د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8195
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
عظيم أنت أيها الشعب التونسي، عظيمة أنت يا تونس، أقول هذا بعد أن وضعت الحملة الانتخابية أوزارها وقَبِلَ الجميع بنتائجها. لا يهمني في هذه المرحلة من الفائز ومن الخاسر ما دام الفائز الأول والأخير هم أنا وأنت وهو وهي، انتم الذين هم نحن. نحن الشعب التونسي الذي كان وفيا لدماء شهداء التّحرير الذين دفعوا أرواحهم رخيصة في سبيل استقلال البلاد. نحن التوانسة جميعا ذكورا وإناثا، أغنياء وفقراء، نحن من فقدنا أبناء وإخوة وأبناء عمومة ممن ضحوا بأنفسهم مقدمين الواجب على الاستحقاق، وعبّدوا للجميع طريق الحرية والديمقراطية.
كل هذه التّضحيات لم تمنع البعض من الذين يعدّون أنفسهم من التوانسة، ليخرجوا علينا في إحدى القنوات الأجنبية ليشكّكوا في إجماع شعب تقدّم بتلقائية إلى صناديق الاقتراع، متحديا العالم الذي ارتاب في قدرته على خوض غمار الحرية، يحدوه حسّ سياسي مرهف، لم يتطلب سوى أيام حتى يزيل طبقات غبار السنين وصدأ الفساد السياسي.
أنا عن نفسي ومن موقعي كأكاديمي، انتهز هذه المناسبة الفريدة في تاريخنا، لأتقدم بأحرّ التهاني لكل تونسي وتونسية ساهم في انتخاب المجلس الوطني التأسيسي أولا، ثم أقدم وللمرة الثانية اعتذارا صادقا لبلدي عن آراء كنت صرحت بها للصحافة، مفادها أنّ شعبنا في تونس وفي العالم العربي قد أضحى خارج التاريخ. أحمد الله الذي سفّه تلك الآراء وأثبت أنّ الأمة التي "كانت خير أمة أخرجت للناس" لا تزال تنبض بالحياة وفي عروقها دماء الشباب، شباب متعلّم، صبور، قادر على تحمّل الصعاب والتفاعل مع الحرمان.
أما عن دوافع كتابة هذه المقالة، فتتمحور حول ظاهرة إقبال التونسيين بشكل مذهل، منقطع النّظير على صناديق الاقتراع ودموعهم تسيل على خدودهم من شدّة الفرح والغبطة. كيف يتصور المشكّكون إقدام شيوخ وعجائز تجاوز بعضهم العقد التاسع من العمر؟. هل تلقى ذلك الشيخ المصاب بالشّلل النصفي، رشوة حزبية، حتى يصّر على وضع القائمة الانتخابية في الصندوق (بعد خروجه من الخلوة) بيد معطلة بفعل المرض عن الحركة، أبى إلا أن يحملها بيد (نصف سليمة) مرتعشة؟ ألا يستحي هؤلاء "المرجفين في المدينة" و"المتحذلقين" من التونسيين المقيم بالخارج من اعترافات بعض الأحزاب (الكبيرة بأنصارها وبنضالها التاريخي ضدّ حكّام العهد البائد)، بالهزيمة حتى قبل الإعلان عن النتائج النهائية لهذه الانتخابات التاريخية؟
سنترك الخوض في نتائج الانتخابات لمن يأنس في نفسه القدرة على تحليلها وسنبحث في خبايا الظاهرة السوسيو-سياسية التي نحسبها تقدم إجابة علمية وموضوعية عن إشكالية نطرحها كالتالي: لماذا أقبل التونسيون وبخاصة الشباب بزخم وعزيمة وجدّ وصدق على هذه الانتخابات بعد أن كنّا قد لمسنا (قبل23/10/2011 تاريخ الانتخاب) شيئا من العزوف[*] العام، المنتشر في كل الأوساط الاجتماعية والثقافية وفي مقدمتها الشباب، هذه الشريحة/الركن، بثقلها الديموغرافي البالغ في المجتمع 44.8 %(1)
تتنوع الإجابات بتنوع الفرضيات وتختلف باختلاف زوايا البحث النّظري التي يعتمدها الباحث. غير أننا سنكتفي بتقديم بعض الإجابات الرئيسة التي تعبّر مجتمعة عن رأينا بكل وضوح من هذه الانتخابات؛ باعتبار الظاهرة الاجتماعية هي ظاهرة كلّية، تستلزم منهجية علمية، مضبوطة وواضحة لضمان أعلى قدر من الموضوعية.
لقد تيّقنت من أنّ للشعب التونسي هرم، هرم وحيد، راعيناه على امتداد ثلاثة آلاف سنة بكل عناية وحميناه بكل قوّة ودافعنا عنه بكل عنف، إنه الدولة. هذا الهرم الذي أحاطه ولا يزال التونسيون بهالة من الاحترام والقداسة رغم ما شابه من دنس، كانت أنظمة الحكم المتعاقبة هي المتسببة الأول والأخير في تدنيس هذا المقدّس. لم يثبت التاريخ القديم والحديث أن الشعب التونسي أسقط دولة أو حتى حاول إسقاطها، هذا ما أكدته ثورة الكرامة التي دارت رحاها بين الشعب والنظام بمنأى عن الدولة. لقد طالب الشعب الثائر بإسقاط النظام، فأسقطه ولم يجهر شباب الثورة من ذكور أو إناث (ولو لمرة يتيمة) بإسقاط الدولة.
أتت الانتخابات الأخيرة بعد مضي عشرة أشهر على سقوط رأس النظام، لتفتح بوابات عقلنا الباطني الجماعي وتُخْرِجَ من أعماقه حقيقة تمسّك التونسي بمفهوم الدولة واحترامه الشديد لأجهزتها (التي لم تنل يوما من كرامته). ألم يحتضن التونسي بشقيه المدني والعسكري الدولة وهي في أسوء حالات ضعفها وقد هرب رئيسها وتزعزعت أركانها وأضحت كجسد بلا روح؟ بالرغم من اجتهاد الأنظمة المستبدة وتفنّن مثقفيها في طمس ذلك المكوّن الرئيسي للشخصية التونسية الأساس، فإن الثورة وخطواتها الأولى على طريق الديمقراطية، أعادت إلى سطح المعيش السياسي والاجتماعي التونسي، تعلّق المواطن بالدولة وأذابت الجليد بين الطرفين. لقد فنّد إقبال الجماهير على الانتخاب بمشاركة تجاوزت نسبتها (80) آخر مقومات منظومة التحاليل الكلاسيكي التي تمسّك فيها أصحابها (وكنت واحدا منهم) بفكرة القطيعة والجسور المحطّمة بين الشعب والدولة. تفاجئ المثقف بحقيقة سوسيو- سياسية، جوهرها معاداة الشعب ونبذه للمدّنس ومحافظته وحبّه للمقدّس. وها هو اليوم يفتح ذراعيه لمعانقة الدولة من جديد في ثوب عيد الحرية والديمقراطية، فكل عام وهذا الشعب العظيم وهذا البلد الأعظم بخير.
لقد سجل التاريخ القديم والمعاصر للشعب التونسي انتفاضات عديدة، كانت أولاها في سنة 1969 في الساحل، معقل عصبية الحاكم على سياسة التعاضد تخلّي على إثرها الرئيس "بورقيبة" عن تلك السياسة فرضها "بورقيبة" باسم الدولة، ورغم ذلك حافظ التونسيون على دولتهم الوطنية. سقطت الحكومة (الاشتراكية) بإذن من الرئيس الذي كان يتمتع في أعين الشعب بنفس قداسة الدولة التي تسللت إليها شخصية الزعيم بوصفها شخصية مادية لتندمج بالشخصية المعنوية للدولة[**] وتلبس لبوسها المقدس وقد ساعده في ذلك من يطلق عليهم التوانسة صفة "القفّافة"[***]. كما أطفأ "بورقيبة" انتفاضة الخبز في جانفي 1984 بفضل المزج الأسموزي وإحلال شخصية الرئيس في شخصية الدولة.
لقد دلّ الإقبال الواسع للتونسيين بكل شرائحهم الاجتماعية وأطيافهم السياسية على الانتخابات على رغبة دفينة للتخلص من وصاية النظام التي دامت على امتداد أكثر من نصف قرن. مارس الحاكم في البلاد التونسية كما هو الحال في بقية الدول العربية على الشعب، وصاية فاقت في غطرستها غطرسة فرعون الذي عبر عن مكانة الوَصِيْ بقوله "... مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ "[2]. لقد ذهب نظام الحكم في تونس من 1956 إلى 2011 في تعالي رموزه على بني جلدتهم إلى أبعد الحدود فأخذ هؤلاء الكبر والغرور فكانوا أربابا يردّدون قولة سلفهم"... أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى"[3]، فمن امتثل من العبيد وأطاع الوصي، تمتع بحياة الذّل ومن تمرّد وعصى دُمِّرَ وسُحِقَ.
كسرت ثورة 14 جانفي 2011 وصاية الحاكم وأنهتها إلى غير عودة انتخابات 23 أكتوبر من نفس السنة، هذه الرسالة الأساسية التي وجهها الشعب التونسي من خلال إقباله بل معانقته لهذه الانتخابات التي يتوجب على كل الأحزاب قراءتها بشكل صحيح ويتعامل مع التونسيين بندّية الرّاشدين، العاقلين، المسؤولين عن اختياراتهم ورسم مساراتهم المستقبلية من خلال مؤسسات ديمقراطية تسخّر في خدمة المجتمع.
ستظل الدولة التونسية في تصورات التونسيين قيمة علوية، لا تنتظر من أبنائها إلا إعادة تفعيل ميكانزماتها بضوابط وقوانين دستورية، أساسها العدل والمساواة والحرية والكرامة من ناحية وتعديل عقارب ساعاتها على إيقاع العصر، عصر العلم والتكنولوجيا من ناحية أخرى. إنها مهمة تاريخية تلقيها الدولة على كاهل كل الطاقات الوطنية المتميّزة بحسّ سياسي رفيع، المتمكنة من العلوم المتطّورة والمتمتعة بعقول سليمة في أجسام سليمة. ليس للتونسيين منذ هذا التاريخ، عذر في الاستقالة الفردية أو الجماعية من الحياة السياسية والمجتمعية، الفرصة متاحة اليوم أمام الجميع ليثبتوا ذواتهم بالخلق والإبداع، كل في مجال تخصصه، دون إقصاء و/أو وصاية من أحد.
يبدو أن عديد المحلّلين، المتّتبعين والمهتمين بالشأن التونسي قد نسوا أو تناسوا أن الثورة الحقيقية التي قام بها التونسيون، هي ثورة الفعل على الخطاب. لقد انتقلنا في تونس من التفاعل السلبي مع الأحداث بالإنصات والتصفيق إلى الفعل الإيجابي بالانجاز الإرادي. لقد خرجنا من مكانة عون التّنفيذ إلى مكانة الفاعل المسؤول. وهذا من العوامل الأساسية التي يجيب على إشكالية هذا المقال. بين الفعل والتفاعل بون شاسع، تخطيناه بدماء الشهداء ودموع الأرامل وحزن الثكالى؛ تضحيات جديرة بالمحافظة عليها وما إقبال التونسيين على صناديق الاقتراع إلا خطوة جديدة وثابتة على درب الفعل التاريخي.
ليس من الغرور في شيء لو قلت أن قوة الشعب التونسي بل عظمته تكمن في قدرته على الفعل، هذا ما أثبتته الأحداث على أرض الواقع في الفترة الرّاهنة، ما زالت أمامنا جميعا مهمات جسام ولعل أهمها القدرة على الوفاء بعهودنا والعمل على تحقيق أعلى نسب منها إن لم تكن كلها. فمهما كان اللون السياسي للفرد أو للجماعة ومهما كان الانتماء الفكري أو الإيديولوجي لهذا أو ذاك، على الجميع ألا يتخّذ من رصيده النّضالي مدرجا لصعود على أكتاف الآخر وبسط هيمنته على المجتمع. ولنا في تاريخنا القريب دروسا وعضات يتحتم وضعها نصب أعيننا حتى نتجنّب دكتاتورية جديدة، تشرعن لنفسها باسم مقاومتها للنظام المستبد. من نافلة القول أن في الاختلاف تكامل "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ "[4]، فلنجعل علاقاتنا عضوية لنكوّن وحدة حية قادرة على النّمو، فلننظر لأنفسنا "وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ"[5] ونتأمل في اختلاف أعضاء الجسد الواحد كيف تعمل في انسجام وتكامل لتكوّن بالنهاية وحدة بيولوجية لا يستقيم وجودها ولا يستمر بقائها إلا في اختلافها.
إن قدر الإنسان العيش مع الإنسان في الداخل والخارج "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"[6] فالتعارف أتى هنا بمعنى التعاون على قاعدة تقوى الله التي لا تكون إلا بمخافته بحسن معاملة عباده الذين خلقهم ويحبهم ويحب كل من يحترم آدميتهم التي كرّمها خالقهم ويحافظ على كرامتهم بنشر العدل والمساواة بينهم ويتجنب إذلالهم واستعبادهم وتعطيل سيرورة حياتهم.
-----------
*) يمكن مراجعة مقالاتي في الغرض، المنشورة على موقع بوابتي.
1) المعهد الوطني للإحصاء بتونس ( [5-14 سنة: 15.8، 15-30 سنة: 20.0]. تحيين 2010)
**) سيصدر لنا قريبا كتاب بعنوان: الثورة والدولة، شرحنا فيه بإسهاب هذه النقطة.
***) "قفّافة" جمع "قفّاف" عبارة باللهجة التونسية الدّارجة تطلق على من يتملق ويتقرب زلفى من الحاكم.
2) سورة غافر الآية 29
3) سورة النازعات الآية 24
4) سورة هود الآية 118
5) سورة الذّاريات الآية 21
6) سورة الحجرات الآية 13
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: