د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 10824
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تتوالى الأحداث السياسية في بلدنا تونس وتراني ككل متابع لتغيّرات الشأن التونسي بعد الثورة، متفاعلا مع مجرياتها. من واجبي الوطني ومن موقعي كأستاذ جامعي متخصص في علم الاجتماع الذي أرى فيه مدخلا مناسبا لتقديم بعض الشروح لمجريات الأحداث السياسية بالأساس التي طال تعشنا إليها. وبع (بعد طول انتظار) ها هي تتوالى التغيّرات متسارعة، لتعيد للدولة التونسية هيبتها من ناحية وتعطي المجتمع نفسا جديدا في التعاطي معها من ناحية أخرى.
آخر المستجدات انتخاب رئيس للدولة، هو أول رئيس للجمهورية الثانية (رغم وصفه بالمؤقت)، غير أنه يستجيب لضرورة ملء فراغ سياسي طال أمده. إنها الخطوة الثانية على درب الديمقراطية في تونسنا الحبيبة.
أسمحوا سادتي القراء الكرام أن أعبر عن عواطفي في مطلع هذا المقال، مشاعر لا أظنن أني قادر على إخفائها في لحظة تاريخية، فريدة من نوعها، متميزة في جنسها، أتت في زمان خلنا أننا لن نعيشه مهما طال بنا العمر. "حلم لاح لعين النّاظر" المنتظر، يتجسد ونحن لا نزال على وجه البسيطة.
لم تكن فرحة الدنيا بأسرها تكفي أعبر عن السعادة التي غمرتني وأنا أتابع كملايين التونسيين على شاشات التلفزات العربية والوطنية وجميعها تنقل على الهواء مباشرة لحظة استقبال رئيس عربي، منتهية ولايته، رئيسا عربيا منتخبا لتوّه من نوّاب المجلس الوطني التأسيسي التونسي. عانق الأول، الثاني بعد أن استقبله وهو ينزل من السيارة الرئاسية، ثم يقتاده داخل أروقة قصر قرطاج، المقر الرسمي لرئيس الجمهورية. وصلا الرجلان إلى مكتب الرئيس، جرى بينهما حوار، في تقديري هو حوار تسليم قيادة البلاد ومقاليد الحكم.
وأنا في قمة الانتشاء، هتف بي هاتف يقول بصوت واضح لا لبس فيه: " أيها الغبي، العاطفي، ما كل هذه الغبطة والسرور؟ لماذا هذه الدموع المترقرقة في مقلتيك؟ ما ذا سلّم هذا لذاك؟ هل كانت الوديعة حقيبة مفاتيح القوة النّووية مثلا؟" صرخت بسوط مرتفع، مسموع من غير شعور ولا حساب: " أصمت أيها اللّعين، المثبط للعزائم الذي لا يرضيه العجب العجاب. أ لا تبصر أن الرئيس، المنهية ولايته إلى الرئيس الجديد ما هو أهم وأعظم من حقيبة مفاتيح القوة النّووية؟ لقد سلّمه القنبلة الذّرية وربما الانشطارية بعينها، سلّمه ثورة التونسيين ذات الموجات التّرددية التي هزّت عروش أعتا الطغاة وأسقطت أشدّ أباطرة الزمان العربي المعاصر، ظلما وطغيانا...".
لم يتطلب هذا الحوار أكثر من ثوان معدودة، مفعمة بالعواطف الجيّاشة، مشحونة بآمال شعب خرج لتوه من دائرة الأقنان إلى دائرة الأحرار. كانت لحظة سجل فيها التاريخ الإنساني تحوّل حلم شعب إلى واقع، يطوي مسافات الزمن العربي والتونسي الجريح، ليفّعل آلية الديمقراطية كما كنّا نراها تمارس في الأمم (الرّاقية).
لأول مرّة يخرج رئيس عربي من الباب الذي دخل منه معزّزا مبجلا، مصافحا، معانقا، داعيا لخلفه بالتّوفيق في مهامه والنّجاح في القيام بمسؤوليات جسيمة. في نفس الوقت، يدخل رئيس منتخب سيرا على الأقدام، مرفوع الرأس بشرعية الانتخاب لا بشرعية الدبابة وتملق الأزلام...
وقف العالم فاغرا فاه مندهشا أمام شعب حطّم ولا يزال يحطم الصورة النمطية للعربي (الإرهابي... الدموي... العاطفي والمزاجي...)، لم يعرف رئيسا اعتلى سدّة الحكم في دولة عربية إلا على جثة سلفه و/أو حبسه و/أو تحديد إقامته... مخلّفا وراءه مكتسبات جلّها من غير وجه شرعي، يحق أن نصفها بالمغتصبات. من غير مزادية على أحد ودون نرجسية فردية أو جماعية، يحقّ للتونسيين جميعا أن يفخروا، دون تباه، بانتصارهم على أنفسهم أولا وانتصارهم على قيود عبودية، دامت على امتداد العقود الستة من النصف الثاني من القرن العشرين. عبودية في الداخل وتبعية للخارج التي خوّفت من أحفاد متمّم الأخلاق صلى الله عليه وسلّم، فألصقت بهم شتى الأوصاف المشينة، فجعلت منّا متخلفين عقليا ومصّاصي دماء؛ لا تكاد أقدمهم تطأ مكانا في "العالم المتقدم" حتى تسبقهم صورتهم السلبية لنا رسمها وسوقها حكّامهم وغذّاها مخيال عالمي مريض.
لقد أسست الثورة التونسية لأمرين رئيسيين، أولهما إعادة الكرامة للأمة العربية التي استجابة لدعوة التّحرر، فأيقظت القومية العربية من ناحية وأثبتت العمق الإستراتيجي للشعوب طال تشرذمها على يدّ عملاء، تستروا خلف زعامات زائفة، فرضوها بالحديد والنّار من ناحية أخرى. ثانيهما فتح باب النّدية بين شعوب العالم دون استثناء، فنحن (على رأي المتنّبي) "خير من سعت بهم قدم". خير أمة أخرجت للناس حولها حكّامها إلى أرذل أمة تعيش بين الناس، يلصق بها القاصي والدّاني ما ليس في طباعها.
لقد حطم تسليم السلطة بين رئيسا تونس الثورة جلّ، إن لم أقل سلبيات مقومات الشخصية القاعدية للمجتمعات العربية، من خنوع واستكانة ومهادنة وانجحار، سهّل استعبادهم حقيقة وجذّر في تصوراتهم الاجتماعية هالة من القداسة لمكانة الرئاسة ودورها في قيادة مجتمعاتنا العربية الرّاهنة دون مراجعة ولا مساءلة من حكموهم ومن ولاهم من ذوي الفساد الأكبر. لقد التحم الجزء الأول من ثورة التونسيين، رغم ما ذهبنا إليه من انحرافها عن مسارها الثوري الذي يمكن وصفه بـــ "الانحراف الإيجابي" الذي ارتضاها الشباب الثائر بإناثه وذكوره وقبل به كهولها رجالا ونساء بعد أن فصلوا (بدون استثناء) بين الدولة من ناحية وأنظمة الحكم من ناحية ثانية.
لقد اختار الثائرون في تونس مسلك العقلانية، الرّصينة رغم التناقض بين مفهومي الثورة والعقل، فحافظوا على الدولة وحموا أركانها ومختلف أجهزتها وهي في أشدّ حالات الضعف والوهن. جاء احترام التونسي وحبه لدولته على قدر سخطه على نظام الحكم ومنظومة الفساد والاستبداد. لم تمضي سنة على اندلاع شرارة الثورة حتى لملم المجتمع شتات الدولة وضمّد جراحها ليساعدها على النّهوض من جديد؛ وليس أدّل على ذلك، إسراعه في انتخاب مجلس وطني تأسيسي ورئيس لجمهورية ثانية لا ينقصها إلا دستور حتى تحكم دوائرها.
خطوتان رئيسيتان، أساسيتان تمّ قطعهما والأعناق مشرئبة للاستكمال الخطوة الثالثة وأعني تشكيل حكومة الائتلاف الوطني لملء الفراغ السياسي، في انتظار الخطوة الأخيرة، كتابة الدستور، باعتباره الضمانة القانونية لمسيرة جماعية، قوامها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية لدفع عجلة الاقتصاد وإرساء ثقافة موّحدة لوجدان جماعي يدعم انتماء الأفراد لمجتمع، لا إقصاء فيه ولا تهميش ولا تغيّيب ولا وصاية.
في أجواء التجاذب السياسي الذي تشهده الساحة الوطنية في تونس بين مختلف الأحزاب القديمة منها والحديثة ورجالاتها، تبقى الثقافة الغائب البارز في حراك سياسي واجتماعي ولد يافعا. غياب المثقف عن المشهد الجدي، أفقد الثورة جزءا من بعدها الإبداعي. يعيش المجتمع التونسي طفرة من التجديد الذي يتسم بالجفاف لافتقاره للمسة المبدعين من أهل الفن والثقافة. لمسة المبدع في تخليد أحداث المجتمع بحلوها ومرّها، بلطفها وعنفها، حاجة أولية وضرورة تاريخية لا غنى للشعوب والأمم عنها.
قد يرى البعض أني مصّرا على الجانب الثقافي المتغيب بقدر كبير عن مواكبة الثورة التونسية وانجازاتها بروح الفنّان المتخصص في ترسيخ الحدث بطريقة جمالية تستسيغها النّفس، فتتوارثها الأجيال جيلا بعد آخر، لتصنع منها ملحمة لا تمحي الأيام أثرها من اللاوعي الجماعي. كل الأمم تصنع من أمجادها أساطير، من أجل تثبيت الهوية ودعم الانتماء بشدّ الأحفاد إلى الأجداد، عبر جسر الآباء والأمهات.
ما كان أن تمر أمامي صور تحقق الحلم على أرض الواقع دون أن أعيرها ما تستحقه من اهتمام، وقد حاولت أن ابتعد دون إسفاف عن المنهج البحث العلمين الأكاديمي، الضامن للموضوعية وأعبّر عن مشاعري الشخصية وربما مشاعر جلّ التونسيين، بما فيهم المعارضة التي احترم موقف حجب صوتها عن انتخاب رئيس الجمهورية. مع كل تقديري واحترامي لشخص رئيس الجمهورية، لا أهتم كثيرا بالشخص في ذاته، بقدر ما يهمني المنصب الذي أصبح مفتوحا لجميع التونسيين ممن تتوفر فيهم الشروط الدستورية. نأمل أن تؤسس الثورة لرئاسة دون زعامة ولا تأليه، يكون الرئيس في هذا المنصب إنسانا يخطئ ويصيب، فإن أصاب فله أجران مع الاعتراف الجماعي له بالجميل وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد، على رئيس الجمهورية في كل آن وحين أن يقدّم منصبه على شخصه، ليفعّل الوظيفة في التّعامل مع قضايا المجتمع من ناحية بموضوعية وحياد ويقف على نفس المسافة من المواطنين، رؤساء ومرؤوسين، بما يقيه غضب الله ورفض المجتمع ولعنة التاريخ من ناحية أخرى .
لأول مرّة في تاريخ تونس يتمّ انتخاب رئيس للجمهورية دون طبل ومزمار، يصمّ الآذان بنشاز نغمات التزّلف ويزكم الأنوف بروائح الغّش والتزوير... أقول هنيئا للتونسيين جميعا برئاسة جمهورية، في انتظار تشكيل حكومة، منصتة، متبصرة، مستشعرة للمشاكل، قادرة على قراءة الأوضاع قراءة متأنية بعيدة عن الارتجال، مستعدة لتقديم حلول منطقية تجنبها الوقوع في الخطأ لتبحث عن حلّه بخطأ.
أتمنى بكل صدق لإخواننا في الدول الشقيقة التي استكملت ثورتها ميدانيا وتنتظر قطع الخطوة الأولى على درب الألف ميل باتجاه تقرير المصير، حتى نحقق جميعا من المحيط إلى خليجه، حلم الإنسان العربي في الوحدة والتّقدم والحرية...
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: