د - ضرغام الدباغ - ألمانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1851
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ليس بوسع أحد أن يجزم بصفة مطلقة، متى جاء الشرقيين، عرباَ كانوا أو مسلمين أو غيرهم إلى أوربا وبأي وسائل ومن أي طرق. فبين أيدينا دلائل ومصادر موثوقة تشير إلى أن تلك الصلات والعلاقات كانت قد ابتدأت منذ أزمنة غابرة بعيدة، ولكن لدينا ما يجعلنا نؤكد أن تلك الصلات كانت منتظمة لقرون عديدة قبل الميلاد، فقد وجدت آثار مؤكدة لتجار من شبه الجزيرة العربية في مناطق بحر إيجة، آسيا الصغرى، بلاد الإغريق والبلقان (شرقي أوروبا) آثاراَ لتجار من شبه الجزيرة العربية في جزيرة ديلوس Delos . كما أن كاتبان من اليونان القديمة هما: أريستوفانس Aristo phanes وأوريبيدس Euripides ذكرا في أعمال لهما، أنباء عن تجار من بلاد سبأ ( في شبه الجزيرة العربية )، كانوا قد وصلوا إلى تلك الأرجاء، وقاموا بفعاليات تجارية هناك. وكان ذلك قد حدث في القرن الخامس قبل الميلاد.
وإذا كان تعقب تلك الصلات كمن يلاحق ظله،عملاَ يقارب المستحيل، ويتطلب جهوداَ ومساحات أوسع مما يوفره مجال بحثنا هذا، فأننا سوف نركز على اثنتين من نقاط التماس والاتصال المهمة والتي كان لهما نتائج وآثار مهمة وان تركيزنا على هاتين النقطتين ليس إلا لسببين رئيسيين: ـ
الأول: أن تلك الاتصالات استغرقت مراحل طويلة( نسبياَ ). الأندلس: سبعة قرون وجزيرة صقلية: ثلاثة قرون تقريباً من الوجود المباشر وقروناَ من التماس غير المباشر.
الثاني: الأهمية البالغة للنتائج والآثار الثقافية والعلمية والسياسية الهامة، التي نجمت عن هذا التماس.
ومن المهم في هذا المجال التأكيد على القول، أن التماس كان ينطوي على إشعاع ثقافي وحضاري هام. وأعني هنا: نقطتي التماس: الأندلس وصقلية.
الأندلس: ـ
كان الرومان قد بسطوا هيمنتهم على شبه الجزيرة الايبرية (أسبانيا والبرتغال اليوم) عام 134 قبل الميلاد، ثم زحفت قبائل البرابرة عبر البحر المتوسط من شمال أفريقيا في أوائل القرن الخامس الميلادي. وفي أوائل هذا القرن (الخامس) أرغمت قبائل اللان، قبائل الوندال، أرغمتها على الجلاء من شبه الجزيرة الايبرية، التي تعزلها عن فرنسا سلسلة جبال البيرنيه المنيعة Pyreanen، ثم تأثر الغوط الغربيين بعد دخولهم المسيحية بالمذهب الايوسي. وفي عام 587 تركوا هذا المذهب ومالوا إلى الكاثوليكية. ولكن الأحداث مضت دامية في المجتمع الايبري، فالصراعات الاجتماعية والمذهبية كانت تدور بعنف مدمر. ويقَيم البروما، الأستاذ المعاصر في جامعة مدريد أحداث تلك الحقبة قائلاَ:
" في غضون السنوات الأخيرة، كانت البلاد، أيبريا الغوطية، تجتاز فترة من الفوضى والانحطاط والفاقة. والانحطاط الاجتماعي والتعسف طبقي وإهمال للأعمال الزراعية. أمة تضيف الخلافات الدينية والاضطهاد والتغريبات والمصادرات والتقلبات مستمرة في الجهاز السياسي من متاعبها، فتضعها على شفا الحرب الأهلية: تلك كانت العوامل الطبيعية للأحداث اللاحقة ". ومصداقاَ لما ذهب إليه البروفيسور البروما، فقد كان المجتمع الايبري لا يعرف إلا طبقتان اثنان فقط:
ـ أقليه من النبلاء ورجال الكنيسة وكبار الموظفين.
ـ أغلبية من الاقنان .
كان أمراء الإقطاع يسومون الرعية سوء العذاب والاستغلال، كما كان هناك تنافس وصراعات بين قادة الكنيسة، واضطهاد وإرهاب يعاني منه اليهود. وفيما كانت أيبريا تشهد هذه الأحداث والاضطرابات، كان الشمال الإفريقي يتقدم ويزدهر ويحقق المنجزات السياسية والاجتماعية، والثقافية بوجه خاص .
كانت أيبريا تحت حكم الغوط منذ قرنين فقط. منذ القرن الخامس، وكانت هذه الأجواء تخلق مناخاَ فريداَ من نوعه، فقد أستقر رأي عدد من زعماء الغوط ، منهم يوليان، وكان حاكماَ لإحدى الولايات والذي قام بمراسلة القائد العربي في شمال أفريقيا، موسى بن نصير وقدم إليه الدعاة والسفن لاجتياز المضيق والنزول على البر الايبري .
ولم يرغم العرب المسلمون عندما استقروا في شبه الجزيرة الايبرية السكان على الدخول في الإسلام، بل على العكس، فقد أصبح منهم وزراء ومستشارين وقادة إداريين وتداخلت عائلات مسلمة ومسيحية بالزواج. وقد فعل ذلك ملوك العرب والمسلمين.
بيد أن لوجود العرب والمسلمين في الأندلس كان له أبعاده الثقافية والفنية والاقتصادية بدرجة رئيسية، فقد نقلوا إلى الأندلس الكثير من أصناف المزروعات والأشجار، وكذلك صناعة الورق (وكان العرب قد نقلوه من الصين)، والنسيج والصناعات الجلدية. وما زالت اللغة الفرنسية تضم مصطلح Corodonnerie ، إشارة إلى صناعة الأحذية في قرطبة. وعلى صعيد الثقافة، كانت الصلات مفتوحة على كافة الاتجاهات. وإذا كان رصدها جميعاَ تفوق مهمة يحثنا هذا، لكن يجدر الإشارة بصفة خاصة إلى الأعداد الكبيرة من العلماء الأوربيين الذين كانوا في القرون الوسطى قد جاءوا لدراسة وتعلم العربية مثل : ـ آدلارد فون باث Adelard von Bath المتوفى عام 1180 وميخائيل سكوت Michal Scott المتوفى عام 1235 ، وكان هؤلاء قد جاءؤا للدراسة في جامعات الأندلس. كما كانت هناك مدرسة للترجمة مختصة بنقل مختلف العلوم إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر وكان يديرها المترجم دومنيكو لوديسالفو Domingo loudisalvo .
وكانت مكانة الفكر والفلسفة، والعلوم بصفة عامة، كبيرة في الحياة الاجتماعية والسياسية في الأندلس، فكانت مكتبة عبد الرحمن الثالث خليفة الأندلس، تضم 400,000 ألف مجلد وكانت فهارسها تقع في 44 مجلد تشمل مختلف العلوم. أما الحياة الأدبية فقد كانت ذروة من السمو في نقل الصورة وتقنياتها.
أما على صعيد الفلسفة، فقد امتدت أهمية علماء الفلسفة والسياسة والاجتماع والتأريخ، إلى ما هو أبعد من الأندلس المغرب والمشرق العربي، إلى أوروبا والعالم بأسره علماء ومفكرين من أمثال: أبن رشد وأبن خلدون والطرطوشي وأبن الأزرق وعلماء في الطب وعلم الأدوية (الصيدلة) مازالت أبحاثهم تثير الاهتمام والدراسة في الجامعات العالمية.
ففد اعتبرت على سبيل المثال، فلسفة أبن رشد هامة للغاية في إنضاج الظروف والمقدمات لعصر النهضة والتنوير أقتبس منها الأوربيون الكثير من أجل الرد على أطروحات السكولاستيون (تأسست السكولاستية Scholatism في القرن الحادي عشر للملائمة بين الدين والفلسفة) واستعان بها فلاسفة عصر النهضة من أجل الرد على السكولاستيين لا سيما أفكار الراهب الفيلسوف توما الأكويني 1225 - 1274 Thomas Aquinie.
وقد أسس العلماء والفلاسفة الايطاليون الرشديون في ظروف عصر النهضة جامعة بادوفا Paduva في إطار النزاع بين الأرسطوطاليسيين التي كان أبن رشد أفضل شارح ومقدم لها، وبين الافلاطونيين الذين قاد تجمعهم العالم اليوناني الأصل بليتون Plethon ( المتوفى عام1490 ).
وأسس الأفلاطونيون مدرسة في مدينة إيطالية أخرى وكان لهذا الصراع الفلسفي آثره الإيجابية على التطور العام للفلسفة، وصفة خاصة للفكر الفلسفي السياسي. ولكن إلى جانب فلسفة أبن رشد ويطلقون عليه باللاتينية Averroes ، كان هناك الكثير من المنجزات في مجالات العلوم الصرفه، كالطب وعلم الدواء والرياضيات. ويمكن القول بموضوعية تامة، أن مساهمة الثقافة والعلوم العربية، والمنجزات الحضارية بصفة عامه التي كانت تشع من هاتين البؤرتين، الأندلس وصقلية وفرنسا إلى حد ما، بالطبع إلى جانب وسائط أخرى، الدور العام في عصر النهضة، واستمرت مصادر الطب والصيدلة العربية أساسية في الجامعات الأوربية حتى عصر النهضة أو بعدها.
صقلية : ـ
كانت جزيرة صقلية تابعة للدولة البيزنطية، وكانت السفن العربية تتخذ منها محطة في إطار فعالياتها التجارية، وكان الاغالبة، وهم أسرة عربية أسسها إبراهيم بن الغالب كان عاملاَ للدولة العباسية على مصر ومقاطعات شمال أفريقيا ثم أسس أمارة تتمتع بالكثير من الحرية والاستقلال عن بغداد عاصمة الخلافة العباسية وأسس أسطولاَ حربياَ وتجارياَ ضخماَ من أجل الدفاع والحفاظ على الأمارة / الدولة ومصالحها أعتبر أحد القوى الرئيسية في البحر المتوسط وكانت صقلية المنطلق للكثير من الهجمات التي كانت توجه صوب إمارته وتهديداَ لتجارة الأمارة.
لهذه الأسباب قام الاغالبة باحتلال باليرمو (عاصمة صقلية )، وفي عام 843 ميسينا، وفي عام 878 سيراكوز، وفي عام 902 تورمينا. وتقع جميع هذه المدن في جزيرة صقليه . وحتى منتصف القرن الحادي عشر استمرت الجزيرة تحت إدارة الأغالبة العرب وتؤكد المصادر الأوربية، أن هذا الوجود العربي كان مهماَ في نقل الثقافة العربية الإسلامية إلى أوروبا.
ثم أن الأغالبة توجهوا نحو أراض في شبه جزيرة أبنينو (إيطاليا)، ففي عام 840 احتلوا تارت وفي عام 814 مدينة باري، وفي أعوام 849 – 846 هاجم الجيش العربي روما وحاصرها لكن دون تحقيق النجاح. ثم نظم البيزنطيون حملات مضادة بقيادة الملك لودفيغ الثاني، وفي عام 880 تمكن البيزنطيون من إخراج العرب من إيطاليا .
ولكن هذا التماس وبقدر كان أنطوي الحروب ومشاهد القتال، كان ينطوي على لمحات ثقافية وحضارية كما أسلفنا، فمن هنا، من صقلية تعرف الأوربيون لأول مرة على خارطة العالم التي كان قد أعدها الجغرافي العربي الأدريسي وكذلك على الكثير من فنون الصناعات الزجاجية والأصناف الفاخرة من الأقمشة. ومنجزات ثقافية وحضارية عديدة.
وقد أستمر العرب ذو حظوة ونفوذ علمي وثقافي في بلاطات الملوك والقياصرة، بعد نهاية حكمهم في صقلية، فكانوا معلمين ومستشارين وأفضل الجنود. فقد كان القيصر الألماني فريدريك الثاني ( توفي عام 1250 )، يجيد اللغة العربية كأحد أبنائها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر البحث : ـ
* أدهم، علي : صقر قريش بيروت / 1974
* الدباغ، د. ضرغام : الفكر والنظام السياسي في عهود الخلافة العربية الإسلامية / مخطوطة
* تشردوم، البروما : حرية العقيدة في أسبانيا الإسلامية ، مقال في مجلة
آفاق عربية ، بغداد ـ العدد 1979 – 1
* كرم، يوسف : تاريخ الفلسفة الحديثة القاهرة /1957
* Autorenkollektiv : Geschichte der Araber Teil 1 Leipzig 1971
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: