د.الضاوي خوالدية – تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6938 Dr_khoualdia@yahoo.fr
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
إن الاستبداد والفساد والإفساد لا تدر أرباحا وافرة ونفوذا كبيرا وجاها عظيما على المستبد وطغمته ومن لهم صلة بهما مباشرة وغير مباشرة وإنما يطال الربح المادي أحيانا والمعنوي أحيانا أخرى نخبا محسوبة على المعارضين للنظام الشمولي الفاسد ... تجد الرابحة معنويا منها في ظلام الاستبداد سترا لعورتها أو بالأحرى مبررا لعدم تحركها المسهم، عند استمراره وانتظامه، في زعزعة أركان الدكتاتورية يتمثل في غياب الديمقراطية إذ المثقف،حسب رأيها، لا يستطيع أن يقوم بوظيفته في مناخ لا يتيح الحرية الفكرية له ويعطيه كامل الصلاحية لاختيار ما يريده من مواقف، ناسية( هذه النخب ) أن النهضات والتنويرات والقفزات الحضارية الكبرى نظر لها وقادها وجابها أعداءها وضحى في سبيلها المثقفون، يقول أحد الثوار المنظرين في هذا المضمار:"بدون مشاركة المثقفين يكون النصر في الثورة مستحيلا" مضيفا: "يجب أن يكون لدينا جيش ثقافي لتوحيد صفوفنا وهزيمة العدو".
إن مبرر انعدام الديمقراطية الواهي يدعم بقوة (ويتلقى الدعم من ) حالة نفسية تعيشها النخب المذكورة هي الاغتراب أو الشعور الحاد بعدم القدرة على تقرير المصير والتأثير في مجرى الأحداث الكبرى أو المشاركة فيها أو وضع القرارات المهمة التي تتناول حياتها ومصيرها مما يولد حالة من العزلة واللانتماء تجعلها متنصلة من واقعها مستسلمة للأمر الواقع متفرجة حاكمة على مجتمعها بالتخلف العضال مولية العناية القصوى برزقها ومصلحتها الفردية بائعة في سبيلهما حبرها وأقلامها وماء وجهها، ولعل مبرر الخوف من عصا الاستبداد والشعور الحاد بالعجز واللاقدرة واللانتماء قد شكلا نمطا من المثقفين منبتين تمام الانبتات عن الواقع و الهوية بفعل عدم الانشغال بأوضاع الوطن والأمة المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية... الانشغال المجذر في التربة الوطنية المحبب للوطن وايلاء، عكس ذلك، الغرب، وعلى رأسه الدولة مستعمرتنا أمس، عناية قصوى بلغتها وحضارتها وحياتها وتاريخها... وواجدة في النظام القائم بعد خروج المستعمر أكبر داعم ومشجع ومحب لهذا النهج التغريبي والسائرين فيه. كان يمكن لظاهرة الشغف بتقليد الغرب والانبهار بمظاهر حضارته أن ينحسرا شيئا فشيئا مع مغادرة المستعمر البلاد مثلما وقع في الجزائر التي شوه المحتل أجيالا منها تشويها غير مسبوق، لكن الهيام البورقيبي بفرنسا وأوربا ركزهما وقواهما بالتربية والتعليم والثقافة والإعلام والسياسة والاقتصاد. إن هذه النخب التي وصفتها تضم تقريبا كل من رأى الغرب مركز الحضارة وأستاذ البشرية ومعلم السياسة والأحزاب والديمقراطية ودكتور الثورة والاشتراكية...
والمؤمنون بهذا في تونس كثر غير متجانسين بل متناقضين أحيانا إذ منهم من في السلطة (السابقة) ومن يعارضها لنهجها الاقتصادي (لأنه اشتراكي ) أو لنهجها الاستبدادي الفاضح لأنه يميل إلى انفتاح ديمقراطي أو لا يعنيه من أمرها الا ما يتقاضاه من مصالح، واستمرت هذه الحالة حتى تفاجأت (النخب) بقوى جبارة غير معروفة لديها المعرفة الحقة أو معروفة لكنها مستصغرة مستهانة تزحف زحف حمم البركان على الشوارع والساحات وكل ما يرمز للنظام في كل مدينة وقرية شعارها الكرامة والحرية والهوية والمساواة والعدل والقصاص من القتلة الفاسدين النهابين الجلادين فسرعان ما سقط رأس النظام فتوقف الزحف أو كاد حتى طمع بعض الفسدة أن الثورة انتهت أو أنها احتجاج سهل إسكاته فإذا بالزحف يتجدد فارضا انتخاب مجلس تأسيسي وطني لا يكمل الثورة فقط بل يجعلها إبداعا تونسيا بحتا يطوي، وإلى الأبد، صفحة نظام فاسد نتن لم تعرف البشرية أرذل منه ويفتح صفحة نظام جديد رشيد مدني ديمقراطي عادل حداثي، ورفضت جل النخب الموصوفة إجراء انتخابات المجلس التأسيسي لحاجة في نفسها دون جدوى ثم تقدمت وغيرها في شكل أحزاب وجمعيات ومستقلين بقائمات وانطلقت الحملة الانتخابية وانقسم المترشحون جميعا قسمين: قسما ضم أغلب النخب موضوع هذا المقال وقسما ضم أغلب النخب التأصيلية التي لا ترى الغرب القدوة الحسنة والمثال المحتدى في النهوض بالبلاد وإنما النهوض الحق كامن في فحص النفس التونسية وسبر أغوارها المظلمة وتحديد عقدها المزمنة فحصا وسبرا وتحديدا تبين للشعب أن مكبلاته النفسية والاجتماعية والسياسية ليست قدرا محتوما وان تفكيكها وتكسيرها وتفجيرها أسهل مما كان يتصور، أما الشعب فكان قد بت في انتخابات 23/10/2011 منذ أراد الحياة واستجاب له القدر.إن اختيار الشعب ممثليه اختيارا يفصح عن ذكاء خارق وشطبه غيرهم قد رج النخب غير المختارة المتحدث عنها حتى أن عناصر منها طلبت التدخل الفرنسي في تونس للمحافظة على العلمانية والحداثة والفرنكفونية واستفزت مشاعر الشعب ومعتقده بأقلام هابطة وكتابات جارحة وتصريحات ساقطة (قال أحد المعادين لهوية الشعب : لا يبنى الاقتصاد بقراءة الفاتحة ) وهددت الشعب ونخبه المختارة بالويل والثبور ثم أقامت مناحات ومندبات شوارعية على حداثة خصت بها فرنسا بورقيبة وخالعه دون غيرهما. إن خطاب هذه النخب وسلوكها قبل الانتخابات وبعدها هما اللذان أطاحا بها في هذه الانتخابات، فان كان خطاب هذه النخب غريبا عن واقع الشعب وشواغله ومعتقده كالدعوة الى العلمانية واللائكية واللاهوية والمثلية والحرية الجنسية جارحا لكرامة هذا الشعب الذي لم يحسن في نظرها الاختيار، محشوا بمصطلحات قديمة بالية ذات أبعاد ماركسية ولينينية واشتراكية وشيوعية مقتصرا على فئات تعيش في المدن الكبرى داحضا غالبا حجج زملائه في النخبة ضحلا فان سلوكه قائم في مجمله على سب الخصم وشتمه وتلفيق التهم له واستصغاره.
إن تونس في حاجة ماسة إلى نخب (يسارية) حقيقية متجانسة متجذرة في تربتها متعمقة في دراسة مجتمعها محترمة مقدسات شعبها ترى بعين تونسية وتسمع بأذن تونسية وتعقل بعقل تونسي وتذوق بلسان تونسي وتشم بأنف تونسي منفتحة على عيون الشعوب وسمعها وآذانها وعقولها وشمها...
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: