د. ضرغام الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5119
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يسمع الناس عن الانسحاب الأمريكي، فهل هو انسحاب حقاً، أم إعادة انتشار، أم هندسة الوجود والنفوذ الأمريكي في العراق.
هل سيختفي الأمريكيون من العراق ؟
بالطبع هم سيفعلون، أو سيحاولون ذلك على الأقل، الاحتفاظ بمزايا الاحتلال السياسية والاقتصادية والإستراتيجية، بأقل كلفة ممكنة.
ولكن ذلك سوف لن يعني أن الأمريكان سيختفون في العراق، هم سيبقون حيث ينبغي لهم أن يبقوا، كمهندسي سيطرة على المفاصل الرئيسية في الدولة العراقية، سيبقى لهم ضمان انتشار جديد عند الحاجة، لديهم عشرات الألوف من الجنود كمدربين أو كموظفيين أو هكذا سيطلق عليهم، والجواسيس كخبراء في الوزارات، والسفارة الأمريكية تعد أضخم سفارة في العالم وربما في التاريخ، إذ تضم 15 عشر ألف دبلوماسي، أو موظف ولهم من الحاشية أضعافهم، ولهذه السفارة مطار خاص، ولكم أن تتخيلوا هذه العلاقة الدبلوماسية
الأمريكان دخلوا العراق بمعلومات سياحية، ولكن اليوم لهم تحت كل حجر عين لهم ووكيل، ولهم من العناصر التي تعمل في الاجهزة الحكومية من هو لهم أكثر مما هو للعراق، والطرف الأمريكي يلعب دوماً دور الحكم إذا ما تنازع فرقاء الحكم على ما تبقى من المال، وهو ليس قليل، فأموال الشعب العراقي لا تستثمر، ولا تجد سبيلها للتراكم الوطني، لذلك الخلاف قد يكون على بضعة مليارات فقط، والأمريكان يعلمون بذلك بل هو نظام وضعوه ملامحه العامة والتفصيلية ليكون هكذا عراق هش في كل شيئ ليسهل السيطرة عليه
الحكومة الأمريكية تدعي أنها أنسحبت، ولا تقول أنها أنهزمت، هم وضعوا في المغامرة العراقية أكثر من خمسة ألاف قتيل، وأضعافهم من الجرحي، وأكثرهم من المعاقين جسدياً، أما المعاقين عقلياً فأضعاف ذلك بكثير، وغالباً ما نسمع عن جنود عملوا في العراق يعالجون في مصحات عقلية، أو يصيبهم سعار القتل أموك ، وإذا أ‘تبرنا الرقم الذي أعلنه الرئيس أوباما 350 ألف جندي عمل في العراق، يمكننا التوصل لنتيجة مريعة من خلال أعداد القتلى المعلنة فقط، وهي أقل بكثير من الحقيقة، ذلك أن الأمريكيون لا يعدون الجنود الغير متجنسين بالجنسية الامريكية ضمن أحصاءات القتلى، كما لا يعتبرون قتلى الحوادث ضحايا حرب، وهو رقم كبير، كذلك المرتزقة الذين عملوا في صفوف القوات المسلحة الأمريكية أو التشكيلات العسكرية المساعدة تحت مسميات شركات الحماية.
الأمريكان هربوا من العراق، هربوا يجرون أذيال الهزيمة، والفضل في ذلك للشعب العراقي وحده الذي نازل الغزاة المحتلين ودحرهم ولا يهم إن أعترف بذلك الأمريكان أم لا
فالحكومة الأمريكية تخسر أكثر من ستة مليارات دولار شهريا في حربها في افغانستان، وتخسر ما يقارب مئة جندي من قوات التحالف سنويا في المتوسط، ومع ذلك لا تسيطر عمليا إلا على اقل من ربع البلاد فعليا. فحتى العاصمة كابول لم تعد آمنة بسبب هجمات الثوار الأفغان، ومع ذلك يصرح وزير الدفاع الأمريكي أنهم منتصرون في أفغانستان.
السيف أصدق أنباء من الكتب ***في حده الحد بين الجد واللعب
العراق .. ماذا بعد الانسحاب الأمريكي
هذا إذا افترضنا أن الانسحاب حاصل فعلاً، وإذا سلمنا أن الأمريكان سيسحبون قواتهم باستثناء ألوف المدربين، وباستثناء، بضعة ألاف من مشاة البحرية في السفارة، عدا عن بضعة ألوف من المرتزقة في شركات الحماية المحترفة، غير جيوش من الجواسيس العلنيين والمخفيين، وعدا الاتفاقات السرية والعلنية عن العلاقات الأمريكية / العراقية للفترة المقبلة، عدا الضمانات التي قطعها الجانب العراقي، وعدا كواليس التحالف الثلاثي الأمريكي الإيراني والإسرائيلي، عدا الحقوق الدولية التي تجعل من الولايات المتحدة إعادة الموقف إلى المربع الأول، ترى كم تبقي هذه المعطيات بعد ذلك من فسحة لقرار عراقي سياسي مستقل، وأي عملية سياسية ستكون بمنجى من هذه الضغوط ....؟
هذا التحليل يشمل الوجود والنفوذ والتأثير الأمريكي فقط، نحن لم نتطرق إلى النفوذ والوجود الإيراني، ولا الإسرائيلي وهم شركاء وأطراف ثلاثة خاضوا الحرب والاحتلال والهيمنة على العراق ومقدراته السياسية والاقتصادية بالتفاهم والتحالف، متكافلين متضامنين في العمل والنتائج، وبالطبع المكتسبات، وما زالوا متفاهمين والتحالف لم يفرط عقده، وليس في وارد الظن والاعتقاد أن أحداً يحصل على مكاسبه أن يتخلى عنها إكراماً لسواد العيون، فهذا اعتقاد ساذج يعود إلى القرون السحيقة وبالتأكيد إلى ما قبل ميكافيلي، وعصر النهضة.
من المؤكد أن الأمريكان سيبقون على درجة عالية جداً من النفوذ، بل هذا ما رشح من مفاوضات السيد المالكي في واشنطن وعبرت عنه الصحافة الأمريكية حرفياً، فالمصادر الأمريكية تذكر أن الولايات المتحدة خسرت آخر قتيل لها في العراق يوم 14/ تشرين الثاني وهو القتيل رقم 4474 (حسب مصادر وزارة الدفاع الأمريكية) وأن ذلك سوف لن يذهب سدى.
والترجمة الواقعية العملية للنفوذ الأمريكي في العراق، سوف يعبر عن نفسه باستحالة تجاهل " النصيحة " و "الرجاء " أو تصعيداً لدرجة " الطلب "، أو " الأمر " وهي صيغ غير معيبة في القاموس السياسي الأمريكي، وبين الأحباب تسقط الآداب كما يقول المثل العراقي.
لماذا تستجيب بغداد لنصائح ورجاء، أو الطلب، أو الأمر، وبتقديري من يحكم العراق وهو قابل لهذه المعادلات، لأنها ناتج عنها، يعلم أن هناك أدوات ضغط غير لطيفة بوسع الأمريكان استخدامها في العراق وفي جوار العراق في مياه العراق وأجواء العراق، فهم على علاقة وثيقة بمكونات العراق شمالاً وجنوباً، يلعبون برقعة الشطرنج بمهارة أستخبارية لا شك فيها، وقد رصدوا لهذه الأنشطة مبالغ يسيل لها لهاب الجواسيس والمتساقطين والمتهالكين، ممن يعتقدون ياللأسف أن يوماً تعرفه خير من غد لا تعرفه، منطق الجواسيس غريب ومذهل في وقاحته، ولكنه للأسف لا بد من الاعتراف أنه صار رائجاً في العراق بعد السقوط العظيم.
الأمريكان تركوا في العراق الكثير جداً من الألغام والمفخخات، وهي تناسب كل حجم ووزن وعيار، نعم هم دخلوا العراق بمعلومات تافهة، العراق كان بالنسبة لهم قلعة حصينة منيعة، ولكنه يعرفون اليوم ماذا يكمن تحت كل حجر، بل وقادرون من خلال سفارة عملاقة تضم 15 ألف موظف، إدارة العراق بالرموت كونترول، وطالما يمكن أن أدع غيري يموت عوضاً عني، فهذا أطيب من الطيب، وأفضل الحلول.
هذه الألعاب، والفرفشات، ولعب الطاولة والشطرنج، هي لعبة خاسرة مع التحالف الثلاثي الأمريكي الإيراني الإسرائيلي، والسبيل الوحيد لكل عراقي شريف هو قلب الطاولة بما فيها، ومن عليها، ومن ورائها، وغسل العراق غسلاً جيداً بالماء والصابون والمعقمات، ليعود العراق كما يستحق أن يكون، شعباً راقياً وعظيماً، بستان تفوح منه روائح العطور، أما بغير ذلك، فكما يقول المثل البغدادي الجميل: جيب ليل وخذ عتابه.