فتحي العابد - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8995
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يقول الأديب محمد شاكر في كتابه "سيادة الجهل": إن الحياة عبيد وسادة، عبيد دون ذنب، وسادة من غير حق، ومتسلطون دون مؤهل، يقربون ويحمون أمثالهم، ويسلطون أعوانهم على المجتمع وهم ليسوا بأكفاء ولا أهل، ويبعدون أهل الرأي والفكر، وأصحاب العلم، فينتشر الفساد، وتتحكم الفوضى، وتشرئب أعناق أراذل القوم للمباهاة، وتنخفض هامات الرجال، وتتراجع الأمة وتتأخر عوامل النهضة ومقومات الحياة.
وددت كتابة هذا المقال منذ مدة، ولكن اليوم ربما اتضح المشهد أكثر بعد أن تراكمت وتسارعت الأحداث في بلدي العزيز تونس وفي بقية البلدان العربية. فلو نظرنا إلى الطابع العام والغالب لمؤهلات حكم أو محاولة الحكم التي دعمتها وآوت حكامها الولايات المتحدة الأمريكية في العالم العربي والإسلامي من ستينيات القرن الماضي إلى اليوم، لكان هو حكم التسلط والقهر، وهذه هي أهم مؤهلاتها في النجاح النسبي الذي حققته إلى اليوم في استتباع الأمة والسيطرة عليها.. وأقول النسبي لأن الثورة التونسية وماتبعها من الثورات العربية جعلته نسبيا، أي أنها لم تنجح بالكامل في تلجيم الدول العربية.. حتى في العراق التي سخرت أموالا وبلدانا وجيوشا لها، تمت سيطرتها عليه فترة من الزمن عن طريق القيام بما يشبه عملية السطو المسلح على الوطن والمجتمع، فلما فشلت في استتباع المجتمع أقامت الدنيا وأقعدتها ووصفت كل من وقف في طريقها بأنه إرهابي، أو من ممولي الإرهاب.. ولم تترك ورائها إلا خرابا وأمواتا، وإن كادت لتنجح في أفغانستان بفضل حاكمها الذي أصبح هو ولي الأمر وقائد كل شيء، وكادت الحقوق عند أبناء الشعب الأفغاني أن تأخذ صفة المنحة والفضل والهبة من كرزاي وماتابعه، لكنها في الأخير أذعنت وولت كالثعلب وذيلها بين فخذيها.
أمريكا والغرب زرعوا في أوطاننا حكاما خدموهم أحسن مما خدموا أنفسهم.. لا وسيلة لهم للحفاظ على الحكم إلا السيطرة على الناس، سواء من خلال محاولة إرضاء واستمالة وشراء ذمم النافذين في مجتمعاتهم، أو من خلال قمعهم، ثم توريث الحكم إلى أحد الأبناء أو أفراد العائلة كما هو في سوريا، وأمر الأمة بالنسبة لهذا الـوارث لا يكاد يعدو كونه "ملك الآباء والأجداد" الذي ينبغي الحفاظ عليه، وبما أنه لا يمكن إرضاء كل الناس فإن أداة القمع، أو شراء الذمم تكون جاهزة للعمل باستمرار، فكثر حكام التسلط، وتعاظم دورهم ووظائفهم وأدواتهم ووسائلهم، مما زاد في درجة هيمنة أمريكا علينا وإخضاعنا إليها في محاولة لإنتشال هؤولاء الفاسدين، الشيء الذي ساهم في اتساع حجم وفداحة الأضرار المترتبة على حكمهم، وذلك في مقابل تشعب واختلاف وزيادة تعقيد متطلبات بناء الدولة، إلى حدود لم تعد العائلات والعصابات الحاكمة قادرة على الوفاء بجزء يسير منها.
أتت بعض التجارب في الخليج بحاكم متسلط أكثر وعيا وكفاءة من غيره، ولكن بنية حكمه جعلت تميزه فرديا ومحاصرا بقيود ثقافة وأوضاع الملك ومصالحه.
وحين اضطرت بعض أنظمة التسلط إلى السماح ببعض الحقوق السياسية، كما هو في المغرب أو الأردن، كحق التعبير أو إنشاء الكيانات السياسية، فإنها تسمح بها في الحدود التي لا تحمل أية تهديدات جدية ولا تخل بقواعد اللعبة السياسية.
أمريكا في حكمها للعراق حولت حكامه الذين وضعتهم من يوم دخولها إليه إلى ما يشبه الأوثان، يسيطرون هم وأتباعهم على المال العام، والإعلام والثقافة والمناصب والقضاء.
وبهم تم إدخال شؤون السياسة في العراق إلى عالم المحظورات، ولا أبالغ إن قلت أن الوضع في العراق اليوم أسوء مما كان عليه في عهد صدام من تشرذم وطائفية، حيث كان يضرب بها المثل في الإنسجام الذي كاد يفوق الوصف على صعيد قيم التعايش والتحضر، وهو الذي أدى الدور الإيجابي الهائل في حياتهم الدنيوية. بل هو الذي حوّل التناقضات الدينية واللغوية والعرقية إلى تنوعات واختلافات إيجابية، جعلتها تتصدر الدول العربية في جميع المجالات تقريبا، لكن حكام العراق اليوم تسخر وسائل الإعلام لهم، فتحول معظم الناس إلى ساكتين تنتقص حقوقهم ويطالهم التهميش والتجاهل، أو مارقين يفجرون ويقتلون ويهلكون الحرث والنسل، فيحل عليهم غضب الحاكم، ويصبحوا أبناء الوطن الواحد أعداءا يتربص بعضهم ببعض.. وبهاته التصرفات تولد أعظم صور العبودية الجماعية القهرية.
عبودية صنعتها أيدينا بعد أن فرطنا في حقنا في اختيار حكامنا.
حينما نتحدث عن ثقافة التسلط، لا نتحدث على أن الأمر يدور حول الظلم أو العدل، إنما نتحدث على كيفية إعادة تشكيل الأفراد والمجتمع على نحو مختلف تماما عن التشكيل الذي تسمح به ثقافة الإختيار.
أمريكا كانت تظن أنها هي ومن حالفها مصدر السلطة، وأنها هي المتحضرة وغيرها همج. أما الآن بعد الثورات العربية بدأت تغير من خطابها بل عرفت أن استراتجيتها خاطئة ولم تأتي لها ومن والاها إلا بالويلات، لأن الشعوب العربية اليوم علمتها أنها تريد أن تحكم نفسها بنفسها، أي حكم الإختيار، أين يكون المجتمع نفسه هو مصدر السلطة. وأن الحاكم اليوم لامناص له للحكم إلا برضا معظم الناس، وشعور الناس بالحرية يطور هذا المدخل حتى في المدى القريب، إلى حد سيؤثر على ثقافة ووعي وطباع الأفراد وحركة المجتمع في الأمة العربية.
الحكام المتجبرون الذين دعمتهم أمريكا في بلداننا على مدى عقود، لم يشعروا يوما ما بأي فضل للمجتمع في وصولهم للسلطة، ويدركون أنهم لولا دعم أمريكا والغرب لهم لم ولن ينجحوا في تسلطهم عليه، ولذلك في أول ثورة للشعوب العربية ضدهم أقيم عليهم حد الحرابة، فقتل وسحل كما وقع مع القذافي، الذي أسر مستوى ثقافة ووعي المجتمع الليبي لطباعه ومزاجه، رغم تعدد موارد الدولة وتعدد أنشطتها المالية والإستثمارية، واعتبروا آخرين خائنين وخوارج فهربوا خفية بالليل كما هو حال بن علي، ومفسدين في الأرض ويجبوا أن يحاكموا كما هو حال مبارك.. بينما حكم الإختيار الذي أتى مع الربيع العربي، والذي بدأت ملامحه تتجسد كما هو في تونس بعد الثورة رغم الصعوبات، ومحاولات الإلتفاف عليه، يعود الفضل فيه لله أولا ثم للمجتمع الذي أوصله إلى سدة الحكم، واستمراره فيه مرهون بمدى قدرته على إرضاء غالبية الناس، وأنه ليس أكثر من موظف لدى المجتمع.
وبقدر تأصيل وتطوير آليات الإختيار فإن حقوق الفرد السياسية والإجتماعية وغيرها، تصل إلى النقد والمساءلة والمحاسبة، سواء من خلال المؤسسات السياسية، أو مؤسسات المجتمع المدني، أو من خلال وسائل الإعلام.
بل تصل إلى حق منافسة الحاكم، فتكون الحقوق نابعة من الشريعة، أو من القوانين التي قبلها وارتضاها المجتمع، ولو تدخل الحاكم سلبا أو إيجابا في تلك الحقوق فهو مخالف للشريعة أو القوانين، ومتجاوز لسلطاته ومعرض للمساءلة والمحاسبة، وهذا الحاكم المختار مهما كانت مؤهلاته متواضعة فإن حيوية المجتمع ورقابته يمكن أن تعوض هذا النقص وتكشفه، وتسمح بتصحيحه ولو بعد حين..
ونجاح المجتمع في تعزيز وترسيخ حق الإختيار مرهون بنجاحه في وضع الآليات، وإنشاء المؤسسات السياسية، التي تكاد تكون وظيفتها الكبرى هي الرقابة على الحاكم وإخضاعه لسلطة المجتمع.
كانت كثيرا من العوامل القدرية ذات العلاقة بأمور الحكم والسياسة تحول بيننا وبين أن نختار من يحكمنا، وهذه العوامل اندثرت يوم 14 جانفي 2011 ولله الحمد، وكان يوم 17 ديسمبر 2010 بداية التمهيد للقضاء على هذه العبودية وصولا إلى سحقها واجتثاثها في تونس ومصر وليبيا واليمن، بمجرد التسليم بحقنا في اختيار من يحكمنا..
كانت الأمة مفرطة في هذا الجانب، ولما أقرينا بحقنا في اختيار حكامنا أدى ذلك إلى زوال خشيتنا منهم وحل محلها خشية الحكام منا، وتحول الحاكم على الأقل الآن في تونس إلى بشر، كل همّه هو كسب رضا الناس والحصول على تأييدهم، مما أدى إلى إدخال شؤون السياسة إلى دائرة الواجبات، وخضع المال العام والثقافة والمناصب والقضاء والإعلام والتعليم والأمن والصحة والعلاقات الخارجية لرقابة الناس وتساؤلاتهم.
اليوم في تونس ثقافة الإختيار أو إرهاصاتها أدت إلى انطلاق حرية التعبير، وتعزيز روح المواطنة، وظهور قدرات الأكفاء والموهوبين وتوفير إمكانات التصحيح والتطوير، وبدأت دعوات الإصلاح تلامس خطوط السياسة أو تقترب منها، وكساد تجارة النفاق والإرتزاق.
نلاحظ أن الإستراتيجية الأمريكية للمرحلة الحالية والمقبلة في المنطقة العربية بدأت تتجه نحو التحفظ، بل الإمتناع عن التورط مع رجال كانوا يخدمون المصالح الأمريكية والغربية ينبذهم المجتمع، وتوجهت إلى تغليب اختيار المجتمع، بل ودعمه لتخرج من العزلة والكره، الذي جنته على نفسها داخل الأمة العربية والإسلامية، وتجربة الحرب الليبية كانت بالنسبة لأميركا تجربة مثالية في هذه المرحلة، حيث أنها لم تتدخل بجيوشها لصالح شق ما، بل دعمت خيار الشعب وتوجهاته.. يقول قائل: تغير اللون فقط في السياسة الأمريكية، بعد أن كان الحمار أمريكي أوروبي ذي لون قاتم، أصبح اليوم الحمار أمريكي إفريقي مبرقع، وأقول: هذا مؤشر كاف لبداية التغير..
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: