د.محمد فتحي عبد العال - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 2424
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في غالب العهود التاريخية يطل علينا من أستار التاريخ ما نعرفه الآن بمصطلح مراكز القوى والتي تتشكل في العادة من أسر أو أفراد شديدي الصلة بالحكام وصناع القرار وفي الغالب لا يجيبنا التاريخ حول سؤال يبدو بديهيا لماذا صعدوا دون غيرهم ؟ولماذا تهاوت مكانتهم فجأة بعد كانوا ملء الأسماع والأفئدة وأصحاب نفوذ ورأي نافذ؟ ...ومن أشهر هذه الحوادث حادثة نكبة البرامكة على يد الخليفة هارون الرشيد اذ شكلت منعطفا تاريخيا في الدولة العباسية التي وطدت أركان حكمها عبر العناصر غير العربية ومنهم البرامكة ...
من هم البرامكة ؟
تتباين الروايات حول أصل البرامكة الا أن أشهر الأقوال كونهم من المجوس المنتمين إلى مدينة بلخ ببلاد فارس وهم يعودون بنسبهم إلى جدهم الأكبر برمك وكان من كبار سدنة معبد النوبهار المجوسي ثم اعتنقوا الإسلام ..وكان خالد بن برمك أحد أبرز الداعين للخلافة العباسية في خراسان مما جعل الخليفة العباسي أبو العباس السفاح يتخذه وزيرا له .
البرامكة وهارون الرشيد
لمع نجم البرامكة في عهد هارون الرشيد فتمتعوا بنفوذ واسع حيث لم يعرف هارون الرشيد منذ نعومة أظفاره سواهم فكان يحى بن خالد البرمكي بمثابة الوالد لهارون وكان يدعوه: يا أبت فقد تولى تنشئته وكان معاضدا له في تولي ولاية العهد حينما انقلب عليه أخيه موسى الهادي وهمّ بخلعه ثم أصبح وزيرا بسلطات واسعة حينما اعتلي هارون الحكم أما زوجته فقد أرضعت هارون..وكان ابنه الفضل بن يحيى البرمكي أخا لهارون في الرضاعة وقد عهد إليه هارون بتربية ابنه الأمين فيما أوكل هارون تربية ابنه المأمون إلى جعفر بن يحيى البرمكي خليله وصديقه المقرب وهكذا كانت أسرة البرامكة ذات أذرع طويلة في بيت الخليفة وفي كل مظاهر السلطة من حوله ..
البرامكة وإسهاماتهم في الحياة الإجتماعية في العصر العباسي :
عرف عن البرامكة العديد من المآثر والفضائل والترف العظيم فكانوا يبنون قصورهم ويضعون على الحوائط بلاط من الذهب والفضة ، وقد عنوا بترجمة التراث الفارسي فأمر يحيى البرمكي الشاعر إبان اللاحقي بأن يحول كتاب كليلة ودمنة الشهير إلى الشعر وألزمه داره حتي يتمم هذه المهمة كما عني يحيى البرمكي بترجمة كتاب المجسطي في الفلك والرياضيات والذي وضعه العالم الإغريقي بطليموس إلى العربية كما طلب من بطريك الإسكندرية أن يترجم كتابا عن الزراعة من اللاتينية وكان خالد بن برمك أول من جعل الحساب في دفاتر..
قراءة في أسباب انقلاب الرشيد على البرامكة :
يرجع المؤرخون بذور هذه النكبة إلى دور البرامكة في تزكية نيران الخلاف بين الأمين والمأمون ابنا الرشيد فلم يكد ابنه محمد الأمين يبلغ أشده حتى استبسلت أمه زبيدة ذات الأصول العربية الهاشمية في أن تؤول ولاية العهد إليه دون أخيه الأكبر المأمون ذو الأصول الفارسية من ناحية أمه وعلى الرغم من أن الرشيد كان يميل لتولية المأمون" وكان يمتدحه بقوله : "إن فيه حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة الهادي، ولو شئت أن أقول الرابعة مني لقلت"- إلا أن الضغوط من حول الرشيد جعلته يرضخ ويولي الأمين ..لم يعارض البرامكة هذا الإختيار في البداية غير أن تصاعد نفوذ زبيدة أم الأمين ونقمتها المعلنة على نفوذ البرامكة المتزايد جعل البرامكة يضغطون في اتجاه عقد البيعة للمأمون ابن جلدتهم فأمه فارسية كما أسلفنا وأن تكون ولاية العهد له بعد أخيه الأمين وبذلك تعود كفة التوازن في ميزان النفوذ من حول الرشيد للبرامكة.. وأخذ "الرشيد" على ولديه "الأمين" و"المأمون" المواثيق الغليظة ، وأشهد عليهما، ثم وضع هذه البيعة في حافظة فضية علقها في جوف الكعبة.
كان الرشيد يغض الطرف في البداية عن تزايد نفوذ البرامكة وطغيانهم على سلطانه فقد استبد يحيى بكل شؤون الدولة وراح جعفر يؤجج نيران الخلاف بين وليي عهده الأمين والمأمون مما يهدد مستقبل الخلافة من بعده ووصل الأمر الي حد منع المال عن هارون بحجة الحفاظ على أموال المسلمين في حين كانوا يبنون القصور الفخمة لهم ويبذلون أموال ضخمة في تشييدها من خزائن بيت مال المسلمين !!! فكان الرشيد في سفر ذات يوم، فلم يمر على قصر ولا إقليم ولا قرية إلا قيل له: هذا لجعفر، وعندما عاد الفضل من حربه في الديلم أطلق لمادحيه ألف ألف درهم. هذا الترف جعل الرشيد يتحري في الدواوين حول مالية الدولة ليكتشف وجود خلل كبير فيها وذُكر أن الرشيد أمر مسرورًا مولاه أن يضرب الفضل بن يحيى مئتي سوط لإخفائه الأموال عنه، ولما بلغ الرشيد أن ليس لديهم شيئًا من المال والجواهر قال: «وكيف وقد نهبوا مالي وذهبوا بخزائني».
كما كون الفضل بن يحيى والذي كان واليا على الجانب الشرقي للدولة جيشا عظيما قوامه خمسمائة ألف جندي من العناصر غير العربية يدينون له بالولاء وأسماه العباسية وبالطبع كان ذلك دون استشارة الرشيد فخالج الرشيد الشك من نوايا الفضل بهذا الجيش الذي ربما كان تمهيدا لإنقلابا عسكريا وشيكا على حكمه وحكم أسرته جعله يقلب لهم ظهر المجن وينزل بهم هذه النكبة .
وكانت الضربة القاصمة التي اجتثت جذور الثقة بين هارون والبرامكة هي إطلاق يحيى بن عبدالله بن الحسن بن العلوي والذي خرج على الرشيد في بلاد الديلم ودعا لنفسه ، فبعث إليه الفضل بن يحيى البرمكي في جيش كبير ، مما اضطره للاستسلام وطلب الصلح مشترطا أن يكون الأمان بخط الرشيد فكتب إليه الأمان بخطه، شهد عليه القضاة والفقهاء ثم عاد الرشيد وحنث وعده لخشيته من نوايا يحيى فحبسه عند جعفر البرمكي فأطلق سراحه وزوده بالمال اللازم لخروجه من بغداد وهو الذي اعتبره الرشيد خيانة عظمى في حقه للعداء الشديد بين العباسيين والعلويين.
قصة شعبية تسللت لكتب التاريخ :
لقد أوجز ابن خلدون في مقدمته بشكل جلي أن ما حل بالبرامكة كان سياسيا محضا ولا أسباب أخرى تقف وراء هذه الحادثة غير ذلك فقال :
(إنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة، واحتجانهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره، وشاركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه، فعظمت آثارهم، وبعد صيتهم، وعمروا مراتب الدولة وخططها، بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم، واحتازوها عمن سواهم، من وزارة، وكتابة، وقيادة، وحجابة، وسيف، وقلم).
وعلى عادة العامة في اصطناع و تناقل الأشاعات خاصة في حال خطب جلل كهذا فقد اختلقوا قصة العلاقة بين العباسة أخت الرشيد وجعفر البرمكي وأدعوا أنها السبب الرئيسي فيما حل بالبرامكة وخلاصة القصة كما يحكيها الطبري دون سند : من أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر صديقه ، والعباسة أخته، إذا جلس للشراب، فأراد أن يحضرهما معًا دوما في مجلسه ولكي يتلافي ما قد تتناقله الألسن بشأن هذه الخلوة غير الشرعية ويتنافي مع الشرع الإسلامي فاحتال الرشيد للأمر، بأن يزوج أخته من جعفر زواجا صوريا حتي يستقيم الأمر ويصبح تواجدها في المجلس شرعيا مع جعفر !!! فقال لجعفر: أزوجكما على ألا يكون منك شيء مما يكون للرجل إلى زوجته، فقَبِل جعفر، وعقد قرانهما، ولكن جعفر أخلف وعده للرشيد وعاشرها كزوجة له، فحملت منه طفلاً، خافت عليه من أخيها، فأبعدتْه إلى مكة، وحينما علم الرشيد بالأمر استشاط غضبا وأوقع بالبرامكة ما أوقع ...لا تخلو هذه الرواية من عدم المنطقية والمبالغة والحقيقة أنها لا تحتاج نقاش تاريخي طويل لدحضها ويكفي أن نسوق
ما قاله الجهشياري عن عبدالله بن يحيى بن خاقان: سألت مسرورًا الكبير( هو الذي نفذ الاعدام بحق جعفر رغم توسلات الاخير )، في أيام المتوكل - وكان قد عمر إليها ومات فيها - عن سبب قتل الرشيد لجعفر وإيقاعه بالبرامكة، فقال: كأنك تريد ما تقوله العامة فيما ادّعوه من أمر المرأة؟! فقلت له: ما أردتُ غيره، فقال: لا والله، ما لشيء من هذا أصل، ولكنه من ملل موالينا وحسدهم"
وهل ما يفند رواية الطبري ويبرهن أن هذه القصة الشهيرة لا أساس لها من الصحة.
بيتين من الشعر شارة النهاية :
روي "ابن طباطبا في الفخري" عن بختيشوع الطبيب قال "دخلت يوماً على الرشيد وهو جالس في قصر الخلد، وكان البرامكة يسكنون بحذائة من الجانب الآخر، وبينهم وبينه عرض دجلة. فنظر الرشيد فرأى اعتراك الخيول وازدحام الناس على باب يحيى بن خالد فقال "جزى الله يحيى خيراً تصدى للأمور وأراحني من الكد ووفر أوقاتي على اللذة" ثم دخلت عليه بعد أوقات وقد شرع يتغير عليهم، فنظر فرأى الخيول كما رآها تلك المرة فقال: استبد يحيى بالأمور دوني، فالخلافة على الحقيقة له وليس لي منها إلا اسمها، فقلت انه سينكبهم فنكبهم عُقيب ذلك"، كما ذكر بختيشوع الطبيب أنه بينما كان جالساً في مجلس الرشيد إذ دخل يحيى بن خالد، وكان من عادته أن يدخل بلا إذن، فلما دخل وسلم على الرشيد، ردَّ عليه رداً ضعيفاً، فعلم يحيى أن الرشيد قد تغير عليه.
ثم عَبَّر الرشيد عن استيائهِ لدخول يحيى البرمكي عليه دون إذن فقام يحيى! فقال: يا أمير المؤمنين! قدْ منّ الله إليك. والله ما ابتدأت ذلك الساعة وما هو إلا شيء كان قد خصني به أمير المؤمنين ورفع به ذكري حتى إنْ كنت لا أدخل وهو في فراشه مُجرداً حيناً وحيناً في بعض إزاره، وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يُحب" وإذا قد علمت فإني أكون عنده في الطبقة الثانية من أهل الإذن أو الثالثة ان أمرني سيدي بذلك" فاستحى الرشيد، وقال: ما أردت ما تكره، ولكن الناس يتقولون".
كما أمر الرشيد خادمه مسرور بألا يقوم أحد من الغلمان تحية ليحيى إذا دخل مجلسه .
لم يكن تغير العلاقة بين الرشيد والبرامكة خافيا علي أعداء البرامكة الذين استعجلوا النهاية فدسوا للمغنين شعراً ليثير حفيظة الرشيد وكان لهذين البيتين وقعا شديدا علي نفس الرشيد .
ليت هنداً أنجزتْنا ما تعِدْ
وشفَتْ أنفسَنا مما تجدْ
واستبدَّت مرةً واحدةً
إنما العاجزُ من لا يستبد
فلما سمع الرشيد هذين البيتين قال "إي والله إني عاجز" وكانت لحظة الإنتقام
فأمر الرشيد مسرورا بضرب عنق جعفر وقبض علي يحى — وكان شيخًا كبيرًا — وزاد في حديده وأغلاله، وأَحْضَر الفضل، وضَرَبَه بالسياط حتى كاد أن يهلكه.
حاول يحيى أن يستدر عطف الرشيد ويذكره بالصِلَة القديمة فكتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم … إلى أمير المؤمنين، ونسل المهديين، وإمام المسلمين، وخليفة رسول رب العالمين، مِن عبْدٍ أسلمَتْهُ ذنوبه، وأوقعَتْهُ عيوبه، وخذلَهُ شقيقه، ورفَضَه صديقه، وخانه الزمان، وأناخ عليه الخذلان، ونزل به الحدثان … فصار إلى الضيق بعْد السعة، وعالج الموت بعْد الدعة، وشرب كأس الموت مترعة، وافترش السخط بعد الرضا، واكتحل بالسهر بعد الكرى.
يا أمير المؤمنين … قد أصابتني مصيبتان: الحالُ والمال؛ أما المال فمنك ولك، وكان في يدي عاريةً منك، ولا بأس برد العواري إلى أهلها، وأما المصيبة بجعفر؛ فبجرمه وجرأته، وعاقبْتَه بما استخف من أمرك، وأما أنا فاذكر خدمتي، وارحم ضعفي، ووَهَنَ قُوَّتي، وهب لي رضاك؛ فمِن مثلي الزلل، ومِن مِثلك الإقالة، ولست أعتبر … ولكني أقر، وقد رجوت أن أفوز برضاك، وتقْبَلَ عذري، وصِدْق نيتي، وظاهر طاعتي، ففي ذلك ما يكتفي به أمير المؤمنين، ويرى الحقيقة فيه، ويبلغ المراد منه.
لكن الرشيد كان قد أوصد كل أبواب الرحمة في وجه البرامكة فعلق على هذا الخطاب بقوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)، فيئس يحيى، وَّ لبث في السجن حتى مات …
وهكذا أسدل الستار على واحدة من الحوادث التراجيدية في علاقة السلطة بأصحاب النفوذ ودهاليز السياسة وأثرها في تبدل الأحوال من حال لحال
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: