د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7300
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تقديــــــــــــــــــم
لكل فعل ردّة فعل تساويه في القوّة وتعاكسه في الاتجاه، هذا ما تعلمناه في أبجديات دروس الفيزياء. من هذا المنطق العلمي جاءت غضبة الأمة العربية الإسلامية ردّا على استفزاز شرذمة من الصهاينة المتأمركين الذين لا شغل لهم سوى محاربة الإسلام والمسلمين في كل زمان ومكان. لقد صادف الفلم المشين/اللّعين تفجّر الكبت العربي من ناحية وغضب الشعوب الثائرة من خيبة أملها في حكومات عجزت عن تحقيق أبسط أحلام شعوبها.
الكبت العربي ينفلت ويفيض طوفانا نسأل الله أن لا يكون جارفا في مثل الظروف التي تمرّ بها أمة المضطهدين والمعذّبين في الأرض. انتفض العرب من سبات الدهور وثاروا على الظلم والطغيان، فكانت ثورات لم يؤطّرها فكر سياسي ولم تكن لها مرتكزات إيديولوجية. ثورات لا لون لها مما جعلها لقمة سائغة لكل المتطّفلين والمنافقين والمرجفين الذين اعتلوا سدّة الحكم ونفوسهم مفعمة بشهية التّسلط والانقام. وهذه بوادر تداعيات الخواء الفكري المنتشر في كافة شرائح الأمة وطبقاتها الاجتماعية والسياسية تتجسد على أرض الواقع. واقع بلا مرجعيات، بدون عقلانية، قادرة على التّحليل والفهم ووضع الإستراتيجيات العملية المتروِّية. لقد فسح غياب العقل الثّاقب للسياسي العربي والرؤية المعمّقة للباحث المسلم، المجال أمام الغوغائية والعواطف الجيّاشة وردود الفعل المتسّرعة، بعيدا عن الاتّزان والتّوازن في تقيّيم الأحداث المعادية وما يتلوها من ردّة فعل وما ينجر عنها من تداعيات.
لو كلفّ الباحث و/أو المثقف العربي نفسه عناء التّقيد بالموضوعية والتّخلص من الذّاتية لطرح الأسئلة الدّقيقة في مواضعها الصحيحة، بحثا عن أسباب الهجمات التي تتعرّض لها الأمة بين الحين والآخر من ناحية ودراسة غضب المسلمين في الله ولرسول الله من ناحية أخرى، لتبيّن له أنّ للحادثة الأخيرة التي أقدمت عليها مجموعة من السّفهاء الصهاينة ومن والاهم من أمريكيين وملاحدة الذين سوّلت لهم أنفسهم الممتلئة حقدا وكراهية التّطاول على حرمة نبيّنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ جذورا ضاربة في التاريخ.
سأحاول في هذه الأسطر المقتضبة، طرح الإشكالية في سؤال مركّب من أربعة أجزاء وهي: لماذا؟ متى؟ أين؟ وكيف؟
I - لماذا العداء؟
لماذا يضمر اليهود والنّصارى العداء للإسلام والمسلمين ويجاهرون به في غير حياء ولا خجل؟ إنّ المتّفق عليه عند علماء الدين أنّ كل رسل الله وأنبياءه استهدفهم الجهلة والسفهاء بالإساءة وفيها امتحان لصبرهم وجلدهم واختبار لثبات أتباعهم وغيرتهم على عقيدتهم، لهذا أمر سبحانه وتعالى رسوله بالعزم على التّحمل والصّبر على الإيذاء "فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ"(1) .
معادة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإساءة إليه تحرّكهما عوامل عديدة منها العقدي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والنّفسي.
*/ العامل العقدي
تكمن الإجابة عن الرّبع الأول لسؤالنا في الإشارة الواضحة والإجابة القاطعة التي قدّمها القرآن الكريم، ذلك لأنّ المسألة قد حسمها ربّ العزّة في آيات عديدة من الذّكر الحكيم أوجزها في قوله تعالى: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ"(2). إنّ غضب أحبار اليهود وعلماؤهم الذي نفثوه في صدور أتباعهم وتوارثوه جيلا بعد آخر، برغم علمهم أنّ "اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ..."(3) ويقينهم بأنّ آخر الأنبياء لن يكون من ملّتهم، تلك بشارة عيسى عليه السلام غير مكذوبة، مخيّبة لآمال (شعب الله المختار) في التّكريم الإلهي " وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..."(4). لقد ناصب اليهود والنّصارى رسول الله عليه الصلاة والسلام العداء من قبل أن يرسل، وثبتوا على موقفهم من بعد أن أُرْسِلَ وسيظلوا مستمرين على ذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
*/ العامل السياسي
منذ فجر الإسلام والنبّي الأكرم ودينه يتعرّضان للسخرية والاستهزاء ومن ورائه أمته وقد فضح الله الغاية من وراء هذه السخافات وحدّد هدفها في قوله: " لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ"(5). ولكي يطمئن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وترتاح نفسه أخبره " إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ"(6). ثم تكفّل سبحانه وتعالى بمعالجة هذه المسألة التي لا تصدر إلا عن السفهاء الذين في قلوب مرض وامتلأت أنفسهم حقدا، فخاطب نبيّه قائلا: "إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ"(7). في هذه الآية الكريمة إشارة ضمنية إلى أن ينصرف الرسول وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم إلى يوم الدّين إلى ما ينفعهم ويقوّي شوكة دولتهم حتى يثبتوا لخصومهم الأزليين، أنّهم أعلا من التّرهات التي لا تضرّهم في شيء وأنّ الردّ عليها مضيعة للوقت ومتاهة وفخّ منصوب دائما أبد، يشدّهم إلى الخلف ويرمي بهم في التّخلف.
يتمّ تركيز العداء القديم/المتجدّد على إثارة الفتنة بين المسلمين وتضيع جهودهم في خصومات بينية، محصّلتها الخلاف في أساليب الرّد على استفزازات أعدائهم، فتكون البلبلة داخلية تنجم عنها صدامات دموية؛ وقد نجح المعتدون في ذلك. لقد قسم العدوان الأخير المجتمعات العربية إلى فريقين: فريق يؤيّد المعاملة بالمثل، وردّ الصّاع صاعين لمن اعتدوا على مقدّساتهم؛ يقابله فريق، يفضل التّعقل والتّروي في التّعامل مع الحدث.
في الوقت الذي تمر فيه الأمة العربية الإسلامية بمرحلة تاريخية حرجة، تستوجب التّركيز على قضايا التّنمية والخروج من التّخلف، كما تستدعي انكار الذّات لتجاوز الخلافات السياسوية والتّشتت الفكري النّاجم عن صراعات حزبية ومذهبية وفئوية من أجل السلطة واعتلاء سدّة الحكم. في خضم هذا التّدافع بين مختلف الأطياف السياسية، يزداد الوضع الدّاخلي تأزما بهيجان شعبي، ركب على حدث الإساءة للرسول الكريم ليفصح عن عدوانيته ويستعرض عضلاته التّخريبية في مواجهة نظام هشّ، يبحث عن خيط شرعية مفقودة، بالتّصدي للشّغب والمشاغبين بنفس أسلوب النّظام المخلوع.
*/ العامل الاقتصادي
لم نعثر في التّحاليل المختلفة التي تناولت هذه السقطة الإنسانية من تعرّض للعامل الاقتصادي باعتباره أحد المحركات الأساسية الكامنة في كينونة هذه الحادثة. لدى خبراء أوروبا وأمريكا والذين هم في أغلبهم من اليهود والمتصهينين، أنّ العرب إذا ما استقرت أوضاعهم الاقتصادية وانتشر بينهم العدل والسّلم الاجتماعيين ونجحوا في تقليص الفوارق الاجتماعية بين الطبقات؛ فإنهم سيعيدون النّظر في استغلالهم ونهب ثرواتهم واستقطاب أدمغتهم. فإذا ما تمّ لهم ذلك واتجهوا باتجاه القوّة الاقتصادية من خلال تفعيل مدّخراتهم المالية المتاحة منها، إلى جانب الثروة المنهوبة و/أو المهرّبة و/أو المودعة في بنوك الغرب فإنّ الضرّر الذي سيحل بالدّورة الاقتصادية الغربية وبنوكها سيكون مدمّرا لها، في نفس الوقت الذي يكون فيه مفيدا لاقتصادنا. من هنا نشط خبث اليهود والنّصارى لوضع وتنفيذ مخططات يديرونها عن بعد.
*/ العامل الاجتماعي
من الثّوابت الرّاسخة لدى علماء الاجتماع الغربيين (أوروبيين وأمريكيين) أنّ العالم العربي الإسلامي يحمل في طيّاته السوسيولوجية عناصر وحدته (جغرافيا، تاريخ، دين، ثقافة...)، وحدة تؤرق أعداءهم حيثما كانوا، فجنّدوا أنصارهم في الخارج وأذيالهم في الدّاخل لإجهاض الفكر الوحدوي وقطع الطريق على تحقيقه بكل ما أوتوا من مكر ودهاء وقوّة ذاتية وإمكانات (مالية، بشرية، فكرية، تكنولوجية... الخ). كلمة السّر عند اليهود خاصة، لا سبيل لوحدة العرب المسلمين، وللجميع حقّ الإبداع في قطع الطريق عن توحدّهم، وجزاء من يفعل ذلك الشّهرة والثّروة والحماية الدولية.
*/ العامل النّفسي
يمكن النّظر في هذا العامل من زاويتين. الزاوية الأولى تخص التركيبة النّفسية للعرب أنفسهم، فهم انفعاليون، مندفعون، عاطفيون، مثاليون، حالمون، خاملون، متطّرفون في حبّهم وكرههم. كل هذه الصفات تقلّص رؤاهم العقلانية وتحجب عنهم الموضوعية وتسقطهم في ذاتية مفرطة. في مثل هذا الوضع النّفسي يسهل الإيقاع بهم في سلوكيات بافلوفية، عن طريق منبّهات تحفّيزية، تدغدغ مشاعرهم الدّينية فتحرّك فيهم غريزة القطيع ليسقط الغوغائيون منهم في الجمهرة المدّمرة.
هذا وأنّ العداوة والبغضاء والظّلم والاعتداء من شيم النّفوس فالإنسان كائن عدواني بطبعه، قال فيه المتنّبي:
الظلم من شيم النّفوس فإن تجد * ذا عفة فلعلّة لا يظلم
بقدر ما كان نزول الإنسان إلى الأرض للتّعارف والتعامل والتّكامل " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"(8)، بقدر ما انحرف باتجاه التّناحر والتّصادم والتّقاتل؛ هذا ما أكدّ عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: " قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ"(9). أما في ما يتعلّق بالصّراع التّاريخي بين المؤمنين والكفّار فإنّ العداوة والبغضاء بينهم، قديمة أزلية وانتفاؤها مشروط بالإيمان العام وهو شرط تعجيز، فأصبح السّلوك سنّةً من سنن الله " إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ"(10).
II - متى يظهر العداء؟
متى يجاهر أعداء الإسلام والمسلمين بعدوانهم الموجّه خاصة لرسول الله عليه الصلاة والسلام؟ بعد أن يئس اليهود من تحريف القرآن الكريم وأيقنوا أنّه محفوظ من الله "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"(11)، حتى انصّب خبثهم على افتعال الأحاديث النبويّة لإثارة الفتن وشقّ صفّ المسلمين، بعد أن استقر علمهم أنّهم قوم يستاؤون ويغضبون ويثورون لكل ما يسيء لعقيدتهم ولرسولهم، فاتخذوا من هذه المسألة، مدخلا لتهيّيج غثيانهم، كلّما سمحت الفرصة لإيذائهم عبر العصور. تخضع الإساءة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم لمعادلة سوسيوجلية، تتناسب فيها الهجمات عكسا مع فترات قوّة المسلمين وفترات ضعفهم، ممّا يجعل منها عملية استفزازية، دورية، لمشاعر المسلمين وجرح وجدانهم الجمعي وطعنهم في إيمانهم الذي في جزء منه حبّ الرسول الذي روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ"(12).
يزخر تاريخ الإسلام بالإساءات إليه باعتباره دينا سماويا وإلى صاحب رسالته وذلك منذ بداية الدّعوة حين كان الرسول الكريم في قلّة من أتباعه لا يتعدّى عددهم أصابع اليد الواحدة. ثم أخذ تردّد السلوك المعادي يتراجع بارتفاع عدد الأتباع إلى أن تلاشى مع فتح مكّة. غير أنّ العداء لم ينتفي نهائيا ليحتمي المنافقون والذين في قلوبهم مرض بالتّقية. ثم أعاد المسيئون الكرّة لحظة وفاة الرسول الأعظم، فانتفض الأعراب وارتدّوا مجاهرين بالعداوة والبغضاء، لتخمد رِدَّتهم على يد أمير المؤمنين أبي بكر الصدّيق، رضي الله عنه؛ لتخبو جذوتها في صدر الإسلام بعد اكتمال بناء الدولة وانتشار الدّعوة وتمسّك المسلمين بدينهم، فنجحوا في بسط نمط إنتاجهم في الكون وإقامة حضارتهم إلى أن أصابهم الوهن وذهبت ريحهم في دويلات ضعيفة، اهتم أمراؤها بسلطانهم وانساقوا وراء زخرف زائل.
عند هذا المستوى تكون الهَبَّةُ لنصرة رسول الله عليه الصلاة والسلام، شرعية والردّ على المعتدين واجب مقدّس. علما وأنّ الإنسان العربي غيور بطبعه على من يحب، فما بالك بحب رسول الله. لم يكن ولن يكون العربي ديوثا ولن يتأخر في بذل النّفس والنّفيس حماية لدينه وماله وأرضه وعرضه؛ والموت في سبيلها مجتمعة أو منفردة، باب من أبواب الشهادة وهي إحدى الحسنيّين المتغلغلة في تصوراتنا الاجتماعية والموت ذودا عن كرامة رسول الله أهمها على الإطلاق؟
هنا يطرح سؤال منهجي/مزدوج أين وكيف يكون الردّ؟
III – أين وكيف؟
أمّا الإجابة عن أين يكون الردّ، فهي مرتبطة جدليا بالإجابة عن متى تكون الإساءة من ناحية وكيف يكون الرّد عليها من ناحية أخرى، أي يفترض على المسلمين تحيّن الفرصة الملائمة وتحديد الطريقة المناسبة للقيام بذلك. لأنّ هذه السفاهة لا يحدّها زمان ولا مكان، فكان لزاما على حكماء الأمة دراسة كل تداعيات ردّة الفعل، استنادا على عوامل قوّتهم و/أو ضعفهم.
لقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج تغيّير المنكر ووضع إستراتيجية لذلك في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ"(13). تضمن الحديث الشريف بيداغوجية التّغيير المتدّرج من الأقوى إلى الأضعف، أي من قوّة الفعل إلى تأثير القول إلى الاستنكار الصامت. أُقِيمَتْ المرحلية النّبوية على العقلانية الصِّرْفَةِ التي تقضي من الفاعل تقيّيم وضعه المادي وحالته النّفسية ومكانته على رقعة الصّراع؛ وتحديد إستراتيجية وتكتيكات ردّ الفعل وهي عملية معقدّة تفرض على اللاّعب الحكمة للفوز لا التّهور والهزيمة، لأنّ "الرأي قبل شجاعة الشّجعان"(14).
ضمن هذا الإطار النّظري العام، كان على المسلمين التّحكم في مشاعرهم وبحث طريقة الرّد على كل من أساء ويسيء إليهم. ذلك لأنّ الانفعال المفرط لا يدل إلا على ضعف ووهن صاحبه. ونحن اليوم في وضع لا نحسد عليه من التّخلف والضعف بين الأمم؛ جعلنا مخترَقين ومستباحين، تدوسنا الأقدام النّجسة وتعتدي على مقدّساتنا عقول آثمة بأفعال حقيرة، تبرهن على انحطاط أخلاق أصحابها.
إنّ جميع الأوصاف الوضيعة والنّعوت المُسِّفَةِ الصادرة عن مشاعر محتقنة لا تردع المعتدين ولو تكرّرت ولا تحلّ الإشكال المزمن، لأنّ العيب الرئيسي كامن في ضعفنا العلمي والتّكنولوجي، الذي يتطّلب مراجعة عميقة وشاملة، كي تستعيد أمتنا عافيتها وتسترجع مكانتها ودورها في الحضارة الإنسانية التي لا مكان فيها إلا للسّادة.
إنّ من هانت عليه نفسه، فقد هان على الآخر، فالاحترام لا يُوَهُب بل ينتزع انتزاعا ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعلم. مجالات العلم فسيحة وطريقها شاقة ونحن العرب راغبون عنها بالتّواكل، متفاعلون معها، مقبلون على استهلك مخرجاتها مع الهروب إلى الزّمن الغابر. في مثل موقف العرب هذا من العلم، لن يتوقف السفهاء عن التّعدي على حرماتنا والإساءة إلى مقدّساتنا.
ألم يقل أحمد شوقي: "وما نيل المطالب بالتّمني * ولكن تؤخذ الدنيا غلابة" ، هذا وقد غاب عنّا جميعا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"(15) ونحن مؤمنون ضعفاء، فكيف ننصر وندافع على من اكتفينا بالقليل من أقواله واليسير من سنّته حسب ما تمليه المصلحة؛ وعصينا أمر ربّه الذي أمره وإيّانا في إيجاز وإعجاز " اقرا "(16) ولم نقرأ، فما استطعنا تحقيق أمر الله " وَاعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رٍبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُّوَ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ الله يَعْلَمُهُمْ..."(17).
لا حول لنا اليوم ولا قوّة، قوّة العقل موطن العلم ولا رباط خيل نمتلك في هذا الزّمان الذي أصبح فيه "رباط الخيل" أسلحة ننوية، تحقق الغلبة وتجلب الاحترام لمن يمتلكها. لقد عجزنا على ردع أعداء الله الذي نبّهنا إلى (نظرية توازن الرّعب)(*) في قوله تعالى: " تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُّوَ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ الله يَعْلَمُهُمْ"، هذه النّظرية التي وضعتها وطبّقتها القوى النّووية، الفاعلة في التّاريخ الحديث (فرنسا، أنجلترا، روسيا وأمريكا) وسعت إلى تحقيقها قوى صاعدة (الصين، الهند، الباكستان، الكوريتان وأخيرا إيران) فأصبحت جميعها ندّا للمتكبرين الذين لا يحترمون ولا يهابون إلا الأقوياء.
ألم نتساءل عن ردّة فعل الولايات المتحدّة الأمريكية على شعوب قتلت سفيرها؟ كيف لم نوجّس خيفة من تصريحات وزير دفاعها الذي راح يتهدّد ويتوعد بملاحقة وضرب عناصر القاعدة في كل بلد عربي اعتدى أهله على بعثاته الدبلوماسية (تونس، ليبيا ومصر)؟. لقد نجحت الولايات المتحدة في خلق السّبب القانوني والأخلاقي للاعتداء المسّلح على أراضينا، متى وكيف سيتّم ذلك؟ لا أحد يعلم، " هذا ما جنته على نفسها براقش"(**).
-------------
1) سورة الأحقاف الآية 35
2) سورة البقرة الآية 120
3) سورة الأنعام الآية 124
4) سورة الصّف الآية 6
5) سورة التوبة الآية 48
6) سورة الكوثر الآية 3
7) سورة الحجر الآية 95
8) سورة الحجرات الآية 13
9) سورة الأعراف الآية 24
10) سورة الممتحنة الآية 4
11) سورة الحجر الآية 9
12) صحيح البخاري - كِتَاب الْإِيمَانِ - بَاب حُبُّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم من الْإيمان.
13) صحيح مسلم - كِتَاب الْإِيمَانِ - باب بَيَانِ أن النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْ الْإِيمَانِ.
14) مثل عربي.
15) سنن ابن ماجه - كِتَاب الْمُقَدِّمَةِ.
16) سورة العلق الآية 1
17) سورة الأنفال الآية 60
*) توازن الرعب، نظرية قائمة على سباق التّسلح النّنوي بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة.
**) مثل عربي.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: