د.محمد فتحي عبد العال - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 2400
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في عام 1926 أصدر طه حسين كتابه في الشعر الجاهلي والذي أحدث دويا عظيما في أوساط السياسيين والمثقفين وإلى حد البرلمان نظرا لحساسية الموضوعات التي تطرق لها وفي مقدمتها مسألة انتحال الشعر الجاهلي والتشكيك في المسلمات الدينية وهو ما لم يكن بغائب عن ذهن طه حسين وهو يخط كتابه فيقول في مقدمة كتابه (إن هذا البحث وإن أسخط قوما، وشقَّ على آخرين، فسيرضي هذه الطائفة القليلة من المستنيرين، الذين هم في حقيقة الأمر عدّة المستقبل، وقوام النهضة الحديثة، وذخر الأدب الجديد.. والنتائج اللازمة لهذا المذهب الذي يذهبه المجددون عظيمة جليلة الخطر، وهي إلى الثورة الأدبية أقرب منها إلى أي شيء آخر، وحسبك أنهم يشكون في ماكان الناس يرونه يقينا، وقد يجحدون ما أجمع الناس على أنه حق لا شك فيه).
هل القضية قديمة ؟:
يتصور الكثيرون أن قضية التشكيك في صحة الشعر الجاهلي وليدة العصر الحديث وأن طه حسين قد نقلها عن المستشرقين ولكن الحقيقة أن البداية كانت أقدم من الإثنين معا وتعود إلى المقدمة التى كتبها محمد بن سلام بن عبيد الله الجمحي لكتابه: "طبقات فحول الشعراء" وتحدث فيها عن النَّحْل في الشعر الجاهلى وأن مردّه إلى كل من العصبية القبلية وعبثُ الرواة قائلا : (وفى الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربية، ولا أدب يستفاد ولا معنى يستخرج ولا مثل يضرب ولا مديح رائع ولا هجاء مقذع ولا فخر معجب ولا نسيب مستطرف). ثم أضاف قائلا: "وقد تداوله (أي الشعر الجاهلى) قوم من كتاب إلى كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء ).
انتقال القضية إلى المستشرقين :
في العصر الحديث أعاد المستشرقون طرح القضية مرة أخرى مشككين في حقيقة الشعر الجاهلي و مصادره ، فكان كتاب(تاريخ اللغات السامية ومنهجها المقارن) لإرنست رينان عام 1855. وكذلك كتاب (مساهمات في معرفة الشعر العربي القديم) لتيودور نولدكه عام 1861 وتحدث فيه عن تضارب في النصوص والروايات ثم كان نشر المستشرق وليم إلوارد لدواوين الشعراء الستة الجاهليين : امرئ القيس، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، وطرفة بن العبد، وعلقمة بن عبدة، وعنترة بن شداد، متوصلا إلى أنَّ عدداً قليلاً من القصائد صحيح، ولكن الشك يخيم على ترتيب الأبيات وشكل كل واحد منها .
في عام 1925 نشر المستشرق البريطاني ديفيد صمويل مرجليوث في مجلة الجمعية الملكية الأسيوية دراسة بعنوان " The origins of Arabic poetry" مقارنا بين الشعر الجاهلي والقرآن متوصلا إلى أن هذا الشعر المنسوب إلى العصر الجاهلي لا يعبر ابدا عن طبيعة هذا العصر ، وهو صنيعة العرب في العصر العباسي، إذن القرآن مصدرًا من مصادر الشعر الجاهلي وليس العكس نظرا للمماثلة بين لغتي القـرآن الكـريم والشعـر الجاهلي وعدم وجود اختلاف في اللهجات يعكس انتماء الشعراء لقبائل مختلفة . وهو نفس ما ذهب إليه طه حسين في كتابه مع فارق بسيط أن مرجليوث اعتبر كل الشعر الجاهلي زائف منحول فيما أورد طه حسين حتى يبدو مستقلا ( جله إن لم يكن كله) .
كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين :
بعد أشهر قلائل من بحث مرجليوث الأخير نشر طه حسين كتابهُ "في الشعر الجاهلي" متطرقا إلى نفس القضية بنفس الأدلة والشكوك متبعا نظرية (رينيه ديكارت) في الشك وأن يتجرد الباحث من كل ما يعلمه من قبل، ثم يستقبل بحثه صافي الذهن متبعا مبدأ الشك وسيلة لليقين غير أن طه حسين شابَ إتباعه لهذا المبدأ عورا شديدا خاصة فيما يخص المسائل الدينية حتمية الثبوت.
تحدث طه حسين في كتابه عن الشعر الجاهلي و أنه شعر موضوع لا يصح نسبته للشعراء الجاهليين ، واعتبره من وضع الرواة وتأليف النحاة و رواة القصص بعد الإسلام لأسباب دينية منها تعظيم شأن النبي ونسبه والتدليل علي صحة الدعوة فيقول (فكان هذا الإنتحال فى بعض أطواره يقصد به الى إثبات صحة النبوة وصدق النبى، وكان هذا النوع موجها إلى عامة الناس، وأنت تستطيع أن تحمل على هذا كل مايروى من هذا الشعر الذى قيل فى الجاهلية ممهدا لبعثة النبى، وكل مايتصل به من هذه الأخبار والأساطير التى تروى لتقنع العامة، بأن علماء العرب وكهانهم، وأحبار اليهود ورهبان النصارى، كانوا ينتظرون بعثة نبى عربى يخرج من قريش أو من مكة) ولأسباب أخرى سياسية كالعصبية والتنافس بين القبائل في اختلاق أمجاد لها قبل الإسلام ، وأن هذا الشعر المنحول يصور جوانب الحياة في العصر الأموي وبدايات العصر العباسي أكثر من كونه تصويرا للحياة في الجاهلية ومن يريد أن يلتمس الحياة العربية قبل الإسلام عليه أن يلتمسها فى القرآن وليس فى هذا الشعر الذى يقال أنه جاهلي، فالقرآن قد عبر عن هذه الحياة فى جوانبها الثقافية والإجتماعية والإقتصادية أصدق تعبير. وكان باعثه في هذا الإنكار للشعر الجاهلي عدة أسباب في مقدمتها : عدم وجود اختلاف جوهري في اللهجات بين الأشعار المنسوبة للجاهلية على الرغم من انتماء أصحابها إلى قبائل شتى كالقحطانيين (العرب العاربة) من أهل اليمن و العدنانيين الحجازيين (العرب المستعربة والذين تخلوا عن لغتهم الأولى العبرانية أو الكلدانية ، و تعلموا لغة العرب العاربة و أول من تكلم بالعربية ونسى لغة أبيه اسماعيل بن ابراهيم) من أهل مكة والمدينة ويستند طه حسين فى هذا الرأى بما روي عن أبى عمر ابن العلاء أنه كان يقول (ما لسان حمير (العاربة) بلساننا ولا لغتهم بلغتنا ) واستند إلى ما أسماه بالبحث الحديث الذي يثبت خلافا جوهريا بين اللغة التى كان يصطنعها الناس فى جنوب البلاد العربية واللغة التى كانوا يصطنعونها فى شمال هذه البلاد ثم أردف بقوله (لدينا نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف فى اللفظ وفى قواعد النحو والتصرف) فضلا عن أن هذه الأشعار تخلو من أي تصوير للحياة الدينية الوثنية قبل الاسلام والسجال الكبير مع الدعوة الإسلامية والتي يصورها القرآن ولا أثر لها في الشعر الجاهلي وكذلك خلوها من الإشارات إلى الحياة الفكرية والثقافية بحكم انفتاح العرب في هذا الوقت على الفرس والروم و كثرة الأسفار والتبادل التجاري بينهم.
ومن الطريف أنه على الرغم من التطابق بين ما نشره طه حسين و مرجليوث إلا أن الأخير سارع إلى تبرئة طه حسين من تهمتي الاقتباس والسطو على أفكاره موحيا بأن هناك تواردا ذهنيا في الفكرة قد حدث !!!
التشكيك في النبيين ابراهيم واسماعيل :
كان بإستطاعة الدراسة التي قدمها طه حسين أن تمر مرور الكرام فهي تتضمن أسبابا وجيهة تدخل في سياق البحث العلمي لولا ما تضمنه بحثه من إشارات مفتعلة لم تكن في سياقها الطبيعي ومنها التشكيك في الوجود التاريخي للنبيين ابراهيم واسماعيل عليهما السلام بقوله (للتوارة ان تحدثنا عن ابراهيم واسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين فى التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخى فضلا عن إثبات هذه القصة التى تحدثنا بهجرة اسماعيل بن ابراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها ونحن مضطرون إلى أن نرى فى هذه القصة نوعا من الحيلة فى إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهودية، والقرآن والتوراة من جهة أخرى) ويضيف (ليس ما يمنع قريشًا من أن تقبل هذه الأسطورة التى تفيد بأن الكعبة من تأسيس اسماعيل وابراهيم، كما قبلت روما من قبل ذلك ولأسباب مشابهة أسطورة أخرى صنعتها لها اليونان، تثبت أن روما متصلة بإينياس بن بريام صاحب طروادة، أمر هذه القصة إذًا واضح، فهب حديثة العهد قبيل الإسلام واستغلها الإسلام لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضًا).كما ينظر بمنظور الشك لكون الدين الإسلامي له أولوية في بلاد العرب وأنه دين الأنبياء من قبل فيقول «أما المسلمون فقد أرادوا أن يثبتوا أن للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يُبعث النبي وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل»
كما يتطرق إلى نسب النبي صلي الله عليه وسلم وأنه قد تمت إحاطته بهالة من التضخيم والمبالغة فيقول: «ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وأضافته إلى الجاهليين هو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه إلى قريش؛ فلأمر ما، اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي وأن تكون قصي صفوة قريش وقريش صفوة مضر ومضر صفوة عدنان وعدنان صفوة العرب والعرب صفوة الإنسانية كلها وأخذ القصاص يجتهدون في تثبيت هذا النوع من التصفية والتنقية وما يتصل منه بأسرة النبي خاصة ، فيضيفون إلى عبدالله وعبدالمطلب وهاشم وعبدمناف وقصي من الأخبار ما يرفع شأنهم ويعلي مكانتهم ويثبت تفوقهم على قومهم خاصة وعلى العرب عامة »كما أشار إلى أن القراءات السبع للقرآن ليست إلهية وأنها اقتضتها اختلاف لغات القبائل يقول طه حسين: (والحق أنه ليست هذه القراءات السبع من الوحي في قليل ولا كثير، وليس منكرها كافرا ولا فاسقا ولا مغتمزا في دينه، وإنما هي قراءات مصدرها اللهجات واختلافها)
محاكمة طه حسين :
بصدور الكتاب أصيبت الأوساط الدينية و الثقافية والسياسية في مصر بالصدمة ففي 30 مايو سنة 1926 تقدم الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالي بالأزهر ببلاغ إلى النائب العام ضد طه حسين ، متهما إياه بالطعن الصريح في القرآن العظيم. ثم أعقبه بلاغ آخر من شيخ الازهر (محمد أبوالفضل الجيزاوى) للنائب العام فى 5 يونيو عام 1926 ضد طه حسين مشفوعا بتقرير لجنة العلماء المشكلة منه حول الكتاب وحسبما ورد بالتقرير فالكتاب وضع فى ظاهره لإنكار الشعر الجاهلي، ولكن المتأمل قليلًا يجد دعامة من دعائم الكفر ومعولًا لهدم الأديان.
بدأ محمد نور رئيس نيابة مصر التحقيق مع طه حسين في 19 أكتوبر سنة 1926 . ومما يبدو من مطالعة محاضرالتحقيق أن طه حسين كان متأففا وضجرا من الأسئلة وكانت إجاباته باهتة وعاجزة مثل: هذا فرض وليس من السهل إثباته، وما أظن ذلك !!و حينما سئل عن ما ورد بكتابه بشأن الشك في ابراهيم واسماعيل عجز عن الرد. وحينما طالبه رئيس النيابة بالأدلة من النقوش والنصوص الحديثة التى تحدث عنها في مسألة اختلاف لغة العرب العاربة عن العرب المستعربة لم يستطع الرد أيضا. واستمرت التحقيقات حتى 30 مارس 1927م منتهية بقرار النيابة بحفظ الأوراق إداريا لإنتفاء القصد الجنائي ، وقد اختتم التقرير بالقول (وحيث أنه مع ملاحظة أن اغلب ماكتبه المؤلف مما يمس موضوع الشكوى وهو ماقصرنا بحثنا عليه، وإنما هو تخيلات وافتراضات واستنتاجات لا تستند إلى دليل علمي صحيح فإنه كان يجب عليه أن يكون حريصا فى جرأته على ما أقدم عليه مما يمس الدين الإسلامى، الذى هو دينه ودين الدولة )
أصداء القضية :
على المستوى السياسي والحزبي كان سعد زغلول باشا رئيسا للبرلمان والذى شهد موجة عارمة من احتجاجات النواب ومطالبتهم الحكومة باتخاذ موقف حازم مع المؤلف على خلفية كتابه لكن عدلي يكن رئيس الحكومة ورئيس حزب الأحرار الدستوريين المنتمي له طه حسين رفض المساس به فيما عبر سعد عن رفضه للكتاب بقوله : (هبوا أن رجلا يهذى فى الطريق فماذا علينا اذا لم تفهم البقر؟)
أما الصحافة فقد ساندت صحيفة (السياسة) طه حسين كماانبرى عدد من المفكرين في الشدّ من أزره في طليعتهم محمد حسين هيكل وأحمد لطفى السيد ومنصور فهمي وغيرهم، وفى المقابل شنت صحيفة (كوكب الشرق) هجوما ضاريا عليه كما صدرت عدة كتب للرد عليه أبرزها (نقد كتاب فى الشعر الجاهلي) لمحمد فريد وجدى، و(نقض كتاب فى الشعر الجاهلي) للشيخ محمد الخضر حسين، و(محاضرات فى بيان الأخطاء العلمية والتاريخية التي اشتمل عليها كتاب فى الشعر الجاهلي) للشيخ محمد الخضرى، و(تحت راية القرآن) لمصطفى صادق الرافعى. يقول الرافعي في كتابه “أن مؤلف هذا الكتاب لم يفهم منهج ديكارت على حقيقته، وأنه شعوذ به على الطلبة، وأنه لا يعدل جهله فيما ينقل عن العربية إلا ما ينقله عن الفرنسية”.
أما الدكتور زكي مبارك والحاصل على الدكتوراه في الآداب من الجامعة المصرية ثم مرة أخرى من جامعة السوربون بباريس وكان تلميذا لطه حسين ثم زميلا له فقد لخص في كلمات معدودات رأيه عن طه حسين وهو يغني عن أراء باقي المعارضين لشموليته فقد وصفه بالأديب قليل الفكرة، قليل الإطلاع !!! و (إنه من العجيب في مصر بلد الأعاجيب أن يكون طه حسين أستاذ الأدب العربي في الجامعة المصرية وهو لم يقرأ غير فصول من كتاب الأغاني وفصول من سيرة ابن هشام. وقد مرّت عليه أعوام لم يقرأ فيها كتاباً كاملاً!!!!).كما يقول أيضا أنا لا أعرفه إلا رجلا ينهب آراء المستشرقين ثم يدعيها لنفسه .
طه حسين وأداء العمرة :
في يناير1955م قام طه حسين بزيارة مكة والمدينة لاداء العمرة وكان وقتها رئيساً للجنة الثقافية في جامعة الدول العربية، وبحسب مجلة القافلة والتي سجلت هذه الرحلة فقد تسلم الحجر وقبله في خشوع وبكاء خفي حتى أتم عمرته وحينما أراد الذهاب إلى المدينة كانت السيول حائلا دون استخدامه السيارة للوصول إليها وكان معروفا عن طه حسين كراهيته و خوفه الشديد من ركوب الطائرات لكنه تخلى عن هذا الخوف أمام شغفه الجارف لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأننا في هذه الرحلة الحجازية لعميد الأدب العربي نجد اعتذرا صامتا وعمليا عن ما ورد في كتابه من نيل من المقدسات الدينية .
----------
د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث مصري
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: