د. ضرغام الدباغ - ألمانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4290
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
العراق كمساحة، وجغرافية، وتاريخ، وكمعطيات بيئية طبيعية، وتشكل حضاري، هو في النهاية رمز لهذه لكل هذه المعطيات بمجموعها وبتفاعلاتها، وكيفما لفظت وكتبت، وبأي لغة، في الأخير هو العراق.... عراق ارض السواد والعراقان وارض ما بين النهرين وبلاد الرافدين وسومر واكد وبابل واشور وشنعار وبلاد كلدة وميسوبوتاميا، إيراك، كلها تسميات لكيان ووعاء لتجمع بشري منذ تشكل التاريخ، لأسباب وظروف خارجة عن إرادة الأفراد مهما علت مكانتهم وكبرت جيوشهم، فهي أحداث وظروف طارئة لا قيمة لها البتة حيال التشكل التاريخي الذي يفرز نتائجه وقيمة الراسخة الغير قابلة للتغير، فمن يتمتع بقوة خارقة اليوم، قد لا تستمر لقرن قادم، والغني اليوم، قد يصبح ذات يوم فقيراً يحتاج المساعدة.
من يقرأ في بطون كتب التاريخ وفلسفة التاريخ ويتعلم كيف تتشكل الأمم العظيمة، العالم الحقيقي المخلص للعلم ولم ينل الفساد رأسه، يعرف أن الأمر خارج عن تصورات وتخيلات في الفنتازيا السياسية ورغبات في التوسع وبسط الهيمنة، وخارج عن إطار الجهد الفني والفلسفي وبداهة العضلي. وهنا تتدخل ظروف لا يعرفها أولئك الذين يعتقدون أن بوسعهم تغيير مجرى التاريخ، فلا أحد يعلم لماذا يسيل نهر النيل ويجري من الجنوب صوب الشمال منذ ملايين السنين، ويخلق دلتا من طين الغرين تجلبها الفيضانات في تربة البراكين لتخلق منها أرض مصر، فمصر كمساحة وأرض وجغرافيا ومعطيات كالعراق، ومثلهما أيضاً دلتا براهما بوترا، والميكونغ، ومصر تحدها صحراء من الغرب، وصحراء من الشرق والبحر من الشمال وبلاد النوبة من الجنوب، والهند تحدد مساحتها سلسلة جبال هملايا، والمحيط الهندي وبحر العرب.
العراق ليس كياناً فنياً، حدث بالصدفة، أو نتيجة لرغبة قوة ما سياسية كانت أم عسكرية، وتغيره بالتالي هو أمر خارج عن حدود الرغبات والإرادات فلينقلوا سلسلة جبال زاغروس من مكانها الذي اختارته الطبيعة وتحركات القشرة الأرضية بنتائج زلازل ربما من مليارات من السنوات، وليزحفوا إن أستطاعوا جبال الأناضول من موقعها إلى بغداد، وليعيدوا الخليج العربي إلى أور، وحتى ذلك سوف لن يغير من جوهر الكيان العراقي.
العراق بدأ يتشيأ ويبرز منذ نحو عشرة ألاف سنة قبل الميلاد، منذ أن نزلت أسر من الإنسان القديم من المرتفعات، وتوصلت لمبدأ قبول العيش الجمعي، والتعاون من أجل الحياة، والتخلي عن حياة الهيام في البراري والتقاط الأثمار والصيد، إلى تدجين الحيوانات، والزراعة التي مثلت نشاطاً إنتاجياً جمعياً لا مناص منه، وهذا تطلب السيطرة الهيدروليكية على المياه، وهذا بدوره أفضى إلى وضع أسس وقواعد الاجتماع فنشأت أولى الكيانات السياسية، القائمة أساساً على المعطيات الاقتصادية، وفي الحتمية التاريخية للعمل الجمعي.
ومنذ أكثر من 12 الأف عام، تدور في هذه الرقعة التاريخية المباركة عمليات سياسية واقتصادية وثقافية كثيرة، جاءت إليها قوى كثيرة طمعاً بثرواتها وبكرم أهلها وذكائهم وشجاعتهم التي أكتسبوها عبر التاريخ من خلال تصديهم لمحن وكوارث طبيعية وصحية وحروب إبادة، ومؤامرات، ولكن كل ذلك كان يأخذ دورته الزمكانية ويمضي إلى كتب التاريخ ليحتل فيها ربما بضعة صفحات في أفضل الحالات.
العراق شهد في حقب متفاوتة كيانات جانبية، أنشقت، أو استغلت هيمنة القوى الأجنبية، وغياب الدولة المركزية (الأكدية، البالبلية، الأشورية، البابلية الثانية) ضمن مساحته الطبيعية كيانات كإمارة ميسان، ودولة الحضر، وإمارة سنجار، والحيرة، وجاءت قوى أجنبية إلى العراق بأساليب شتى (بالحروب أو بالمؤامرات) ومرت حقب مظلمة سوداء وخيل لأكثر الناس أن العراق قد أنتهى، ولكن هذا البلد الذي هو في الختام نتاج لإرادة قوى غير منظورة تفوق في قوتها كل ما يدور في مخيلة البشر، يفرض نفسه حتى في ضعفه، فحتى الاسكندر المقدوني والعيلاميين، والأتراك والإنكليز لم يستطيعوا تجاهل الوحدة الطبيعية التاريخية للعراق، نعم هم بثوا الألغام هنا وهناك، ومن يشاء الانشقاق سيجد نفسه في نهاية المطاف نادماً عن الانفصال عن القلب، كيان عاجز عن الحياة.
ويقودنا التحليل المادي الموضوعي إلى حقائق جوهرية مهمة، كانت وراء السباحة ضد تيار الحتمية التاريخية :
1. أن بروز هذه الكيانات الجانية كانت دائماً مطلباً خارجياً لترويض وكبح جماح حركة اجتماعية / اقتصادية هائلة تدور في هذا الوادي الخصيب.
2. عمدت القوى العظمى التي تسيدت المنطقة لفترات محددة، إلى تشكيل كيانات سياسية، لم تكن في الواقع تلبية لظروف وضرورات تاريخية، بل كانت نتيجة ضرورات تكتيكية سياسية / عسكرية اقتضتها مصالح الدول العظمى، فيما يسمى حتى في علم السياسة اليوم خلق دور لتلعب دور الوسادة أو الحاجز (Buffer State) هي دول قامت لتخدم مصالح من أنشئها كدول تابعة (State Vassal) وبالتالي هي دول تحت الحماية (State Protektorat) وهي كيانات مصطنعة توضع بين وفي الحدود التي تقرر مصالح دولتين عظميين. وفي هذا المآل لعبت في العراق دولة الحيرة دور الحاجز أو الوسادة بين الدولة الساسانية والدولة الرومانية التي كانت تدمر تلعب دوراً مماثلاً في البادية السورية (دولة حاجز / وسادة).
3. حدث مراراً أن طموح شخصية أو ولاة المناطق بلغ حداً بأن يسعى لتكوين كيان خاص بأسرته، دون توفر الشروط الموضوعية لقيام الكيانات السياسية، فيقيم كياناً لبه وسداه هو تلك الشخصية الحاكمة القوية، ولكن بمجرد وفاة المؤسس، تبدأ الكيان بالاحتضار الذي ربما يطول لبضعة عقود لا أكثر. ويكون هذا الكيان مدعوماً من القوى المنافسة، بهدف إضعاف مركزية الدولة القوية العراقية. ومثل هذا حدث في الولايات الشرقية للدولة العباسية، وفي جنوب العراق (الدولة الصفارية/ في أواسط العهد العباسي).
الحقيقة الجوهرية الهامة التي نستخلصها من هذه التجارب، أن هذه الكيانات : الانشقاقية / المتمردة، لم تكن لتمثل استحقاقاً تاريخياً، بقدر ما كانت كيانات جرى إعدادها في مطابخ الدول الأجنبية وتلبية لمصالحها الاستعمارية بالدرجة الأولى، بهدف إلحاق الضعف بالجميع، وعدم السماح بقيام كيان / دولة مركزية قوية يصعب التعامل معها. واستغلال القدرات العراقية ووضعها في خدمة مخططاتها.
في جلسة مع أخوة وأصدقاء، قلت لهم جاداً، أن الأقدار اختارت هذه الملاحم للعراق ستفيد العراق وتقويه وهي لمصلحته حتماً .....! فهب بعض الأخوة مستغرباً الرأي، وأوضحت وقلت ....
تخيلوا أيها الأخوة، لو كان الفرس يتمتعون ببعض الذكاء، (ويبالغ البعض بوصف دهاء الفرس وبعد نظرهم)، ولكن الحقد والكراهية تمتلكتهم وحجبت الرؤية الذكية البعيدة النظر، وهم شعب يتربى على الكراهية والشتائم واللعن والسب والتكفير والتفسيق، لو أنهم .... نقول ( لو ) وهي أداة شرط غير جازمة .... لو أنهم توجهوا للشعب العراقي بالمحبة، والود، أن دعونا ننسى كل ما كان بيننا في قرون ولت وأصبحت في الماضي والتاريخ، نحن جيران وسنبقى كذلك أبد الدهر، لنفتح صفحة جديدة للنظر إلى الأمام وليس إلى الخلف، لنتطلع إلى ما يعمر وليس إلى ما يخرب .... تصورا ماذا كان سيتأسس على مبادرة كهذه، لكانوا نجحوا بكسب على الأقل قلوب الناس أولاً ثم عقولهم بعض أقل بخطاب عقلاني محترم، ولكنهم لم يكسبوا بالمال والقوة إلا أصاغر الناس والنتائج على أرض الواقع خير دليل ....!
بالطبع ليس بوسع المرء تغيير طباعه، فليس بوسع الذئب أن يصبح نباتياً، وإلا سيتحول بعد بضعة مدة إلى حيوان يدجن ويكون نافعاً، ولكن بوسع الذئب الذكي أن يلعب ولو لفترة دور الذئب الذي ألتهم جدة ليلى ولبس ثيابها واستلقى في سريرها وكاد أن يلتهم ليلى نفسها بهذه الخدعة ....
الأمريكان والإسرائيليون سعداء بالطبع لوجود ذئب مخلص لصفاته، وإن تنازل عنها لبرهة، ولكن ليصبح ضبعاً، يقبل بالأدوار الثانوية ودور الممثل الذي يعميه حقدة وتأكل الكراهية قلبه، فيفقد البصر والبصيرة، فيفعل كل شيئ لكي ينفذ إرادته المريضة، في القتل والاغتيال والتخريب والتدمير، وهو يناسب كثيراً ما يرغب به طرفا التحالف الثلاثي (الأمريكان والإسرائيليون) ولكن لينفذ الجزء الأكثر قذارة منه بأيدي الفرس، وهو يحقق أكثر من هدف في آن واحد، وفي المقدمة إظهار الإسرائيليون والأمريكان وكأنهم حملان وديعة قياساً بوحشية الفرس، بل ويرجح بعض الناس، إن كان لابد من القبول بالهيمنة، فلتكن أمريكية، فالمجرم الأمريكي يكتفي بعدد محدود من الضحايا، يشبع بعدها كأي نمر متوحش، أما الضبع الفارسي لا حدود لشهية القتل عنده، ويقتل من أجل متعة القتل، وليرضي نفسه المريضة.
إن كان هناك من يعتقد (فرداً كان أم فئة) أن بوسعه أن يعيش خارج العراق، فهو مصاب بوهم بائس ..... ومن السهولة الشديدة التي يتيحها عالم الاتصالات الالكترونية اليوم، هو أن يكون بوسع المرء أن يفتح الأنترنيت، والفيس بوك، والتويتر، والسكايب والوتس أب، الفايبر وليطلع بسهولة شديدة على معاناة الأحوازيين، والآذاريين، والبلوش .. وسواهم لينظر ويقارن ويفكر ...... ويعتبر ....! كم أن الأمر لا علاقة له نهائياً وبالمطلق بالدين ... بل له علاقة بكل شيئ إلا الدين ...!
هذه الأطماع الفارسية خاصة والاستعمارية عامة ليست جديدة على العراق، بل هذه قديمة جداً، وما جعل هذه القوى أن تكون عينها حولاء على العراق هي ما حباه الله من صفات طبيعية، وصفات وأخلاق العراقيين التي تلائمت مع تلك المزايا فخلق مزيجاً نادراً لا يمكن أن يتكرر .. ولبعض آخر من الدول والقوى أنه عقبة بوجه أطماعها بالتوسع، وبعض يرى أنه حجر زاوية الأمن والاستقرار في المشرق العربي، والشرق الأوسط .... ونحن نراه وطناً أرضه وسماؤه ومياهه مقدسة، هو عزيز علينا بكل ذرة تراب منه.
هذه مرحلة مفصلية مهمة في تاريخ العراق ... ومساهمة كل شخص أو حركة ستسجل في صفحته في سجل الأحداث .... الأمر في حجمه وتأثيراته ونتائجه التاريخية الحاسمة يتجاوز بوس اللحى ..! إذ يدور صراع تاريخي بين من يسعى لتعزيز العراق، وبين من ينظم للمعسكر المعادي الذي يريد تغير الجغرافيا والتاريخ .. ولأولئك نتوجه بالقول ضميراً وفكراً.... العراق باق ...... العراق الذي يحده شمالاً جبال الأناضول، وجبال زاغرس شرقاً وخليج البصرة جنوباً واد خالد باق، ليس من صنع البشر، لذلك ليس بوسع البشر تغيره .... فليتفكر كل سادر في غيه ... وليعيد النظر كل من أخطأ الرؤية ... وليتراجع طالما في القوس منزع ......!
---------
تم التحوير الطفيف للعنوان لكي يكون أكثر دقة
محرر موقع بوابتي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: