د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6254
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
كانت محض صدفة حين استمعت وأنا على متن قطار الضاحية الجنوبية متوجها إلى عملي بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس إلى حوار استمر ثلاث أرباع السعة بين جمع من المسافرين، قدرت أنهم زملاء في العمل أو أجوار أو أصدقاء. يستشف من مظهرهم الخارجي أنهم موظفون بالقطاع الحكومي أو البنكي؛ أناقة ملبسهم وحسن هيأتهم كانت توحي بذلك، أما مستوى نقاشهم فكان دليلا على نضج أفكارهم وشدّة اهتمامهم بالتّغيرات الشاملة التي تعيشها بلادنا بعد الثورة.
كان حوارهم على درجة عالية من التّحضر، رغم ما تخلّله من حين لآخر من تعصب للرأي، كما هو شأن غالبية التونسيين... كنت رابعهم الصامت ولم أنبس ببنت شفة... غير أنّي كنت أتابع (غصبا عنّي) كل كلمة قالوها، ونظرا لأهمية موضوع النّقاش، الذي جعلني أفكر وأطيل التّفكير والتّمعن في مشاغل المواطن التونسي الذي تحوّل بفضل الثورة إلى صاحب رأي معلن، لا يخشى الإفصاح عنه دون ريبة في من حوله، قررت أن انقل للتونسيين عن التونسيين عمق فكرهم السياسي وبعد نظرهم في تحليل الشأن العام...
انطلق الحوار من أحداث يوم 4 جانفي الجاري أمام مبنى وزارة التعليم العالي وما تعرّض إليه المجتمعون من اعتداءات لفظية وعنف مادي، نقله لقاء مباشر أجرته إحدى القنوات التلفزية التونسية الخاصة مع شهود عيان، بحضور جمع من أساتذة الجامعة. ما لبث الحوار أن ارتبط بالسياسة العامة للحكومة المؤقتة ومشاريعها المزمع انجازها خلال الفترة الانتقالية.
ما أثار دهشتي إصرار أحد المتحاورين على نيّة "الترويكا" الحاكمة في البقاء في السلطة رغم أنوف التونسيين. وأضاف مشككا في صدق مزاعم حزب الأغلبية في إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية والقفز عليهما مهما كلّف الأمر، مُنَّزِهًا حزب التكتل عمّا اسماه بالالتفاف على مبادئ الثورة التي لاحت إرهاصاته من خلال تجاهل رئيس الدولة لقضية الجامعة وتراخي الحكومة، ممثلة في سلطة الإشراف في اتخاذ موقف حازم، لحل أزمة كلية منوبة التي يحرم طلبتها من إجراء امتحانات السداسي الأول.
كان النقاش سجالا بينهم، يتفقون حينا ويختلفون حينا آخر، إلى أن وصلنا نهاية الرحلة، وغاب بعضنا عن أنظار بعض وحوارهم لم يفارق خاطري... خاصة تلك الملاحظة/الفكرة التي استمات صاحبها في الدّفاع عنها، رغم عدم اقتناع مرافقيه بفحواها. كان رأيا غاية في الخطورة، دقيق التحليل عميق الأبعاد. ما الذي دفع بصاحبنا إلى القول بأنّ " التحالف الحزبي الحاكم لن يحترم مواعيده؟". ما هي المؤشرات التي جعلته يجزم بأن الفترة الانتقالية المتفق عليها (من سنة إلى سنة ونصف السنة) لإدارة الشأن العام وتسيير الأمور؟ ما الذي دفع بالمتحدث أن يقسم بأن حزب الأغلبية لن يجري انتخابات في المستقبل؟ هل هو مجرد حدس أم استنتاج قائم على ربط الأحداث بعضها ببعض ونضج في قراءة المشهد السياسي من لدن شاب تونسي يقف على عتبات الكهولة...؟
بدأت أبحث عن الدوافع الدفينة لمثل هذا الموقف (المرعب) بإعادة شريط الأحداث التي عاشتها ولا تزال كلية الآداب بمنوبة وقد كتبت عنها منذ البداية في مقال تحت عنوان: الجامعة التونسية توشك أن تلتهب[1] وقدمت مقترحات ارتأيت أنها تساعد في حل الأزمة من ناحية وتساهم في عودة هيبة الدولة التونسية إلى النّفوس من ناحية أخرى.
تشكل هذه المسألة نقطة مفصلية في استقراء المستقبل السياسي لتونس. نعم لقد لاحظ الجميع ما يشبه التّنصل من المسؤولية في معالجة أزمة كلية منوبة وأيقنا أننا نسير وفق المثل التونسي "العزري أقوى من سيدو" وأن الجهات المسؤولة على مختلف درجاتها اتسمت بشيء من النّعومة. لعلها نعومة ممنهجة، باتجاه زرع الفرقة بين فكّ التحالف الإستراتيجي[*] تمهيدا لفكّ التحالف بين الأحزاب الثلاثة، الحاكمة، بالسماح لجهة أو جهات متطرفة لفرض سيطرتها على أبرز معاقل الحداثة في البلاد، خزّان الأكاديميين، منبع الانفتاح والديمقراطية، إنها الجامعة التونسية!!!
من خلف جُدُرٍ محصنة تسعى الحكومة المؤقتة الجديدة، أن تطال يدها (الخفية) نخبة المجتمع التونسي، بتسامحها مع من لم يكفوا لحظة على توجيه الإهانة لأساتذة الجامعة، إهانات واستفزازات تصدر دون انقطاع عن طلبة ذوي توجهات إيديولوجية معينة أو من قبل من يساندنهم بالفكر والساعد... منهج بيداغوجي قديم، قدم تنشئتنا الاجتماعية؛ يحاول البعض إحياءه دون تجديد أو تطوير، يطبّق اليوم على علّته "اخطى راسي واضرب". من سَيُضْرَبُ هذه المرة؟ " القطوسة حتى تخاف العروسة"؟! يا للعجب، أساتذة الجامعة، هذه الفئة التي تنشر العلم في عقول الناشئة وتأخذ بأيديها إلى أرحب مجالات الفكر، تزيح غشاوة الجهل على الأعين، تحولت في نظر البعض إلى "قطوسة"[**]؟ نعم لقد حوّلونا إلى "قطوسة" يجب تأديبها، كي يدّب الرعب في كل نفس تطمح إلى مستقل العلم والمعرفة "ولي في يدو حجرة يرميها". أساتذة الجامعة ومعهم كل المربين الذين سبقوهم في تبديد ظلمات الجهل من (معلمين وأساتذة تعليم أساسي وثانوي) هم منارة العلم التي يجب في تقدير البعض أن ينطفئ نورها " فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ"[2].
إن التّهاون مع ظاهرة الاعتداء على هيأة التّدريس بالجامعة عموما واستهداف الزميلات النساء على وجه الخصوص ووصفهن بشتى النعوت اللاأخلاقية، يوحي للباحث بخطورة تحليل المواطن الكريم، الذي تابعته وهو يجزم بأن" "تونس لن تشهد انتخابات أخرى". لقد أعاد حوار المسافرين الثلاثة إلى ذهني، مبدأ (عدو، عدوي صديقي) التي مارستها السلطة في سبعينات القرن الماضي في الجامعة التونسية، أيام كنت طالبا، لكسر اليسار الطلابي بإقامة تحالف بين الحزب الحاكم وعدوه اللّدود "التيّار الإسلامي". كان التحالف هشّا، إنفصمت عراه بمجرد تراجع اليسار وانكماشه من الساحة السياسية. لم تلبث السلطة وقتئذ حتى اضطهدت حلفاءها في الجامعة وخارجها، وما أحداث (باب سويقة)[*] إلا دليلا على ذلك.
أما الآن وكأني بالتاريخ يعيد نفسه مع تغيّر اللاعبين السياسيين، فالتقارب الفكري والإيديولوجي بين السلطة الحاكمة وبعض التيارات السياسية التي منحتها الثورة فرصة الخروج من تقيتها وأصبحت تبحث عن موضع قدم في الساحة السياسية، اختارت أن تكون رأس حربة، تشاكس بها السلطة خصوما مفترضين. إذا ما انتشر الخوف في نفوس النّخبة (بعد سقوطه) وسكتت النّخبة، سيفتح الباب أمام الرّاغبين في إقامة دولة دينية. ستكون الانطلاقة من التّخلي (الشرعي) عن الديمقراطية وتعويضها بمبدأ الشورى.
"وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ"[3] لقد تعلمنا وحفظنا مقاصد الآية الكريمة على مقاعد الدّراسة، التي لا تخصّ إلا خاصة الأمة وتُغَيِّبُ القاعدة الجماهرية. إن كان هذا المبدأ صالحا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسّلم "الذي لا ينطق عن الهواء"، وطبقه خلفاؤه رضوان الله عليهم؛ أيام كانت الأمة (قلّة) والنّخبة (ثلّة) وجميعهم لصيقي العهد بالوحي وبالرسالة. أما اليوم والأمة (كثرة، كثيرة) والنّخبة (نخب متنوعة التخصصات) والوحي انتهى والرسالة ختمت و"الكل ينطق عن الهواء"، ليس من حق أي كان أن يستبد بالرأي أو أن يتفرّد بتقرير مصير الشعب، الذي دفع شبابه ثمن حريته السليبة مضحين بحياتهم من أجل أن ينعم هؤلاء بالكرامة والديمقراطية ويغنم أولائك الحكم والسلطة.
لم يغلق القرآن الكريم باب الاجتهاد، تاركا تحديد على من يعود ضمير الجمع المتصل (هم) في قوله تعالى: "وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ"[4] لكل ذي رأي. من هنا يمكن القول بأن آلية الشورى في بعدها التفاعلي الذي كان يفضي بالرسول إلى التوكل على الله في تنفيذ ما اتفق عليه (أهل الحل والعقد)، أي النّخبة "فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ"[5] قد أصبحت صعبة التفعيل في ظل تضخم أعداد الأمة وانتشارها الجغرافي، خاصة وأن الأمة قد تشضت إلى شعوب وجنسيات... من هنا جاء بكل إلحاح التفكير في تعويض الشورى بآلية الانتخاب الديمقراطي لاختيار ممثلين عن الشعب، مما يعطي هذا الأخير فرصة المشاركة في الحكم وتحديد السياسات العامة ورسم الإستراتيجيات التي ترتضها القاعدة الشعبية من خلال نواب الجهات والدوائر في مجالس الشعب والشورى.
بدأ تفعيل المسار الجديد في تونس بعد الثورة، وقد تخطى الساسة ما اتهمهم به خصومهم من ازدواجية الخطاب إلى تلون الفعل، الذي شكلت الجامعة أول خشبة مسرح لممارسته، وذلك على مرأى ومسمع أحزاب اليمين واليسار، التي انجحرت بشكل مفاجئ، مثير للدهشة والتساؤل والاستغراب؟!
فلولا الإعلام التونسي في ثوبه الجديد لبقي أساتذة الجامعة يصارعون التيار إلى أن يصرعهم أو يصهرهم. ها قد انتهت الجولة الأولى بين دعاة العلم ودعاة الجهل، لكن الصراع القديم، الأزلي لا يزال محتدما بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ"[6]. فمن هم أولو الألباب، المتربصين أم المتيقظين؟ هل هم المعتدون على حرمات الغير أم المعتدى عليهم في عقر دارهم؟.
الشارع التونسي ومن خلال حوارات متناثرة هنا وهناك، أبدى نضجا سياسيا ما كان يتوقعه أحد، فبعد أن تجاوز الشارع المثقف والأحزاب بأشواط في مجال الفعل التاريخي، ها هو الشارع من جديد يبرهن أنه ليس في حاجة للمثقف، إن اختار هذا الأخير التّخلي عن دوره في توجيه الشعب وإرشاده. الشعب قادر على حماية نفسه والجامعة برجالها ونسائها لن تسمح أن تستباح حرمتها من جديد، والدولة التي حمتها الثورة لن تتنكر لأصحاب الفضل مهما كان مأتاهم.
الشارع لم ولن يتهم المثقف بالتقصير في التّصدي للظلم والفساد، ألا أنه، أي الشارع سئم الانتظار وفقد الأمل، فمارس الثورية الفطرية وحقق أهدافا، عجزت عن نيلها العقول الكبار، فانكفأت عن ذاتها. لعلها تراجع نفسها وتعدّ العدّة (إن لم يفتها الشّنب)، فتصبح "أندم من الكُسْعِيِّ"، ما لم تقتنع بأن لكل جواد كبوة.
------------
1) موقع بوابتي، مقال: الجامعة التونسية توشك أن تلتهب
*) العبارة للدكتور مصطفى بن جعفر، رئيس المجلس الوطني التأسيسي قالها في إحدى مقابلاته التلفزية.
**) "القطوسة" في اللهجة التونسية تعني القطة.
2) سورة الحج الآية 46
*) باب سويقة، حي شعبي في قلب العاصمة تونس
3) سورة الشورى الآية 38
4) سورة آل عمران الآية 159
5) بقية الآية 159 من سورة آل عمران
6) سورة الزمر الآية 9
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: