د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7096
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
أختنا الكبرى، مصر الحبيبة على قلبي وقلب كل عربي، تعود ثورتها إلى المربع الأول. لماذا هذا العود على البدء؟ قد يكون الجواب على باحث عربي غير متخصص في الشأن المصري، لكنه غير مستحيل، إذا استقرى الأحداث منذ أن تنحى الرئيس المخلوع حسني مبارك عن الحكم وفي نفس الوقت تخلّى الثوار الشبان عن مكسبهم التاريخي، وتنازلوا طوعا عمّا صنعته أيديهم ودفعوا ثمنه غاليا من دماء الأبرياء وأعضاء بترت وعيون فقئت...
لعلي انحرفت قليلا (عن عمد) عن المنهج العلمي الذي أحسبه لا ينفع في قراءة الأحداث التي يعيشها الشعب المصري الشقيق، حين قدّمت للقارئ الكريم خلاصة هذه الأسطر القليلة.
ثوار مصر كما ثوار تونس واليمن اعتقدوا أن الثورة قد انتهت. فهم قد خلطوا الذّاتي بالموضوعي في تعاملهم مع التاريخ الرّاهن، حين سمحوا لذئاب السياسة الذين كشروا عن أنيابهم للتّناحر عن مناصب زائلة بطبعها وأداروا ظهورهم لثورة لم يضعوا في صرحها لبنة واحدة. كنّا في دراسات سابقة(1) حذّرنا من الغفلة والثقة المفرطة في الأيام. التاريخ لا يرحم والطبيعة تكره الفراغ والصائدون في الماء الصافي، متربصون بالكبار قبل الصغار. لقد انتبه بارونات السياسة في بلدان الرّبيع العربي إلى خلو الثورات من قيادة موجهة للشباب الثائر، بل غذّوا هذه النقطة وهم يعلمون أنّ الزّعامة، جبلّة في الحياة الاجتماعية التي تنهار في غياب الزّعيم (2) (The leader ship). لقد كان غياب القيادة عن الثورات العربية نقطة قوتها جميعا، إلا أنّها شكلت في نفس الوقت نقطة ضعفها الرئيسية، بدليل خروج هذه الثورات عن مسارها الطبيعي.
في تونس تحوّل الثوّار إلى متسولين على عتبات قصر الحكومة بالقصبة، كذلك الشأن في مصر وفي اليمن، في الوقت الذي كانت فيه دول مقطوعة رؤوسها وأجسادها تنزف دما، لا تنتظر إلا لفتة ثورية. التقطت الدول المنهارة أنفاسها ولملم أركان الحكم السابق أمرهم والتفوا في دهاء على الثورة هنا وهناك. نواب رؤساء ورؤساء وزارات سابقين منهم من اعتلى سدّة الحكم فعلا ومنهم من ينتظر. مصر في ورطة تاريخية لم يشهدها التاريخ منذ قرّر من ليس لهم حق القرار وضع الحصان أمام العربي، حين أجلوا صياغة الدستور إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية معا... في تونس عطّل العمل بالدستور في اللحظة التي هرب فيها رئيس الدولة من البلاد... لقد دبّر الحكّام الزائفون مؤامرة على الثورة العربية، بعد رحلات مكوكية أخذتهم إلى أمريكا ليأخذوا تأشيرة التّحكم في البلاد والعباد، بضمانات قطرية(3) (لا يعلمها إلا الله) ونسجوا خيوطها بدّقة متناهية، ففسحوا المجال أمام الغوغاء والمنحرفين ليعيثوا في الأرض فسادا و(بلطجة) واحتكارا... الخ.
مصر اليوم في وضع لا تحسد عليه، فالشعب في حيرة من أمره والكل يسأل الكل من أن انتخب؟ النّخب السياسية والمثقفون برهنوا عن عجز مركّب، أولا حين لم يتصدّوا لمسألة تعطيل الدستور ولم يحشدوا الرأي العام ضدّ الاستفتاء عليه التنقيح الذي مثّل أولى طعنة تلقتها الثورة في ظهرها، ثانيا لمّا بخلوا على البسطاء بالتّوجيه والتأطير قبل خوض انتخابات الرئاسة. ثم يأتي النطق بالحكم على الرئيس "مبارك" ووزير الداخلية الأسبق "الحبيب العادلي" بالسجن المؤبد في الوقت الذي برئ فيه نجلا الرئيس وبقية المتهمين من مساعدي الوزير من لواءات شرطة ومراء أمن.
لقد كانت تلك فرصة لينهال جميع المثقفين المصريين (إلا ما قلّ) على القضاء، محاولين النّيل منه علنا ودون خجل. هل أخطأ القضاء المصري أم أصاب في أحكامه؟ تلك مسألة يقدّرها المصريون أنفسهم. ويبقى السؤال مطروحا على الرأي العام العربي، لماذا هذه الحملة الشعواء على القضاء وقد حركّ المثقفون والسياسيون كل أطياف المجتمع المصري للتّحامل عليه؟ إنّها محاولة يائسة للتخلص من نتائج الدور الأول للانتخابات الرئيسة التي تمثل المأزق الحقيقي لمصر سلطة وأحزابا وشعبا، للخروج من (وحلة المنجل في القلّة)(4).
لقد انقسم الشعب المصري قبل حكم الإدانة ضدّ من ذكرنا وها هو اليوم يقف في ميدان التّحرير فيما (يشبه الإجماع) احتجاجا على الأحكام القضائية، من أجل إيجاد مخرج من الديمقراطية الناشئة التي لم تُرضي البعض وأوقعت الجميع في أزمة الاختيار بين مرشحين يحسب المواطن المصري أفضلهما سيء. يبدو لمتتبع مجريات الأحداث في بلدنا الثاني مصر (ولو عن بعد) أن محاكمة القرن قد طغت على الوجدان المصري وأنّ الأزمة الانتخابية قد أرجئت إلى وقت لاحق. أما الحقيقة المسكوت عنها فهي البحث عن إزاحة ما أصطلح عليه بمرشح "الفلول" من سباق الرئاسة بشكل يحفظ ماء وجه الطبقة السياسية المصرية من ناحية ويعيد للمثقف الذي استفاق (مرّة أخرى) على تخلفه عن استقراء الأحداث والاستدلال على نتائجها قبل وقوعها من ناحية أخرى.
الكل يعلم أنّه في سباق ضدّ الساعة ويحاول استباق الدورة الثانية لانتخاب أحد المرشحين لرئاسة مصر الذين لم يتمكنا من جمع أغلبية الأصوات وحسم النتيجة لصالحه. لقد زجت الأنتيليجنسيا المصرية بالشعب في مهساة(5) الاختيار بين (الكوليرا والطاعون)(6).
لا أبالغ إن قلت أني من المهتمين بتطور الأوضاع في مصر عبر مختلف القنوات التلفزية وعلى صفحات النت، وكنت أكاد أن أرى رؤية العين ما سيحدث من تطورات سياسية واجتماعية في مصر متخذا من الاستقراء والاستدلال منهجين رئيسيين في التّنبؤ بنتائج الأحداث المتسارعة في غياب المثقف الحرّ، رغما عن الكلام المرسل الذي كنت أسمعه من دكاترة وأساتذة جامعيين وصحفيين محترفين، من خلال برامج حوارية، يكثر فيها الخلاف والاختلاف في الرؤى بين المتدّخلين وهم في غفلة عن ضجر المواطن (العادي) من جدل عقيم وكأنّي بالعملية مبيّتة من السائل والمجيب.
لن يعفي التاريخ المثقف العربي من مسؤولية تخليه عن تبسيط الأمور وشرح المتغيرات للمتعطشين لفهم أوضاع خيّبت آمالهم في التّحول والتّغيير الإيجابي. لقد غلبت الأنانية على المثقف العربي فراح يستعرض عضلاته الفكرية ونسى أن تلك الأفكار لم يسهم لا هو ولا من لقّنوه إياها على مقاعد الجامعة في صياغتها؛ وما هو إلا أداة تتولى إسقاط النظريات الغربية على مجتمع عربي، ذو خصوصيات أنثروبولوجية وسلوكية وعقدية تحتاج قراءة جديدة، تريحه من قراءات المتحذلقين الذين لم يفهموا بعد أنّ الثورة العربية هي ثورة الفعل التاريخي على الخطاب السيا – ثقافي المبهم.
لم أر في الحوارات الفكرية سواء في تونس أو في مصر على مدار الساعة إلا نرجسية المثقف في إطار مترف في ظرف تاريخي حرج. لقد بنى القدامى علم المنطق على قاعدة إذا كانت المقدمات خاطئة، فإنّ نتائجها تكون بالضرورة خاطئة، فكان من الأجدر بالمتكلمين الجدد وقد انطلقت ألسنتهم بالتّنظير، أن يواجهوا الواقع الأليم لشعوب تعاني الفقر والمرض... الخ وينزلوا من أبراجهم العاجية ويشدّوا على أيادي ملايين العرب ويساعدوهم بالتّدريج في إدراك الحقائق من ناحية والكشف على الانحرافات المبيّتة لكل من تسوّل له نفسه بسرقة الثورة. كما ساهم عديد المثقفين العرب قبل الثورة في ترسيخ الفساد والاستبداد، ها هم يعاودون الكرّة من جديد، ليلبسوا الحق بالباطل ويشتّتوا أذهان العامة ويلقوا بهم في آتون كوارث، كان بالإمكان تفاديها بشيء من الحكمة وكثير من الصراحة والتّجرد من الحسابات الشخصية الضيّقة.
وأنا أتساءل لماذا لم يتكلم المتكلمون بلغة العقل ومصر توشك أن تحترق؟ يفرض العقل على أصحابه التّرفق بمن هم دونه في الفهم والإدراك، ما ضرّ لو اتفق المثقفون على نشر فكرة تحيد القضاء وتنزيهه وعوا المواطنين إلى التّعقل والتّريث بترك الحكم الصادر عن الطغمة الحاكمة السابقة جانبا، وحثّوا المواطنين على التّفكير في مسالة الانتخابات الرئاسية التي لا حلّ لها إلا القبول بنتائجها بقطع النّظر عن الفائز بها؟ في نفس الوقت، يتحملوا مسؤولية نشر الوعي بأنّ التجربة الديمقراطية، المحتشمة والمتعثرة التي تصدّرت مصر خوضها، إنما هي تجربة كل العرب وأنّ تداعيات نجاحها أو فشلها ستشمل كل الأمة العربية من المحيط إلى الخليج. فإن نجح المصريون في امتحان الديمقراطية، فإنّ العرب سيستعدون مكانتهم بين الأمم وسيفتكون ندّيتهم بين الملل.
من هذا المنطلق أقول للمثقف المصري عموما أنّك سبقت التاريخ وتعمدت اغتصابه بحرق المراحل، لا لشيء، (وأقولها بصراحة) إلا استجابة لأنانية، مفرطة، خرجت من طبقات لاوعيك، لتنغص عليك وعيك، فتقول للعالم أجمع، أنّ مصر أم الدنيا؛ التي حرمتها الأيام زعامة الرّبيع العربي الذي انطلق من تونس، هذا البلد الصغير الذي لا تتجاوز حضارته 4000 سنة مقارنة بحضارة 7500 سنة. اعلم أخي، أيها المثقف المصري لا أحد يزايد على زعامة مصر للأمة العربية، ففي تونس لا يزال التّيار الناصري حيا يرزق وله أنصاره المنضوين تحت راية حزب واضح الفكر ومحدد التّوجه الإيديولوجي.
هذا ولتعلم أن الثورة مثلها مثل الإنسان الذي لا يختار أبويه ولا جنسه وساعة ولادته ولا الأرض التي يولد فيها والأرض التي يدفن فيها... وأنا إذ أقول هذا الكلام ليس من قبيل الصراع التاريخي بين أبناء الوطن الواحد، بل هي محاولة لكشف ما قد يدور في نفس البعض هنا وهناك؛ وهي مصارحة أخوية تميط الستار على ما لا يقوله البعض الآخر، فلننظر جميعا إلى أمتنا ووطنا، كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو، تداعى له باقي الأعضاء بالسّهر والحمّى.
مصر التي في خاطرك هي ذاتها في خاطر كل عربي، حريص على ملّته، يتمتع بذّرة ذكاء، تدله على خطورة الظرف التاريخي الرّاهن للأمة جمعاء، بدأ من أرض الكنانة التي إذا نال منها الأعداء (لا سمح الله) انتهينا جميعا. لا أقول هذا خوفا ولا طمعا، بل هو تعبير عن واقع، مأساوي لو لم نتداركه، متحدّين شعوبا قبل الحكومات لصادقنا في لا وعي جمعي على نهايتنا كما خطط لها الآخر. كتبت معلنا بكل صراحة، مستشرفا مستقبل أمتنا العربية قائلا: " لقد أحيت الثورة التونسية فكرة القومية العربية وقد صعقتها كهربائيا. لقد أثبتت هذه الثّورة (على أرض الواقع) أنّ كل دولة عربية، هي العمق الإستراتيجي لأي دولة عربية أخرى، مهما بعدت المسافات واختلفت الرؤى. ليس من باب التفاؤل، إذا اعتبرت أنّ ما حدث في تونس، يشكل اللّبنة الأولى الفعلية/العملية لوحدة عربية مستقبلية. استشعر وأدرك الغرب عموما وأمريكا وإسرائيل قدومها (أي الوحدة العربية)، في حين لا نزال نحن نناقش تصنيف الأحداث التي تمر بها الشعوب في الوطن العربي بمصنفات غربية أساسا"().
هذا اعتقادي هذه قناعتي التي لن تزيد الأيام إلا رسوخا. كلنا في انتظار عبقرية الفكري المصري/ العربي لحل للخروج من هذه الورطة التي لم تعرفها أمم من قبلنا، فلا تخذلونا في مصر، فنحن منكم وإليكم وما يسؤكم يسؤنا وما يسركم يسرنا، في عالم اتحد فيه اليهود والنّصارى وللأسف عصينا أمر ربنا حين نهانا عن ذلك وأخبرنا أنهم لن يرضوا عنّا لقوله تعالى في الآية 120 من سورة البقرة " وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ". فهل من مدّكر؟
-----------
*) مثل مصري شعبي
1) انظر كتابي ثورة الكرامة عن الدار المتوسطية للنّشر. تونس 2011.
2) يمكن الإطلاع على نظرية الزّعيم في علم الاجتماعي النّفسي عند "جون كازنوف".
3) للأمانة أقول أني كنت رافضا لكل التحليلات التي حمّل أصحابها دولة قطر مسؤولية اختراق الثورات العربية بالوكالة عن الولايات المتحدة والآن أقر أنّ الأخوة كانوا على صواب وكنت على خطأ.
4) مثل شعبي تونسي يطلق للتعبير عن شدّة الأزمة التي لا تحلّ إلا بقطع المنجل (آلة حصاد) أو كسر القلّة (الجرّة).
5) الكلمة للمؤلف وهي إدغام كلمة مهزلة وكلمة مأساة لتصبح مهساة.
6) العبارة للدكتور العالم المصري "السيسي".
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: