د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5917
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
أول درس تعلمناه في مادة المنطق إذا كانت المقدمات خاطئة فإنّ النتاج تكون حتما خاطئة، تذكرت هذه البداهة التي هي من سنن الله التي لا تتحوّل ولا تتبدل بينما كنت أتابع على المباشر الندوة الصحفية التي جمعت الرئيس، جنبا إلى جنب مع المستشارة الألمانية السيدة "أنجيلا ميركل"، عقب زيارة الدكتور محمد مرسي إلى ألمانيا. لقد لفتت انتباهي كلمة الرئيس التي ألقاها أمام الصحفيين قبل أن يرد على أسئلتهم (المحرجة)، فبدا لي سيادته وكأنه يخاطب المصريين الذين لم بصفهم ولو لمرّة واحدة منذ توليه الرئاسة بالمواطنين. كأني بمصطلحات السياسية المعاصرة مثل الوطن والمواطن والوطنية والمُواطنة لا وجود لها في قاموس الرئيس مرسي أو ربما يعتبرها من الدّجل السياسي الذي لا يستقيم مع البراديغم الإخواني.
ولست على يقين ولا أنا متأكد من أنّ سيادته شاعر بخطورة هذا المنهج السياسي الذي يسقط متعمدا من خطابه مثل تلك المصطلحات المحورية لا يستقيم في غيابها أي خطاب سياسي؛ ولا يمكن لأي رئيس أن يتجاهلها، فيحتقر شعبه ويقلّل من قدر وطنه. إلا أنّ إصرار الرئيس على هذا الأسلوب حتى وهو في الخارج، يجعلني أقطع الشّك باليقين بأنّ الأمر مدروس بعناية شديدة وله أهداف واضحة في عقلية من حرّر كل النصوص، المنسجمة في روحها مع كلمات الرئيس المرتجلة التي ألقاها أمام أحبابه الذين وصفهم بالعشيرة والأهل بعد أدائه اليمين الدستورية ليتسلّ منصب الرئيس.
انطلاقا من التحليل السوسيو – سياسي لتلك للمصطلحات المستعملة في تلك الكلمة المعبّرة التي كشفت على الخلفية الإيديولوجية للرئيس محمد مرسي، الذي كان من المفروض أن يعمّم (المواطنون والمواطنات) ولا يخصص (أحبّتي، أهلي وعشيرتي). لقد أسقط هذا التّغيير المفاهوماتي آليا كل والعناصر المؤسسة للوطن ومشتقاته (مواطن، وطنية ومواطنة)، وبالتالي يصبح من السهل على الباحث أن يستنتج عمق اعداء الذي يبطنه المتحدث من عداء للحرية والقطيعة المستقرة في عقله الباطني للديمقراطية.
كيف يتسنى للباحث أن يذهب إلى مثل هذا الاستنتاج على خطورته؟ الإجابة لا تستحق العناء والاستدلال على ذلك لا يتطلب عناء فكريا، ذلك لأنّ مفهوم المواطن يستوجب ألا وقبل كل شيء وجود وطن، يعيش داخل حدوده سكان أو أفراد يمتثلون لقوانينه، يتمتعون بالمواطنة في أوسع معانيها من حقوق وواجبات بما يقّوي فيهم الشعور بالانتماء لوطنهم فيذودون عليه في الحرب وينمونه ويرتقن به بين الأوطان في السلم.
لقد غاب البعد الوطني الموحد عن خطابات الرئيس المصري وحلّ محلّه الخطاب العشائري المنفتح على الجماعة التي لم ينجح سيادته من كسر حدودها والتّحرر من قيودها الفكرية التي تغلغلت في تركيبة عقله الباطني، المشدود لمبادئ المحضنة التي تربى في أحضانها ونهل من أفكارها التي حدّدت معالم شخصيته وصاغت فكره السياسي الذي يطفو على سطح الواقع بمجرد أن يفتح الرئيس فاه. هذا ما عبّر عنه المصريون في سلوكيات تلقائية، رفضت بشكل مطلق وصارخ لكل مواقف الرئيس وقراراته التي استشعروا منها أنهم ليسوا مصريين إن لم ينصهروا في الجماعة الحاكمة وينصاعوا لأوامرها الصادرة عن الرئيس ومؤسسة الرئاسة، دون أن يحدّدوا السبب الحقيقي للصدام الميداني بينهم وبين الرئيس.
بهذا المنطق أسس الرئيس مرسي للفرقة "الوطنية" وللقطيعة التي دفعت بالنخب السياسية والثقافية لمقاومتها علنا وقد اتخذوا من التكتلات والجبهات آليات للمعارضة، على الرّغم من تباين أفكار قياداتها واختلاف رؤاها وتنافر طرق عملها، فقد وجدت في أخطاء المنهج الإخواني في إدارة البلاد وجنون عظمتهم وتلهفهم على السلطة وخوفهم المرضي من فقدانها أرضية التقاء الفرقاء.
لقد انحرفت ثورة شباب مصر عن سياقها التاريخي، كما انحرفت من قبلها الثورة التونسية، رغم تمسّكها بأهدافها الأربعة وهي: عيش، حرية، عذالة اجتماعية وكرامة وطنية التي قطعت سبيل تحقيقها بعد سقوط مفهوم المواطنة من السياسة المصرية في ظل حكم الإخوان الذين لم يؤمنوا يوما بالوطن ولم يقيموا اعتبارا للمواطنين الذين هم في منظومة الفكر الإخواني عبيدا وليسوا عبادا (والفرق بينهما شاسع).
لقد حرص تحكم الإخوان المسلمين في الدولة على ضرب الهُوية المصرية ومسح الشخصية القاعدية للمجتمع. إني لا أقول كلاما مرسلا توجهه العواطف، بل هو تحليل سوسيولوجي للموجة الثانية من الثورة المصرية؛ والأدلة العلمية والموضوعية على ذلك هي التالية:
• أولا، الهجمة الممنهجة التي شنتها السلطة الجديدة على السلطة القضائية بمناسبة وبدون مناسبة، بدأ من محاولة إقالة النائب العام السابق من منصبه وتعيينه سفيرا في دولة الفاتيكان بقرار رئاسي مخالف للدستور المصري.
• ثانيا، وضع مسودة دستور على مقاس الغايات الإخوانية وعرضه على الاستفتاء الشعبي بكل عيوبه التي أطنب الحقوقيون المصريون في شرح وتشريح عواره وأولها عدم التوافق الوطني عليه، وهذا دليل كاشف على عدم إيمان الإخوان بمفهوم الوطن...
• ثالثا، الاعتداء على الصحافة والصحافيين من غلق لقنوات فضائية ومحاكمة بعض رؤساء تحرير الصحف وإقالة البعض الآخر إضافة إلى تجاهل أحكام المحكمة الإدارية في انصاف المتظلمين...
• رابعا، الاستعلاء على رغبات الشعب الثائر ومحاولة فرض الوصاية عليه إلى جانب الاستخفاف بمواقف المعارضة وتهميش دورها في إدارة الشأن العام والاستهتار بدماء شهداء وجرحى الثورة والتلاعب بمشاعر أهاليهم الذين قدموا أرواح أبنائهم ليجلس أناس على كرسي الحكم، حلق بهم خيالهم خارج حدود الوطن، ليعيشوا في زمان افتراضي لا صلة له بالواقع المعيش للثورة... هكذا يمكن قراءة ردّ الرئيس على الصحافيين في ألمانيا وهو يقول الفكرة ونقيضها، أمام المستشارة الألمانية التي علا الشحوب وجهها ولم تفهم الرجل وهو ينتقلا بين مفاهيم مثل الحرية والديمقراطية في الوقت الذي يعلن فيه قبل سفره بقليل حالة الطوارئ... وحظر التّجوال في ثلاث محافظات... الخ. فكان الرئيس مهتزا وغير مقنعا حتى لنفسه، رغم تظاهر الرئيس بالهدوء والرصانة وضبط النفس.
• خامسا، عناد الرئاسة بل عناد الجماعة واستماتتها في التّمسك بحكومة أجمع القاصي والدّاني على ضعف أدائها الميداني وافتقارها للخيال السياسي والتكتكة الاقتصادية، تخرج مصر من ركودها الاقتصادي وتخفف من تضخمها المالي. الغاية من الابقاء على مثل هذه الحكومة يتلخص في التخطيط لانتخابات برلمانية تفوح منها رائحة التزوير قبل طبخها... لتغلغل الإخوان في عمق الدولة المصرية والسيطرة عليها لعقود قادمة، يعملون من خلالها لإقامة دولة الخلافة التي تفتقد لكل مقوّمات وشروط تاسيسها إلا في مخيال الإخوان الإسلاميين في المشرق والمغرب العربيين.
• سادسا، انعدام الرؤية الاقتصادية وبرامج التنمية التي من شأنها رفع مستوى معيشة الشعب المصري الذي يعيش ثلثه تحت خط الفقر... كما يسجل غياب إحياء مبادئ الانتاج والاعتماد على النفس في نفس المواطنين، المحتجين، المطالبين بحقوق مهضومة من فترات طويلة.
• سابع، التّوجه نحو التسّول الدولي وطلب القروض المجحفة والهبات المُهينة للكرامة الجماعية للشعب المصري، لتجاوز أزمة اقتصادي طاحنة وكسر دائرة التّبعية للشرق والغرب، وتعيد للدولة هيبتها وسيادتها... بعد أن قزّمها النظام السابق وللأسف لا يسعى النظام الحالي لاسترجاعها...
كما جنت على نفسها براقش، فإنّ الرئيس محمد مرسي يبدع في القضاء على شرعيته ويتفنن في تشويه تاريخه السياسي القصير... وليس أمام سيادته لو أراد النجاة إلا الخروج على شعبه ومعاملته كما يعامل المواطنون الأحرار في العالم الحرّ ويعلن على الملء أسفه ويعتذر علنا على أخطائه في حق الثورة... في الوقت الذي يقدم فيه على مثل تلك الخطوة (وهذا مستبعد جدا) يكون قد تخلص من براثن قنديل البحر الذي شلّ حريته السياسية وامتص عقله العلمي، فيتعافى من السموم التي جرت في دمه وسرت في عروقه. تلك هي أول خطوة على درب تصحيح المسار الثوري ويولي وجهه قبلة الديمقراطية وإصلاح الاقتصاد ويتعامل مع المفاهيم السياسية المعاصرة، ليجمّع ولا يفرّق ويؤلف ولا ينفّر حتى يتمتع كل مصري بالمواطنة التي لا تتحقق إلا في مناخ ديمقراطي، فيعيد لهم الثقة بدولتهم ويقوي انتماءهم لبلدهم...
لن يحدث هذا التّغيير المنهجي إلا بالانفتاح على كل القوى الحية في مصر، فتتوحّد الآراء وتتوافق الوجهات وتبنى الوحدة الوطنية على أرضية ثورية في ظل الاختلاف العضوي الذي هو من إرادة الله سبحانه وتعالى الذي شاء أن لا يجعل الناس أمة واحدة "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين"(هود 118/119). هذه الإرادة الإلهية التي خططت لإعمار الكون وتطور الحضارات والنّهوض بالإنسان.
سيادة الرئيس محمد مرسي، عليك بكل أمانة، التّخلص من ثقافة الخيمة ومشروع دولة الخلافة التي أفل نجمها وصارت منطومة حكمها من التاريخ بقوانينها الجائرة وسكانها العبيد، مطأطئي الرؤوس "تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسالون عما كانوا يعملون" (البقرة 134)؛ وانطلق في عالم الحرية الرحب وحلق في سماء الديمقراطية، واجعل من مصر مثلا ثوريا نبيلا يحتذى، فالجميع في انتظار هذه التجربة الفريدة، فلا تهدر الفرصة التي كتبها لك الله فعسى أن تتحقق على يديك عودة الأمة إلى التاريخ والحضارة بعد طول غياب، فتكون العزّة لله وللرسول وللمؤمنين حتى يتباهى بنا صلّى الله عليه وسلم الأمم...
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: