لحراك الدستوري أو حراك 18 أيلول/ سبتمبر أو حراك رفض الانقلاب، حدث واحد ولكن لم يتم الاتفاق على اسم موحد بعد. وهذه من هنات التحركات الشعبية العفوية الغالبة حتى الآن على مزاج الذين خرجوا ضد الانقلاب في يوم 18 أيلول/ سبتمبر ويوم 26 منه، في بعض المناطق داخل البلاد.
بين الجميع اتفاق ضمني على حماية الدستور من عبث الرئيس وفريقه، وعلى استعادة دور المؤسسات المنتخبة (البرلمان وهيئاته الدستورية وآلية اختيار الحكومة المستقلة عن الرئيس). لكن العفوية تحتاج إلى صوت واضح ومسموع، وبالتالي لسان ينطق باسمها ويوحد خطابها الذي تتنازعه أهواء كثيرة ومختلفة؛ بعضها ينحو إلى الثورية وبعضها يكتفي بخطاب القانون والمؤسسات. وبالنظر إلى أن هذا الحراك سيطول أمده حتى تظهر نتائجه، فإن فوضى التصريحات وكثرة المتحدثين قد توحي بوجود فوضى كتلك التي ترافق عمل الغوغاء غير المنظم.
ناطق رسمي بخطاب موحد يعني وجود قيادة خلف الناطق ترتب أبواب الكلام ومواقيته وتوجهاته وتحدد مواعيد الحركة والسكون، وتستعد للتفاوض باسم الحراك ومطالبه. هنا والآن تظهر مخاوف نحاول كشفها.
الخوف من كثرة الجنرالات
كثيرة هي الوجوه السياسية غير المتحزبة والوجوه الإعلامية الظاهرة في مقدمة الدعوات للتحرك والناشطة في واجهته، وهذا مكسب للحراك، ولكن فيه تهديد كامن؛ أن يتوهم هؤلاء أن حماس الحاضرين لهم هو تفويض مباشر لقيادة أو زعامة، وهذا الأمر مثير للحساسية في الشارع التونسي المسيس حتى العظم.
هناك نزعة خاصة يمكن تحديد معالمها وتحليلها؛ الشارع التونسي المسيس لا يوقر القافزين بسرعة إلى المواقع الأولى، وكل استعجال يقرأ بحذر مفرط ويُؤَول كطلب لمغنم خاص. لذلك فإن الكوكبة الأولى مدعوة إلى التريث والعودة إلى الصف من أجل بلورة أسماء محددة تعطي الإيعاز بالحركة والسكون، وتكشف قبل ذلك تجردها من كل رغبة في الزعامة أو (تدبير المكاسب الصغيرة).
لقد استقبل كثير من الحضور باستياء صعود أحد خطباء الحراك مرفوقا بحماية أمنية؛ مدارج المسرح يوم 26 بين جماهير عزلاء فوضته عاطفيا للكلام، فإذا به يحتمي منها موهما بوجود خطر على قيافته.
لقد كشف الحراك الدستوري عن مشكلة عويصة كامنة في الشارع التونسي منذ الثورة، خلاصتها رغبة في البروز والتصدر والكلام باسم الجماهير (الخرساء)، وقد شتت هذا جهود بناء كثيرة في تحركات كثيرة سابقة وأجهضها، والخشية أن يكثر الجنرالات في هذا الحراك أيضا فيتشتت الجهد وتذهب ريح الحراك سدى. لذلك فإن وجود إدارة (مكتب) تنظم الحركة وتنطق باسم الحراك بتجرد صار ضرورة حيوية، وهذه الإدارة التي لن تُنتخب بل تفوض ستحتاج قبل ذلك إلى خارطة طريق، أو خطوط توجيه عامة تحظى بإجماع وتمنع التنمر الفردي وتلجم النرجسيات.
خارطة طريق الحراك
قد تبدو واضحة للكثيرين لذلك كان الانخراط في الحراك سريعا وبلا شروط مسبقة رغم ذلك، فإن توضيح الواضحات هنا لن يكون من الفاضحات. فلا بد من إعلان مبادئ أو عناوين ظاهرة تؤسس لخطاب الحراكيين الدستوريين في السوشيال ميديا وفي الإعلام وفي حديث المقاهي، فهناك بعض الفوضى في الحديث الحماسي؛ كالقول بعودة البرلمان دون نوابه أو عودته بنواب دون آخرين، وهو قول مماثل لقول بعض معسكر الانقلاب، الاختلاف فقط في فرز من يحق له العودة ومن يطرد دون وجه قانوني.
نرى ولسنا من جنرالات الحراك ولا نرغب في ذلك (لكن هذا القول رسالة للجنرالات)، أن عودة البرلمان هي عنوان أول منه تعود الشرعية وفيه وبنوابه المنتخبين، مهما كانت التحفظات حول أدائهم قبل الأزمة تبدأ الحلول القانونية.
في البرلمان تعاد اللحمة حول الدستور، ويعلن كمرجع أول وأخير لكل شرعية سياسية قائمة وشرعية قادمة. في البرلمان يُحكم على أداء الرئيس ويقيّم فعله دستوريا، والنقاش يكون حول ما يجب فعله وليس حول من عليه أن يفعل. في البرلمان المحمي بجمهور الشرعية يناقش أداء النواب سابقا ولاحقا، وتناقش المصائر فيمن يقدم ومن يدعى إلى الصفوف الخلفية، بدءا برئيس البرلمان نفسه.
في غياب هذا المدخل القانوني نتوقع أنه سيذهب جزء كبير من الجمهور وراء مطلب عزل الرئيس في الشارع، أي خارج المؤسسات في ما يشبه الثورة الثانية. وهذا العزل الثوري جميل، ولكنه يحمل اعتداء آخر على الدستور، إذ يتجاوزه بشرعية شعبية لن تجد ضرورة للعودة إلى الدستور لاحقا، وستكون بمثابة انقلاب ثان على المكتسبات.
نرى من الصواب استعادة مضمون الفصل 80 نفسه، أي فتح البرلمان ليكون في حالة انعقاد دائم. وهناك وتحت ضغط الشارع الحامي الحقيقي للدستور (حيث يمكن إعلان اعتصام دائم حول البرلمان بديلا للدبابة التي تسد مداخله) تطرح خارطة الطريق للمدة القادمة.
في خارطة الطريق التي نرى
نقل ثقل التحرك حول البرلمان لحمايته من خارجه، والضغط عليه في الداخل لينجز جملة مهام محددة ودقيقة؛ أولها الاعتراض المبدئي على كل تعيين حكومي من خارج البرلمان. وقد أطلقت هذه الجملة في السوشيال ميديا صبيحة الثلاثاء (28 أيلول/ سبتمبر).
الشروع فعليا في إعداد قانون انتخابي جديد بناء على مقترحات سابقة يتم تطويرها، وقد سمعت أحاديث كثيرة في هذا الاتجاه لكن البرلمان هو المخول الوحيد بهذا التشريع، مثلما أنه المخول بإلغاء المراسيم الصادرة عن الانقلاب ومحو أثرها القانوني على مؤسسات الدولة.
إعلان مدة زمنية لبقاء البرلمان الحالي وتحديد مواعيد لانتخابات تشريعية قادمة، فهناك روح عامة داخل الحراك يمكن تحسسها بسهولة. استعادة البرلمان لدوره ليست هدية للنواب، وفيهم كثير لا يود الشارع سماع أصواتهم ورؤية وجوههم. ومناقشة قانون المالية وإعداد موازنة السنة القادمة يدخل في واجبات البرلمان دون كثير نقاش.
مناقشة مطلب العزل بناء على تفاعل الرئيس ومعسكره مع الحراك الدستوري، فلا بد من إقامة الحجة القانونية على تنطع فريق الانقلاب. ويبدو لي أن ترك الباب مفتوحا لتفاوض عقلاني أمر ضروري، إنه سلم نزول مناسب لمن تطرف في موقفه. وقد تكون هذه ورقة بيد القوى المساندة للوضع الدستوري في الداخل والخارج لتحاجج بها الانقلاب.
ونذكر أن الحماس المفرط والبقاء في الشارع بدون خريطة واضحة سيفتت الشارع، ويجعل حماس الجمهور يخبو فينصرف عن مطالبه، خاصة أن معسكر الانقلاب يصم آذانه حتى اللحظة دون أصوات الحراك ولا يبدو عنه أي تفاعل إيجابي، مما يعني تواصل الحراك لمزيد من الضغط.
كما نذكر أن كثرة المتحدثين باسم الحراك من منطلق الحماس العفوي يشتت عقل الحراك ويجعله عبثيا، بخلاف هذا سنظل في الشارع لكن بضباب كثيف على لوحة القيادة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: