د.محمد فتحي عبد العال - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 2495
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
من اللوحات التاريخية البديعة في تاريخ مصر تلك التي تجسد الحقبة التي شهدت انتهاء الحكم العثماني والمملوكي ودخول الفرنسيين لمصر ثم انتهاءا بتولية محمد علي باشا لحكم مصر فقد حفلت هذه الفترة بزعامات شعبية شتي نستطيع ان نظلل بها مساحات تجسد واقع الزعامة التاريخية في مصر واشكالياتها والصراع النفسي الذي يسودها والمؤثرات الخارجية من حولها ...
نتوقف عند احدي هذه اللوحات والتي اعتبرها تمثيل لنقطة البداية حيث اجتمع العلماء والمشايخ من الازهر والذين كانوا يمثلوا زمرة الطبقة المثقفه في مصر في هذه الاثناء يتقدمهم الشيخ الشرقاوي شيخ الازهر والشيخ عمر مكرم نقيب الاشراف والشيخ خليل البكري والشيخ السادات والشيخ الامير حيث اتفق الجميع ومن ورائهم الشعب علي وضع حد للظلم والضرائب الباهظه التي فرضها حاكمي مصر مراد بك وابراهيم بك انذاك ..
كانت شكوي اهالي بلبيس من جبايات الامير محمد بك الالفي وذهابهم الي الشيخ الشرقاوي الشرارة الاولي لهذه الثورة الشعبية العارمة والتي تقدمهاالمشايخ فأغلقوا الجامع الازهر والحوانيت وامام ثورة الشعب انصاع مراد بك وابراهيم بك لاجابة المطالب ووقعا وثيقة علي مضض برفع الظلم ووقف الضرائب والمكوس وكانت ثمرة هذه الثورة اول ماجناكرتا في التاريخ نظمت العلاقة بين الحاكم والمحكومين وقيدت سلطاته المطلقة في سلب اموال الناس بالباطل ...انها حقا للوحة بديعة اجتمعت فيها كل عناصر النجاح فالمصري المشهور بسلبيته المثاليه تجاه الاستبداد والنخب المثقفه التي تسودها الفرقه قد خلعوا ثياب السلبيه والفرقه وقرروا ان يصنعوا التاريخ تاريخ خلف ورائه دستورا بأرادة شعبية ارغمت حاكمي مصر المستبدين علي الايجاب والخضوع..
هذه اللوحة البديعة سرعان ما تبددت وتناثرت عناصر قوتها مع الوقت فاشكالية المصريين انهم لا يعرفون العمل الجماعي ابدا لا علي مستوي الزعامات ولا علي مستوي الافراد العاديين وهنا دوما موضع الفرقة والتفرق غير المعصوم بعد كل حركة ثورية سواء اكانت سابقة علي هذه او لاحقة عليها فدروس التاريخ تمضي مرور الكرام ..
وفي حالتنا هذه سرعان ما انفرط عقد المشايخ مع قدوم الحملة الفرنسية علي مصر وكل شيخ من الشيوخ الذين تزعموا الحركة الثورية السابقة مضي بطريق...
فعمر مكرم اول ابطال لوحتنا هو الشيخ الذي تمتع طوال مواقفه بكاريزما قيادية مثالية جعلته دوما محط الغبطة والغيرة من اقرانه من المشايخ وعلي رأسهم الشيخ البكري فقد اختار ان يقف بجانب المماليك في معركتهم ضد الفرنسيين من منطق الوقوف بجانب الحاكم الظالم في مواجهة خطر اكبر وهو مواجهة الكفرة الغاصبين!!!...ومع انكسار المماليك خشي عمر مكرم علي حياته وفر الي العريش ثم يافا ومع قدوم نابليون الي يافا وقتله لحاميتها الا انه علي العكس من ذلك اكرم المصريين هناك ومنهم عمر مكرم والذي عاد الي مصر واعتزل الحياة السياسية تماما ومع ثورة القاهرة الثانية كان لا يزال ظليل الزعيم هو المسيطر عليه وروح الخوف من مواجهة العقوبة هي عنوان هذه المرحلة من حياته ففر مرة اخري ولم يعد لمصر الا مع جلاء الفرنسيين عن مصر ودخول الجيش العثماني لمصر حيث اعادوه لمنصبه كنقيب للاشراف..
اما الشيخ الشرقاوي فقد آثر السلامة مع الفرنسيين منذ البداية ولم يغادر مصر وراح يرقب الموقف عن كثب تاركا الظالمين يقاتل بعضهم البعض فلما استقر الامر للفرنسيين قرر ان يكون حمامة السلام بين الفرنسيين والمصريين فأكرمه نابليون وجعله علي رئاسة الديوان بالاضافة الي جمعه بين منصبي شيخ الازهر ( الشئون العلمية والفقهية ) ومنصب ناظر الازهر ( الشئون الادارية) وهو جمع متفرد للمناصب لم يسبقه اليه احد مما اوغر عليه صدر اقرانه من المشايخ وفي مقدمتهم الشيخ الامير !! كان اندلاع ثورة القاهرة الاولي وتدنيس الفرنسيين لساحات الازهر ايذانا باثارة حمية الشيخ لمعتقداته الدينية فتخلي عن الدعة وداخلته روح الثورة من جديد فأنضم الي صفوف الثورة وتم اعتقاله ثم افرج عنه نابليون لحاجته اليه ومع ثورة القاهرة الثانية تم اعتقاله ثم افرج عنه مع خروج الفرنسيين من مصر..
شهدت العلاقة بين عمر مكرم والشرقاوي انقساما كبيرا بعد رحيل الفرنسيين عن مصر..
فمع تولي خورشيد الوالي العثماني لحكم مصر ارهق المصريين بالضرائب مما دعا المشايخ الي نبذ الفرقه والالتفاف خلف اللوحة الرائعة للثورة ضد خورشيد وكما قلنا من قبل حيثما يثور المصريون فأنهم يصنعون التاريخ فقد قرروا خلع خورشيد باشا الظالم واختيار اول حاكم لمصر وفق ارادة شعبية ..الغريب انهم لم يختاروا من بينهم احدا فروح المنافسة والصراع والكراهية الكامنة في صدورهم لبعضهم البعض وان ظلت مطوية في النفوس الا انها كانت سيد الموقف فوقعوا في الخطأ الكبير وفرغوا هذه السابقة التاريخية العظيمة من مضمونها حينما اتفقوا علي تولية حاكم اجنبي اضافة الي كونه عسكري هو محمد علي باشا !!!!
كان الانقسام بين الرجلين حول طريقة اخراج خورشيد من الحكم فقد استخدم عمر مكرم اسلوب الثورة المسلحة ضد خورشيد وامر الاهالي بالتسلح اما الشرقاوي فقد كان ممتعضا من بزوغ نجم عمر مكرم وقدرته علي الحشد الشعبي فقرر ان يفسد عليه خطته فأتفق مع محمد علي علي دعوة الاهالي لترك السلاح والعودة الي حياتهم الطبيعية ..تقبل عمر مكرم هذه الصفعة الموجهة الي شخصه لكنه عزم علي الانتقام وواتته الفرصة مع حملة فريزر علي مصر حيث امر الاهالي بحمل السلاح واصدر اوامره الي مجاوري الازهر بترك دروسهم والاشتراك بالمعركة فلبي الجميع نداءه واصبح واضحا ان الكلمة العليا صارت لعمر مكرم علي حساب الشيخ الشرقاوي والحقيقة ان عمر مكرم لم يكن وحده من قوض سلطة الشرقاوي فقد نجح الشيخ الامير في انتزاع منصب ناظر الازهر من الشرقاوي ومع تفاقم الصراع وجد محمد علي الفرصة سانحة لتحجيم الشيخ الشرقاوي وتحديد اقامته وعدم السماح له حتي بصلاة الجماعة !! غير ان تدخل الدولة العليه منع محمد علي من الاستمرار في ذلك لكن الرجل بقي دون ايه صلاحيات تذكر ..
بدا امام محمد علي ان عمر مكرم هو الاخطر علي سلطته المنفرده فقد تصدي عمر مكرم لقرار محمد علي بفرض ضرائب علي الاراضي الموقوفة والتي ينفق منها علي المدارس الدينية والمساجد ولاقت دعوته استجابة المشايخ فاستدعي محمد علي المشايخ للتشاور الا انهم رفضوا جميعا حتي يعود عن هذه الضريبة وكان اشدهم صمودا عمر مكرم ..فقرر محمد علي ان الفرصة قد حانت لاقصاء الرجل فاستمال اليه الشيخ الشرقاوي والمهدي والدواخلي وبذلك كسر جبهة الصمود من حول عمر مكرم وفي حضور العلماء والقضاء قرر عزله عن نقابة الاشراف ونفيه الي دمياط ..وهكذا انتهت الرحلة بزعيمنا عمر مكرم في المنفي تحت الحراسة المشددة اما الشيخ الشرقاوي فقد بقي قيد الاقامة الجبرية حتي موته...وهكذا كانت نهاية اثنين من ابطال لوحتنا..
اما الشيخ السادات بطلنا في لوحة البداية فلم تغيره الظروف فبقي صلبا محافظا علي الحق فمع دخول الفرنسيين وتشكيل الديوان فقد رفض المشاركة وفي ثورة القاهرة الاولي اتهم بالتحريض بينما في الثانية قبض عليه كليبر وفرض عليه غرامة كبيره وحينما رفض أمر كليبر بحبسه في القلعة فكان يضرب بالعصا ليل نهار ومما زاد مأساته ان حبست معه زوجته فكان يضرب امامها وهي تبكي وحينما مرض ولده لم يسمح له بزيارته وحينما مات الابن سمح له بالمشاركة في الجنازة كل هذا العذاب لم يفت في عضد الشيخ الشجاع البطل وظل في صموده وكان هذا التعذيب هو السبب الرئيسي في اغتيال كليبر بعد ذلك...
اما الشيخ خليل البكري فالحقيقة انه مثل اسوء انواع التحول في هذه اللوحة السابقة فالتغير الذي طرأ عليه كان مثيرا فقد غض بصره عن تبرج ابنته زينب والذي يصوره الجبرتي في تاريخه بأنها كانت تلبس الفستانات وتسير مكشوفة بين الناس وكان هذا من عظائم الامور في هذه العصور وكان انخراطها في وسط الفرنسيين وعلاقتها بنابليون والذي رأي فيها النسخة الشرقية من زوجته جوزفين كانت محل شكوك وتساؤلات بين مؤيد ومعارض حتي يومنا هذا !!
والحقيقة ان الثمن كان زهيدا اذا ما قورن بتضحية الشيخ بسمعته حيث كان حلم الشيخ البكري ان يصبح نقيبا للاشراف مكان الشيخ الهارب عمر مكرم وهو ما حققه له نابليون ...ومع جلاء الفرنسيين عن مصر ضحي الشيخ بابنته للمرة الثانية وتركها لانتقام الناس مطالبا اياهم بقصف رقبتها علي حد تعبيره !!! حيث لقت مصرعها في النهاية .
من لوحة الثورة ننتقل الي لوحة تاريخيه اخري انها المقاومة للمحتل الفرنسي وفيها تبرز زعامتين جمعهما هدف واحد ومصير واحد ايضا!!! ولقد كان هذا المصير درسا في وجدان المصريين جعل من الزعامة خيارا صعبا ومستحيلا في احيانا كثيرة!!!
الاول كان حاكم الاسكندرية محمد كريم الذي استبسل في الدفاع عن الاسكندرية واعتصم بقلعة قايتباي حتي فرغت ذخيرته فاضطر للاستسلام لنابليون والذي احترم استبساله واقره حاكما مدنيا للاسكندريه وعين الجنرال كليبر حاكما عسكريا للاسكندريه ...الا ان محمد كريم عاد لقيادة مقاومة مسلحة ضد الفرنسيين كبدتهم خسائر في الارواح والمهمات فعاد نابليون للقبض عليه من جديد ووضع مصيره بين خيارين اما الاعدام رميا بالرصاص او دفع الفدية وهنا تختلف الرواية المصرية والتي جسدها الجبرتي عن الرواية الفرنسية والتي كتبها بعض القادة المعاصرين اثناء الحملة فيزعم الجبرتي ان كريم قبل ان يدفع الفدية الا انه لم يكن معه المال الكافي فتوسل للتجار واثرياء المدينة ان يدفعوها عنه قائلا :اشتروني يا مسلمين ولكن دون جدوي فالجميع منشغل بحاله !! كما يقول الجبرتي وقتل الرجل رميا بالرصاص.
انا الرواية الفرنسية فتتحدث عن رفض كريم للفديه وتفضيله للموت ..وهو الذي وضع المؤرخين في حيرة في تبني اي الروايتين حقا؟!!
نأتي للزعامة الثانية في لوحة المقاومة ونأتي علي ذكر الحاج مصطفي البشتيلي تاجر الزيوت بحي بولاق ابو العلا والذي اشعل من حي بولاق ثورة القاهرة الثانية وتولي امداد الثائرين بالاسلحة وتحمل كلفة ذلك من ماله الخاص فأغار كليبر علي الحي والذي تحول الي ركام ولان المحتل ليس من نهجه صناعة الابطال الذين يظلون عالقين بذاكرة اوطانهم فقد اوغر كليبر صدور المصريين علي البشتيلي متهما ايه بأنه السبب في الدمار الذي لحق بحيهم وارزاقهم فتم معاقبته بالتجريس حيث اركب حمارا مقلوبا وطيف به وسط شتائم وبصق المصريين عليه !!!!!...
لقد كان مصير كريم والشربتلي درسا قاسيا للزعامة في مصر عبر الاجيال فصراع داخلي يتخلل النفس بين الزعيم وظليله يدفعه للتساؤل دوما لماذا اتقدم الصفوف؟ ولماذا اخاطر بذاتي؟ وماذا سأجني؟ولماذا انا دون غيري؟ وهل سيذكرني التاريخ ام سينساني مثل غيري ممن رحلوا في صمت؟..القليل من يخرج من هذه الدوامة النفسية بأن يكون زعيما مهما كلفه الامر من مشاق ومهما كان المصير وهؤلاء هم أعمدة التاريخ ..
انه لمن الصواب ان نقول ان مصير كريم والشربتلي جسد المصير الذي عادة ما يلاقيه كل ثائر من اجل شعب جاهل فهو كمن يضمر النار في جسده ليضيء الطريق لعميان ولكن حكام مصر منذ فجر التاريخ حافظوا علي ابقاء جل الشعب جاهل فلا تندهش سيدي القاريء اذا علمت ان الدعوات الي محو الامية في مصر بدأت منذ عهد اخناتون الي اليوم اي منذ مايربو علي خمس وثلاثين قرنا من الزمان دون تحقيق اي نتيجة تذكر ولا يزال الجهل في ربوع مصر ...وللحديث بقية
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: