د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7496
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
قد يستغرب القارئ من عنوان هذا المقال، خاصة إذا كان من الأجيال التي أتت بعد ستينيات القرن الماضي في تونس، فأقول لهم في نفس الوقت الذي أنبش فيه ذاكرة أبناء جيلي لأحيي هذا الاسم الذي غاص في أعماق ذاكرتنا الميتة، أنّ "دوروس" هي كنية لفنان تونسي عاش في منتصف القرن العشرين ولا أعلم إن كان قد توفي أو لازال حيا. حاز هذا الفنان شهرة عالمية في فنّ نادر في مجتمعاتنا العربية ولعله كان محرّم لدى بعض المغالين في الدين باعتباره سحرا. والواقع أن لا صلة لهذا الفن بالسحر ولكن ممارسته تبهر أعين المتفرجين ويوهمهم بنتائج تمّ الإعداد للحصول عليها بعناية فائقة بالدرس والتّدريب حتى يتم اتقانها، تبدو للناظرين أعمالا خارقة فيعتبرونها خطأ سحرا. أما مصطلح "دورتوس" فلعله مشتق من تكنيك التنويم المغنطيسي كما يوحي بذلك فعل (Dormir) أي نام في اللغة العربية.
يعرف هذا الفن في الغرب بفن الخداع illusionnisme ويسمى الذي يمارسه illusionniste، ويطلق الفرنسيون على الفنان تسمية Prestidigitateur لمَ يمتلكه من ومهارة يدين تجعله قادر على اظهار و/أو اخفاء الأشياء أمام أعين المشاهدين. كان هذا الفنان التونسي واسمه (حمادي) وكنيته (دورتوس) نسبة لفنه من الرموز الوطنية المطموسة التي أثرت في شخصية أجيال بأكملها بمهارته وعروضه الشيّقة التي كان يقيمها في المدارس الابتدائية أمامنا أيان كنّا أطفالا.
قفز "دورتوس" إلى ذاكرتي بعد طول غياب بينما كنت أتابع بكل اهتمام تركيز كل كلمة خرجت من فم السيد "حمادي الجبالي" رئيس الحكومة التونسية المؤقت وهو يتوجه بكلمة للشعب التونسي، نقلت على الهواء مباشرة مساء يوم 6 فيفيري 2013 إثر اغتيال الشهيد "شكري بلعيد" رئيس حزب "الوطد".
كان السيد "حمادي الجبالي" بالغ التأثر وقد بدا عليه الشحوب نتيجة تلك الجريمة الشنعاء والأزمة الصحية التي تعرّض إليها قبل أيام قليلة. كان الرجل صادق المشاعر وهو يتقدم بالتعازي لأهل الفقيد ولحزبه وللشعب التونسي عموما وهو أمر لا غبار عليه. جاءت كلمة السيد رئيس الحكومة مؤثرة، نفذت إلى أعماقي، فانتابني إحساس بوجود نقلة نوعية في تلك الكلمة، حملت صاحبها إلى مرتبة رجال الدولة المتمكنين والساسة المحنكين، أخرجت الرجل من ضحالة الخطاب السياسي النّهضاوي المحنّط الذي لم يقنع الشعب التونسي طوال مدّة حكم حزب النّهضة على امتداد أكثر من سنة.
جملة واحدة استرعت انتباهي في كل ما قاله السيد "حمادي الجبالي"، أيقظتني من الصدمة التي شلّت فكري في ذلك اليوم المشؤوم... جملة أخرجتني من دائرة العواطف والخمول العقلي، فكانت بمثابة صعقت كهربائية أيقظت فيّ المنهج العلمي والمقاربة النقدية. أشار رئيس الحكومة بما لا يقبل للشّك أنّه قد اتخذ قرار حلّ الحكومة الموسعة الحالية التي تألفت على قاعدة المحاصة الحزبية بين أحزاب الأغلبية في المجلس الوطني التأسيسي والتي أصبحت تعرف بالترويكا الحاكمة؛ دون استشارة حزب النّهضة أكبر حزب في ثلاثي الحكم وهو يعلم علم اليقين أنّه أمينه العام وأنّه في ذات الوقت لم يخلع بيعته لأمير الجماعة الذي هو رئيس النّهضة. أعلن سيادته قراره، مردفا تحمله المسؤولية كاملة عن استقلالية موقفه في اخبار التونسيين عن عزمه ترأس حكومة كفاءات وطنية(تقنوقراط)، مستقلة ومضيّقة لتسيير الشأن العام إلى حين انتهاء المجلس التأسيسي من كتابة الدستور؛ وتحديد موعد محدّد للانتخابات البرلمانية والرئاسية حتى تخرج البلاد من أزمتها السياسية وتتفرغ السلطات الثلاثة لقضايا التنمية والتّغلب على البطالة...
كان ذلك مطلب المعارضة وعلى رأسها الراحل شكري بلعيد، بعد أن ثبت عجز الحكومة المؤقتة في كل المجالات، إضافة إلى وقف سيطرة حزب النّهضة على البلاد وتصرفها في الدولة على أرضية المولاة لا الكفاءات. رغم الاستجابة المتأخرة لرغبة المعارضة ودخولها في مفاوضات مشروطة بحسابات نهضوية، إلا أنّ الطريق قد سدّت في وجه رئيس الحكومة السيد حمادي الجبالي الذي صرّح بنفاذ صبره أمام المناورات السياسية والحزبية ورفض أحزاب المعارضة الدّخول في مرحلة متأزمة وتحمّل عبء فشل حكومة الترويكا في إدارة البلاد (أرادت النّهضة أن تلبس المعارضة العمّة بتقديم رشوة سياسية)، خاصة بعد أن تيقنت المعارضة من عقيدة المغنم التي دخلت على أساسها الترويكا اللعبة السياسية وطبقتها النّهضة على أرض الواقع دون تراخٍ وهي خالية من كل برنامج اقتصادي لإصلاح الأوضاع الاقتصادية المتردية والنّهوض بالتنمية المتعثّرة.
جاءت حادثة اغتيال الشهيد بلعيد، لتعجل بقرار دولة رئيس الحكومة المؤقتة لعلّه يصيب ما لا يقلّ عن عصفورين بحجر واحد بعد أن ضاقت عليه السبل وضاق هو ذرعا بوضع ملغوم. ليس من الصعب على أي باحث يعتمد المنطلق والموضوعية في تحاليله أن ينتبه إلى خطأين جوهريين وقع فيهما السيد رئيس الحكومة، كذلك يمكن للباحث أن يستقري الأهداف غير المعلنة من تلك الكلمة المقتضبة.
ينحصر الخطأ الأول الذي وقع فيه السيد حمادي الجبالي في دائرة الأخلاق السياسية (morale politique). رغم وجود ما يعرف في تونس بالدستور الصغير فإنّ هذه الوثيقة القانونية لا تخول لسيادته حلّ حكومته دون تقديم استقالته شخصيا. لقد أصبح الحديث عمّا يشبه الرّفت (exclusion) أو التسريح (licenciement collectif) الجماعي لوزراء اختارهم حضرته ضمن ضوابط دستورية؛ وهو أمر لم تألفه الأخلاق السياسية عموما، أن يسرّح رئيس حكومة معاونيه من وزراء وكتّاب دولة وكأنهم مستكتبي إدارة من الدرجة الثالثة.
ثم لو تناولنا هذا القرار من وجهة نظر دستورية دون الخوض في تفاصيل فقه الدساتير، ولنا في تونس فطاحل لا يشق لهم غبار، فإنّ المسألة لا تستقيم دستوريا، أن يطيح رئيس حكومة بحكومته بقرار منفرد دون الرجوع إلى المجلس التأسيسي الذي يستمد منه (شرعيته) ودون أن يشاور رئيس الدولة في الأمر, وكأن رئيس الحكومة يحتل المنصبين في حضور صوري لرئيس منزوع الصلاحيات.
من أجل تحقيق هدف معلن أ لا وهو إرضاء المعارضة الثكلى في أحد زعمائها، قام السيد حمادي الجبالي بحركة شبيهة بحركات (دورتوس) لتنويم الطرف المقابل وجعله ينبهر بخروج (الأرنب الصغير ناصع البياض من جوف قبعة حالكة السواد). لقد غاب عن السيد حمادي الجبالي أنّ قواعد هذه الحركة مكشوفة تماما لدى المعارضة، وأنّ من بينها أفراد ما انفكوا يمارسونها أيام كانوا هم انفسهم في السلطة.
أما الخطأ (الدورتوسية) الثانية التي جازف في الاقدام عليه دولته، رغم شجاعته السياسية فتتمثل في إيهام خصومه باستقلالية قراره عن حزبه وخروجه عن سياسته والثورة على ضوابطه حين أوحى بأن قراره شخصي ويتحمل فيه المسؤولية كاملة. لم يوضح السيد حمادي الجبالي أمام من سيتحمل المسؤولية كاملة، غير أنّ المنهج الاستقرائي يحيل الباحث على المسؤولية أمام مجلس شورى حزب النّهضة.
وفي هذه الجملة دلالات واضحة على وجود انقسامات داخل حزب النّهضة، أدّت بسيادته إلى اتخاذ مثل هذا القرار الخطير عليه شخصيا بالدّرجة الأولى إذا ما رفضت النّهضة (قيادة وقواعد) هذا القرار الذي لم تلبث أن صرّحت برفضها القاطع له، لتعارضه مع مصالحها الحزبية الضيّقة (سيطرتها على السلطة التّنفيذية وأغلبيتها التأسيسية)، بما يفسد عليها مغانم الحكم التي حصل عليها جلّ أفرادها وتابعيهم من موالين وأوفياء وحتى المنافقين...
غير أنّ انحصار أفق النّهضة السياسي حجب عليها رؤية (الأرنب الصغير، ناصع البياض) الذي حاول أمينهم العام إخراجه من قاع القبعة السوداء... وأعني بذلك محاولة قطع أصابع الاتهام الموجهة للحركة ورئيسها باغتيال الشهيد شكري بلعيد؛ بتحويل الأنظار عن هذه القضية القومية إلى قضية قومية أقل خطورة وأخف وطأة أي التّحوير الوزاري، الميؤوس منه.
لقد وضع السيد حمادي الجبالي، مصداقيته في الميزان وراهن على ذكاء قيادات حزبه التي خانها ذكاؤها في قراءة مناورة غاية في الدّهاء. لأول مرّة يتصرف أحد قيادي النّهضة، معتمدا على خبرته الطويلة في العمل السياسي... لكن تجري الرياح بما تشتهي السّفن... لقد تفطنت المعارضة بكل أطيافها السياسية إلى الخدعة وطالبت صاحبها بالاستقالة من حزب النّهضة كشرط مسبق لقبولها. لكن الانفصال عن تنظيم ديني المرجعية ليس بالأمر السهل، فهي مخالفة تصل عقوبتها إلى إهدار مرتكبها.
في هذه اللحظة التاريخية الفارقة، أفصح السيد حمادي الجبالي عن عمق وطنيته وانحيازه لحب الشعب التونسي على حساب ولائه للجماعة التي تشبّع بمبادئها حتى النّخاع. لا يسع المتتبع للشأن التونسي إلا أن يحيي شجاعة هذا الرجل وإخلاصه لوطنه، مضحيا بتاريخه النّضالي داخل جماعة لا تؤمن بالوطن ولا بالوطنية ولا بالمواطنة، انتماءاتها خارجة عن هذه المنظومة التي تقوم عليها الدولة المدنية الحديثة التي قطعت كل الجسور مع الدولة الدينية، دولة الخلافة التي تعمل الجماعات الإسلامية على إحيائها وإعادة بنائها.
لقد حق (في رأيي المتواضع) للسيد حمادي الجبالي رئيس الحكومة المؤقتة أن يتمتع بلقب المواطن الصالح كما حصل عليه (الكونت سان سيمون) في القرن الثامن عشر. كان الله في عون هذا الضمير الصاحي الذي دفعته غيرته على تونس وثورتها أن يضع نفسه بين فكّي أسد.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: