرجوع بالتاريخ إلى الوراء. في هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه الأفكار وأنا أتابع على كل القنوات التلفزية مليونية في ميدان التّحرير. وعلى نقيض المليونيات السابقة التي وحدت الشعب المصري بكل أطيافه السياسية وكل شرائحه الاجتماعية، تأتي مليونية يوم 19 جوان/يونيو 2012 لتعبّر عن الفرقة والتّشتت والانقسام. يعبر قسم من المتظاهرين عن فرحة فوز الإخوان المسلمين بفوز مرشحهم في الانتخابات الرئاسية قبل الأوان، غايتهم احتلال الشارع المصري تحسّبا لفوز "الخصم" بغزو اللاوعي الجماهيري في أول عملية غسل دماغ جماعية تقع في عالم البوليتكولوجية وفرض سياسة الأمر الواقع على الشرعية؛ وهذا مناف لكل الأعراف الانتخابية في العالم الحر ومعارض لكل التقاليد الديمقراطية. قسم ثاني ينادي برحيل المجلس العسكري، قسم ثالث يطالب بإلغاء قرار المحكمة الدستورية القاضي بحلّ البرلمان، قسم رابع ينادي بإلغاء الإعلان الدستوري المكمّل وقسم خامس... وقسم سادس... الخ... ومصر تحترق في آتون الخصومات المذهبية والصراعات السياسيوية والحسابات الشخصية الضيقة.
في خضم هذه الفوضى العارمة لا يتوانى المثقفون/المتفقهجون في سكب البنزين على النار ولم يدركوا أن الجميع مشارك في إجهاض الثورة ومساهمون في التآمر الجماعي على مصر الحبيبة. الكل (عايز يقول) وليته قال خيرا أو صمت، ليته قدم نصيحة أو شرحا للوضع المتأزم الذي لا تخفى تداعياته على مصر ومن بعدها الأمة العربية بأكملها. لقد ساهم الجميع في طمأنة الأعداء المتربصين بهذه الأمة المنكوبة ونقل الرّبيع العربي إلى ربيع إسرائيلي كما قالها من قبل "بنيامين ناتنياهو" رئيس وزراء العدو. في ظل هذه الأحداث لا يسع إسرائيل إلا أن (تضع في بطنها بطيخة صيفي) لأن القضية الفلسطينية (ستغور في ستين داهية) وأن العرب الذين استفاقوا، لم يستفيقوا ليعودوا إلى الحضارة وإلى التاريخ، بل استفاقوا ليحيوا خلافاتهم وتقاتلهم على (داحس والغبراء) وليذهب كل فريق منهم بما لديهم فرحون.
إذا ما حصل هذا (لا سمح الله) وذهب كل فريق سعيدا بما حصل عليه من الكعكة، فلا معنى لهذا إلا أن تقسيم مصر إلى دويلات وهو ما أصبح وشيكا لا محالة؛ وما حدث في السودان ويحدث حثيثا في العراق وفي ليبيا خير شاهد على ما أقول. تخوض إسرائيل حربا على مصر بأيادي المصريين أنفسهم، سيكون انتصار إسرائيل مناصفة مع إيران الباحثة عن متنفس سياسي وجغرافي لتحويل الأنظار عن برنامجها النووي. وأقولها صريحة لا يحق لكائن من كان من الأخوة الأعداء في مصر أن يقول (يريت إلّي جرى ما كان) ويصبحوا ونحن معهم "أندم من الكسعيّ" لأنّ براقش قد جنت على نفسها ونندم حين لا ينفع الندّم، فاعتبروا يا أولي الألباب.
---------
*) البليتكولوجية، صفة لمدّعي السياسية أو البوليتيكا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: