د. ضرغام الدباغ - ألمانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3589
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
شائع في الحياة السياسية المحلية أو الدولية، أن يجد القادة (أو القيادات) أنفسهم أحياناً في موقف يستحق اتخاذ قرار سريع وحاسم، فالتردد يكون في بعض الحالات هو في الواقع بمثابة عدم اتخاذ قرار، لأن المرحلة تكون قد تجاوزته، فيكون كالطبيب الذي يصف الأسبرين لمن هو مصاب بداء وبيل، فالتشخيص الدقيق، والوصفة العلاجية الصحيحة هي ما ينقذ الموقف.
وليس نادراً أن يتحتم على القادة اتخاذ قرارات صعبة، وهنا تنطبق الحكمة العربية : " العبرة ليست في الأختيار بين الخير والشر، بل في أختيار أهون الشرين " وقد قيل أيضاً " مرغم أخاك لا بطل "، فقد يترتب على القائد اتخاذ قرار لا يرغبه، ولكنه الممكن الوحيد، أو الأفضل، أو الأوفر، الذي يختصر أو يتجنب موقفاً أكثر تعقيداً وينطوي على خسائر أكبر، فالقبول بخسارة جزئية في هذا الموقف هو ذكاء وجرأة وشجاعة، هو في الواقع تجنب لخسارة كبيرة وربما كارثة تطل بأبعادها من بعيد.
رغم أن بعض علماء السـياسـة في الشـرق (من عرب وغيرهم) أطلقوا قاعدة ذهبية هي قديمة في السـياسـة مفادها " خالف هواك " أي تجنب أتخاذ قرارات بدافع الهوى، وليس العقل، إلا أن السياسي الشرقي، غالباً ما يفكر ويعمل وفق هواه لا وفق المعادلات المطروحة على أرض الواقع، وهناك عدد لا حصر له من القرارات المؤسسة على أحكام العاطفة والرغبة.
لكن ترى ما لذي دفع القيادة الروسية والرئيس بوتين إلى اتخاذ قراره الكبير، وإنتهاء تدخل واسع النطاق بدأ يوم 30 / أيلول ـ سبتمبر / 2015)، وانتهى بالانسحاب من سوريا (15 / آذار ـ مارس ـ / 2016)...؟
كان هذا السؤال مثار جدال ونقاش يدور في التعليقات السياسة ويذهب الناس في ذلك مذاهب شتى، وربما في محصلة الأسباب جميعها تكمن الحقيقة.
وابتداء من غير المعقول أن يكون التصريح الفج الذي أدلى به وزير خارجية النظام أن مسألة انتقال في السلطة خط أحمر، وهو تصريح يثير الغضب حقاً، وكأن مؤتمر جنيف يدور برعاية أسدية كريمة، ولا يريد أن يدرك أنه مدعو إلى المؤتمر شأنه شأن أي فصيل آخر، أو في تصريح مندوبه الدائم في الأمم المتحدة قوله : أن بحثا انتقال السلطة من الأمور السيادية، وهو تصريح مثير للسخرية لم يعلق عليه أحد لضحالته، وهل بقي شيئ من سيادة الدولة. والغريب أن هذان دبلوماسيان، يفترض أن يزنان حديثهما وأحدهم هو عميد الدبلوماسية في بلده، ولكنه فيما يبدو مرغم على قول الكلام الفج، لأنه محشور في زاوية لا يمتلك غيرها، والتسليم بها يعني شروع في البحث عن بلد يلتجأ إليه.
قرأنا أن الرئيس بوتين قد غضب فعلا لتصريح وزير الخارجية السوري، ولكننا نرجح مع ذلك أن الأنسحاب لم يكن بسبب هذا التصريح، بل من المؤكد أن روسيا كدولة عظمى، لها باع طويل وعريق في السياسة الدولية قد أدركت بشكل واقعي أن الأنسحاب هو الممكن الوحيد والأكرم رغم أنه قد ينطوي على خسائر تكتيكية، ولكن مقابل ربح ما تبقى من جولات السجال الاستراتيجي في الشرق الأوسط، ومن ذلك ربما الحفاظ على القاعدة أو القاعدتين التي حصل عليهما في سوريا.
وفي تحليل مادي نتوصل إلى النتائج الابتدائية التالية :
1. تبرز حقيقة واضحة للعيان، أن الثورة السورية العظمى، قد أنهت الجيش الحكومي الطائفي، وأجهزة الأمن، وشبيحته، ميليشياته،كبير جداً يفوق في مغزاه السياسي معناه العسكري، إلى عدالة الثورة والألتفاف الشعبي العارم حولها.
2. أن تدخل إيران وخلاياها وميليشيتها وجيوشها، لم تتمكن كلها من أن تفعل شيئاً حاسماً، ومغزى التدخل الروسي يشير بجلاء أن النظام وحلفاؤه عجزوا أمام الثورة.
3. التدخل الروسي في الوقت الذي يعني فيه عجز إيران ومرتزقتها (حزب الله اللبناني، الميليشيات العراقية، الميلشيات الأفغانية، ميليشيات يمنية، بحرينية ..الخ ) قاد إلى إضعاف الموقف السياسي الإيراني.
4. نفذ الطيران الروسي 9000 طلعة قتالية حتى يوم أنسحابهم الرسمي، وربما أنه بما تبقى له من وجود عسكري قتالي سيحاول بطريقة وأخرى أن يتدخل في اللحظات الحرجة، ولكن من أجل الإبقاء على النفوذ السياسي والبقاء في الملعب السوري وذلك أهم بكثير من مصير نظام الأسد. والروس الذين يعانون من مشاكل اقتصادية بسبب العقوبات على خلفية المواقف في القرم وأوكرانيا، وانخفاض أسعار النفط. جاءت تكاليف الحملة لتضع على كاهلهم ما يصعب أحتماله. فالحملة (50 طائرة حربية، 1600 عسكري، قطع من الدروع، قطع بحرية غير محددة)، أطلقت 26 صاروخ جوال(كروز) سعر الصاروخ (1,200 ــ 1,500 مليون دولار)، الحملة كانت تكلف بالإجمالي حوالي 4 مليون دولار يومياً، لمدة خمسة شهور. هذا عدا خسائرها بالارواح والمعدات.
5. نعم ساعد التدخل الروسي بشكل فعال بتأخير مصير الأسد، أو تأجيله، كان على وشك النهاية فأنقذوه مؤقتاً، ولكنهم لم ينقذوه من مأزقه كحصيلة. بل فعلوا ما يمكن فعله لمصلحتهم، مع أن فالروس يدركون أكثر من غيرهم، أن بقاء الأسد في السلطة أشبه بالمستحيل، بعد أن قتل وشرد أكثر من نصف شعبه، ثم يبقى بعد ذلك ليفعل ماذا ..؟ فقد ولت بعيداً زمن المبادرات المفيدة، والروس يدركون أيضاً أنهم قد يخسرون ود وصداقة طويلة وعريقة مع البلاد العربية وربما الإسلامية. كما أن الروس أراحوا ضميرهم فقد حاولوا كثيراً أن ينصحوا الأسد تفادى ارتكاب الكثير من الأخطاء التي لم يكن لها مبرر، أرتكبها بسذاجة وقلة تبصر نادرة، منساقاً وراء أوهام أن يظهر بثياب أبوه ويلعب السياسة بالسلاح. والروس وبمستويات مختلفة نوهوا بإشارات عديدة إلى هذا الأمر. فما هو المغزى الحقيقي للأنسحاب ..؟
ولكن الروس يدركون وفق قاعدة التسليم بالأمر الواقع، إنقاذ ما يمكن إنقاذه (Save waht can be Saved) الكف عن المراهنة على الجواد الخاسر، فالروس يعتقدون أنهم بقدر تفهمهم لظروف الشرق الأوسط ومتحولاته، سيتحدد دورهم المستقبلي في المنطقة، ومن خلال سياسة إبداء التفهم، يمكن ترميم ما لحق بمكانتهم من عطب خلال حقبة الثورة السورية. ثم أن الأنسحاب سيطرح الروس طرفاً فاعلاً في المناقشات الدائرة، وربما بدرجة ما رسم خطوط المستقبل في سوريا.
في السياسة ليس هناك عيب وخجل، بل هناك كل طرف يعرض قدراته ومعطياته بصورة واضحة، ولا يستطيع أحد أن يلعب دور الشهيد المجاني، فالروس / السوفيت انسحبوا من أفغانستان حينما تبين لهم أنه لا يمكن البقاء ولو ليوم إضافي، فتركوا رفيقهم ورجلهم وحليفهم الرئيس نجيب الله تعبث به أقداره، بل لم يقبلوا حتى لجوءه لسفارتهم في كابل، فلجأ إلى مكتب الأمم المتحدة، الذي لم ينقذه من مصيره المحتوم، والأسد ليس بأغلى من نجيب الله كقيمة في التحالف.
وفي السياسة ليس هناك أخلاق، فهذه مفاهيم توارت منذ أكثر من خمسة قرون خلت، عندما ألغى ميكافيلي هذه المفاهيم حين قال " لا يمكن المحافظة على الدول بالكلام " وإذا تمكنت روسيا من الحفاظ على مصالحها، فلماذا لا تفعل ...! هناك مثل باللغة الألمانية : (Jeder muß auf sein ausgansposition achten) أي : ينبغي على كل أمرؤ أن يتبين نقطة انطلاقه (مصالحه) : (Everyone must be aware of his starting Position) . إذن كان على الأسد أن يفكر ولو لبرهة بحلول سياسية، وأن يطرح بدائل للقوة الدموية.
الشعب الروسي هلل لقرار رئيسه، وأستقبل القوات العائدة في القواعد الجوية، أضف إلى ذلك توفير التكاليف المالية للحملة الروسية في ظرف اقتصادي تعاني منه روسيا بانخفاض أسعار النفط، وبفعل العقوبات الغربية والتداعيات السياسية لأزمات القرم وأوكرانيا، وإرضاء لقطاعات شعبية في روسيا (وبعضها معارض للتدخل في سوريا)، ترى أليس من العبث أن يموت روس ليبقى بشار الأسد في السلطة أربعين عاماً أخرى ... والأفضل فليواجه كل مصيره الذي يرسمه بيده وليدفع تكاليف طموحه، غباؤه، بطولته، من جيبه ... وليس من جيب بوتين ...!
سياسي ألماني يرجح أن بوتين أجرى حسابات كثيرة قبل أن يقدم على قراره الكبير، ومن تلك تجنب مواجهات غير مستحسنة، وأنهى تدخله في ساحة أصبحت تعج بالمتدخلين حتى بصورة مباشرة، تركيا والسعودية، وسائر بلدان الحلف الإسلامي، وبالأمس تناقلت الأنباء وجود صواريخ تعقب حرارية مضادة للطائرات لدى الثوار في سوريا، وأسلحة استراتيجية، لا أحد يعرف كيف تسللت إلى هناك ..! فالمواجهات إن نشبت فستكون مكلفة وباهضة الثمن سياسياً وعسكرياً ومالياً.
من المؤكد أن محادثات الروس مع الأمريكان حول الموقف في سوريا، قد تضمنت جرد شامل ومراجعة لكافة بؤر التوتر، وساحات المواجهة المحتملة : جورجيا، القرم، أوكرانيا، وبشار ليس سوى لقمة صغيرة في مائدة عامرة. ومن بين ما يمكن الأمريكان تقديمه في المقايضات، هو قدرتها على التأثير على أصدقائها وحلفاءها العلني منهم أو الكامن ....! وكذلك يفعل الروس، وإن كان حجم تأثيرهم ومدى إشعاعهم أقصر من نظيرتها الأمريكية، ولكنهم (الروس) كانوا السنة الأخيرة على الأقل يمثلون خط الدفاع الأول للنظام أو ما تبقى منه في سوريا. وأن انسحابهم سيكون له تداعياته غير البسيطة في الموقف العسكري والسياسي. وفي مقدمة تلك التداعيات أيضاً، تحولات (سلبية) ستطرأ على مواقف إيران وأذنابها، وبعض من أطراف تحابي نظام الأسد مجاملة للروس، أو وفق نظرية عدو صديقي عدوي.
بين ألمانيا وفرنسا ما صنع الحداد وذكريات مريرة وحروب ..! ومع ذلك فإن أديناور وديغول (كان أسيراً عند الألمان في الحرب العالمية الأولى) وكلاهما قائدان تاريخيان لبلدهما، استطاعا بعبقرية أن يتلمسان أهمية عقد شراكة استراتيجية / أوربية، تحكم البلدين منذ أوائل الخمسينات تتواصل حتى الآن كعلامة فارقة في السياسة الأوربية / العالمية.
السياسي / القائد، إذ كان بمستوى وحجم تاريخي، يتصرف على أساس ليس هناك أثمن من البلد، وأعز من الشعب، ولكن مالعمل إذا يعتقد سياسي ما، أن البلد عبارة عن مزرعة أبقار يحلب منها هو وأبن عمه وأبن خالته، وعساكر مرتزقة يهتفون " الأسد أو نخرب البلد " ...!
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
نعم ... بهذه السفاهة وقلة التبصر تم تخريب بلد جميل أسمه سورية .... ليتحول المثل السياسي المعروف : " ليس بالإمكان أحسن مما كان " ، إلى العكس منه تماماً : " ليس بالإمكان أسوء مما صار " ....
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: