د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5532
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
مخطئ كل من يعتقد أن عرب الزمن الرّاهن لا عبقرية لهم، كل من يأخذ بهذا الرأي المغرض لا عقل له. فلو تأملنا في ما يحدث في البلدان العربية التي يمكن تصنيفها إلى أربعة أصناف أساسية حسب ما يدور فيها من أحداث:
1/ بلدان تمكنت شعوبها من إسقاط أنظمة حكم الفساد والظلم والطغيان.
2/ بلدان تنتظر انتهاء العملية القيصرية الأليمة، للإطاحة بأنظمة متمسكة ببقائها في السلطة حتى لو استمر النّزيف الشرياني ودخلت البلد في موت سريري.
3/ بلدان تنتظر أما هبوب "نسمات" التّحرر أو وقوع عواصف التّغيير لتجتث الصالح والطالح.
4/ بلدان تجلس على الربوة، تراقب الكل وتتآمر على الجميع، لنشر الفوضى في مجتمعات، متصدعة، تائهة تبحث عن مخرج لثورات تحولت إلى أزمات.
لست من يخطئ القائلين بغياب العبقرية، بل تنوب عني هذه اللوحة السريالية التي رسمتها يد الشعوب، لتؤكد على أن العبقرية العربية حية، ترزق والفكر العربي المبدع، يتألق... فما هي مظاهر هذه العبقرية العربية؟
سأعمل على توضيح بعض مظاهر عبقرية العرب من خلال الجناس التام والناقص في بديع اللغة العربية كما يعكسه واقع الأمة العربية. لقد اختار أبناء هذه الأمة أن يغرسوا خنجرا في قلب مصطلح "الأمة" ورضوا بالأمر واستأنسوا به. بين الأمة والأزمة، (حرف الزين) الذي قسم المصطلح إلى قسمين، فمتى ننتبه ونعمل على استئصال هذا الخنجر، لتعود الأمة أمة وتخرج من الأزمة...
من الذي أدخل الأمة في الأزمة؟ إن الذي حوّل الأمة إلى أزمة، هو العقل العربي الذي انحرف من "عبقري" إلى "عقربي"، لا يتناول موضوعا إلا سمّمه وافتعل منه أزمة. ليس من باب التّجني على هذا العقل عندما أصفه بالعقربي، بل إنّها الحقيقة التاريخية التي يمكن الاستدلال عليها من معادة هذه العبقرية/العقربية لكل بديع وإبداع وتجاهله المتعمّد والمبيّت عبر قرون طويلة إلى أن ما يميّز الإنسان عن الحيوان هو الإبداع لا غير، فلا الإيمان ولا الصلاة ولا غيرهما تفرّق بين المخلوقات "أ لم تر أنّ الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون"(1).
ثم لقد تناسينا أن من أسماء الله الحسنى "البديع"، فما معنى البديع يا ترى؟ جاء في لسان العرب "أنّ البديع من بَدَعَ الشيء، يبدعه بدعا وابتدعه، أي أنشأه وبدأه، أما البِدْعةُ فهي الحَدَث وما ابْتُدِعَ من الدِّينِ بعد الإِكمال. قال "ابن السكيت": البِدْعةُ كلُّ مُحْدَثةٍ. وفي حديث عمر، رضي الله عنه في قِيام رمضانَ: نِعْمتِ البِدْعةُ هذه. قال ابن الأَثير: البِدْعةُ بدْعتان: بدعةُ هُدى، وبدْعة ضلال. أَبدعْتُ الشيء، اخْتَرَعْته لا على مِثال والبَديع من أَسماء الله تعالى لإبداعه الأِشياء وإِحْداثِه إِيَّاها وهو البديع الأَوّل قبل كل شيء ويجوز أَن يكون بمعنى مُبدِع أَو يكون من بَدَع الخلْقَ أَي بَدَأَه وقال تعالى: [ بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون](2) وقوله سبحانه: [ بديع السماوات والأرض أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم](3) بَدِيعُ السمواتِ والأَرض؛ أَي خالقها ومُبْدِعُها فهو سبحانه الخالق المُخْتَرعُ لا عن مثال سابق".
من الواضح أنّ اسم "بديع" تكرر في القرآن الكريم مرتين، ارتبط في المرة الأولى بمشيئة الله وإرادته وقضائه، أما في المرة الثانية فقد ارتبط اسمه جلّ جلاله، بالخلق المطلق والعلم المطلق الذين من شأنه وحده تبارك وتعالى. حملت كلتا المرتين إشارة واضحة للإنسان (مؤمنا كان أو كافرا) في كل زمان ومكان، أن يبدع في حدود ما تسمح به ظروفك الموضوعية في كل مجالات المعرفة المتاحة في عصرك. أليس في الإبداع تقدم وتنمية واستقلالية وتجاوز للذّات وللموضوع؟. أليس في هذا تطور البشرية وتخلصها من بدائيتها الأولى؟. هل نسينا أن الحاجة أم الاختراع أم هناك فرق بين البدعة والإبداع ؟...
فسبحان الله في خلقه، كل شعوب الأرض أيقنت أن التّقدم لا يكون إلا بالإبداع والاختراع والابتكار الذي هو إنتاج بالأساس، إلا (أزمة) عفوا أمة العرب المسلمين الذين تبرؤوا من التّشبه بالخالق في الإبداع ورضوا باستهلاك إبداعات الآخر وصفقوا لها واستحسنوها ووصفوها بالمعجزة. ثم وفي نفس الوقت، يتمسك المتشدّدون بافتتاحيات رسول الله، صلى الله عليه وسلّم في خطبه، كما جاءت عن جابر رضي الله عنه: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يحمد الله ويثني عليه بما هو له أهل ثم يقول: [ من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار...]".
هل جاء حديثه صلى الله عليه وسلّم شاملا ليبطل كل ما يرقى بالإنسان ويميّزه عن سائر بهيمة الأنعام، أم هو تنبيه لمَ قد يتسرب من تحريف للكتاب والسنّة على يد اليهود والنصارى المتربصين بضعاف النّفوس من أصحاب العقيدة المهتزة في زمن لا يزال فيه الأعراب لصيقين بالجاهلية. كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أول من استحسن فكرة حفر الخندق التي اقترحها "سلمان الفارسي"، بناء على تجربته في الحروب أيام كان في فارس قبل إسلامه. كانت بدعة مستحدثة لم يعرفها المسلمون من قبل، بدعة استساغها رسول الله، فهل هي في النّار؟ حاشى لله...
لا تستمر الحياة إلا بالإبداع والابتكار لتُبْنَى الحضارة، فلو كان الإبداع محرما لحلّ بالمبدعين غضب الله وسخطه عليهم وهل كان يعزب عليه سبحانه تدمير كل ما ابتدعوه واخترعوه على رؤوسهم فتكون بالتالي نهاية الكون من بعد تكوينه؟ لقد حقّ فينا قول الله تعالى: "أ فتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون"(4).
ألا تلاحظ معي أخي القارئ أنه كلما قام عاقل في العالم العربي يدعو إلى المصلحة الوطنية والتقريب بين الإخوة الأعداء وقال: "تعالوا إلى كلمة سواء"(5)، إلا وقال الرّافضون للصلح بين الفرقاء، هذه كلمة "سواد" وتخفوا بالتّكفير دون تفكير. أما إذا دعا فريق ما للائتلاف إلا وقال الفريق المقابل هذه دعوة للاختلاف، كلا الفريقين يدّعي علنا إعادة "كسب الدولة" ويستبطن "كسب الجولة" للسيطرة على الدولة والاستبداد بأجهزتها والاستيلاء على ثرواتها واستعباد أهلها.
لهذا السبب خرجت الأحزاب التي كانت بالــ "أمس" "محظورة"، حبيسة الــ "رمس" لتتنافس على الاستيلاء على زعامة الـــ "معمورة". الأقلية تتصارع على الــ "كعكة" فأصيبت الأغلبية بالـــ "وعكة". بعد مشاركة العربي، رجل الشارع العادي في حفل "الانتخاب"، ها هو البطل الحقيقي "للثورة السلمية" وقد شوّه نقاءها "رجل السياسة" وعكّر صفوها "رجل الثقافة" وحولاها إلى "فوضى سلبية"، يعدّ العدّة "للانتحاب"؛ وبعد أن علا "صوت" الشعوب بدأ يلوح في الأفق أمر بالــ "صمت" القبور. لقد غاب الــ "وفاق" في غفلة من الزمن وحلّ محله الـــ "شقاق".
هل سمعتم عن أمة تسعى لـــ "حتفها بــــ "ظلفها"، إنّها أمة العرب التي يخرب أهلها بيوتهم بأيديهم "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون"(6). أمة أوغلت كل أطيافها من اليمين إلى اليسار في ماضوية سحيقة؛ سلفيون ارتضوا الهروب من الواقع إلى أمجاد "أمة قد خلت" وغضّوا الطرف على قوله تعالى: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسالون عما كانوا يعملون "(7). أما تيارات اليسار العربي فجميعها تجتر إيديولوجيات اشتراكية أو شيوعية أتلفها الزمن وطواها التاريخ الحديث، في نفس الوقت يدفن اليمين رأسه في رمال الصهيونية والماسونية، على اختلاف مشاربها، الليبرالية والرأسمالية والحداثية وما بعد الحداثة... في الوقت الذي لم تبلغ في كل المجتمعات العربية بدايات الرأسمالية في القرن الثامن عشر.
تلك هي بعض ملامح عبقرية الإنسان العربي المعاصر بإيجاز والتي نرفض الاعتراف بأننا بنيناها "على شفا جرف هار"(8)، نسأل الله أن لا يلقي بنا في آتون حروب أهلية قبل أن ينهار بنا في نار جهنّم.
---------
1) سورة النّور الآية 41
2) سورة البقرة الآية 117
3) سورة الأنعام الآية 101
4) سورة البقرة آية 85
5) سورة آل عمران الآية 64
6) سورة البقرة الآية 11
7) سورة البقرة الآية 134 والآية 141
8) سورة التوبة الآية 109
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: