د- صالح المازقـــي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 12391
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يمثل الشأن التونسي محور اهتمام كل التّونسيين، تتعدّد وجهات النظر، فلا تكاد تلتقي حتى تختلف، متأثرة بشخصية المتحدث وما تحمله في ثناياها من تنشئة اجتماعية وتكوين ورؤى وقراءات، تنصهر في مواقف محدّدة. لم تشذ أحاديث لقاءاتنا العادية، نحن زمرة من المثقفين، عمّا يشغل بال المجتمع بكل شرائحه وألوان طيفه السياسي.
في إحدى تلك الجلسات دار حوارنا حول موقف الجيش الوطني من الثورة وما بدا للوهلة الأولى، أنه وقوف على الحياد، الذي اعتبره البعض حيادا إيجابيا، متمثلا في عدم قمع الثورة والتّصدي للجماهير التونسية الثائرة؛ في حين ذهب البعض الآخر إلى أن حياد الجيش كان سلبيا لعدم استيلائه على السلطة وحكم البلاد وإعادة الأمن لمجتمع يمر بفراغ دستوري و"قانوني"من ناحية، حتى تهدأ النّفوس وتتهيأ (خلال فترة زمنية)، للعبور بسلام إلى شاطئ الديمقراطية من ناحية أخرى.
أحسست من خلال متابعتي في صمت للحوار الدائر بين الحاضرين بأن النّقاش قد عجز عن تخطي البعد التشخيصي للموضوع وبدأت الهوة بين المتحاورين تتسع حول نقطة الحياد، خاصة عند تساؤل البعض عن مصير البلاد لو أن الجيش قام "بانقلاب عسكري" على نظام تمكنت الثورة من فصل رأسه عن جسده؛ وهي فرصة استثنائية، فرطت قيادة الجيش العليا عن نفسها فرصة في استغلالها حتى يتحقق المثل الشعبي التونسي "إلّي في يِدُّ حجرة يرميها" في إشارة إلى صراع الأحزاب السياسية، الناشئة التي وصفها أحدهم "بالكثرة وقلّة البركة، كعظام الرأس"[1].
لم أتمالك عن التّدخل بعد أن بلغ الحوار مبلغه، لأقدّم قراءتي السوسيولوجية (كالعادة) للمسألة، دون انحياز لهذا الشّق أو ذاك. واستسمح القارئ الكريم في عرضها عليه للنقاش وإبداء الرأي وهذا ملخص ما قدمته.
لا يمكن للباحث المنصف تحليل الثورة التونسية دون البحث المعمّق في الدور الذي لعبه الجيش التونسي في إنجاحها (وهذا أمر بديهي)، ولأن المقدمات تكشف عن النتائج، كان واضحا خروج الجيش التونسي عمّا اعتبره عديد المحلّلين، تقاليد حياد العسكر في تونس. قد يستند هذا الرأي إلى الانزواء الملحوظ للعسكر عن الحياة السياسية في البلاد لعقود طويلة، لازم فيها ثكناته واكتفى (في نظر العامة) بالمساهمة في انجاز عديد المشاريع المدنية، مثل تهيئة منطقة "رجيم معتوق" في أقصى الجنوب أو تعبيد الطرقات… الخ.
لقد دعم غياب الجيش عن بداية أحداث الثورة فكرة حياده في الصراع الدائر بين النّظام والمجتمع الثائر، غير أن الوقائع تثبت العكس تماما. فمنذ لحظة خروج العسكر إلى الشارع التونسي وإعلان حظر التّجول عشية 14 جانفي 2011 على كامل تراب الجمهورية، فضّلت القيادة العليا للجيش التونسي عدم التصادم مع الشعب وتمردت على أمر قمع الثورة، الصادر عن أركان النّظام المخلوع. كانت تلك أولى علامات انحياز الجيش للثوّار ونصرتهم للحركة الشعبية وتأييد الإطاحة بالسلطة الحاكمة والمساهمة في قطع رأسها.
إن المتأمل في سلوكيات الجيش الوطني يمكنه أن يلمس شدّة احترامه لمبادئ الجمهورية ومدى وعيه وتمسّكه بالدولة. لقد تعاملت المؤسسة العسكرية مع أحداث الثورة التونسية بيقظة شديدة، إذ حافظت على فاعليتها وأثبتت وجودها، بمراقبة تطورات الوضع العام، تقرأ قراءة صحيحة المسار الثوري، في نفس الوقت، كانت على أهبة التّدخل الفعلي، إذا هدّد الثّوار الدولة في وجودها. لقد كان الجيش راعيا أمينا وحارسا مخلصا للدولة الوطنية ولشعبها ولشهدائها. حملت مواقفه إشارات "مشفّرة" للثائرين، الذين تمكنوا من فك رموزها. أفصحت قراءة رسالة الجيش المشفّرة على ما يلي:
1/ السماح للثوّار وتشجيعهم على التّخلص من نظام أساء للمدنيين والعسكريين على حدّ سواء، بالإقصاء والتّهميش، طيلة عقدين من الزمن. أهدى الثوّار للجيش فرصة التّخلص من سلطة شلّت دوره وقلصت عدده وخفضت مستوى تسليحه، لفائدة قوات الأمن الداخلي، التي ضاعف النّظام أعدادها وطوّر تسليحها فتعاظم دورها إلى حدّ التّورم، في المقابل ردّ الجيش الجميل للثوّار، فقدّم لهم عطاء مقابلا، الثأر من حاكم (هدر كرامته) ونهب ثروته واستباح حرماته.
هبة بهبة، وهدية مقابل هدية وعطاء بعطاء، إننا في صلب نظرية "مارسيل موس"(2) حول الهبة والهبة المقابلة، "La théorie du don et du contre don" وهي نظرية سوسيولوجية تعتبر الهبة أمرا ضروريا لاستمرار الحياة الاجتماعية للبشر وخلق حالة من التوازن الاجتماعي بين الأفراد. يقول "برونو كارسنتي": " كي تؤدي الهبة أو الهدية وظيفتها الاجتماعية، لا بدا أن تتوفر فيها ثلاثة عناصر أساسية، أولا: الإحساس بواجب تقديم الهبة [[l’obligation du don، ثانيا: واجب تقبّلها [l’obligation de recevoir le don] وأخيرا واجب ردّها بهبة مساوية لها أو أحسن منها [[l’obligation de le rendre... حتى لا يشعر الواهب بالاستعلاء على متلقي الهبة من ناحية ولا بالإهانة إذا تمّ رفضها من ناحية أخرى، أما وجوب ردّها فهو إشارة إلى تكافؤ وندّية المتلقي ومساواته بالواهب، ليحل التوازن بين الطرفين ولا يعلو أدهما على الآخر"[3].
لقد تبادل الثوّار والجيش الهبات، من زاوية سوسيولوجية وأنثروبولوجية، بادرت الجماهير الثائرة بتقديم هدية للجيش، تمثلت في إزاحة وخلع رأس النّظام دون أن يُتَّهَم العسكر بالانقلاب عليه؛ وتلك هبة ثمينة قَبِلَها الجيش ورحب بها فنزّهته آليا ورَفَّعَتْهُ عن لوثة الانقلابات، التي أصابت جيوش العالم الثالث وفي طليعتها جيوش الدول العربية.
ردّ الجيش على الهبة التي أهداه إياها الشعب، بهبة/هدية مقابلة، عادلتها في القيمة، إذ أحجم على التّدخل بين طرفي الصراع، ليبقى ماسكا العصا من وسطها، عملا بالمثل العربي "الخير بالخير والبادئ أكرم"، أمّا موقفه من النّظام المتهاوي، فقد أقامه على النصف الثاني لهذا المثل "الشّر بالشّر والبادئ أظلم".
2/ رسم الجيش خطا أحمرا أمام الهيجان الشعبي، حين بادرت قواته بحماية المؤسسات السيادية للدولة، مثل الوزارات والسفارات الأجنبية والبنوك وغيرها… إضافة إلى مشاركة قياداته العليا في تسيير دفة الحكم في ظل الضعف الملحوظ للدولة، التي أحاطها بالرّعاية اللائقة بها بما يمليه عليه واجبه الوطني. الأنظمة زائلة والدولة بجميع مؤسساتها والشعب باقيان، هذه أبرز علامة تؤكد انحياز الجيش اللامشروط للثورة وللدولة في نفس الوقت. لسائل أن يسأل، ما الذي منع الجيش من الانقضاض على الدولة بكل مكوّناتها ومؤسسات وأجهزتها والقيام "بالتوازي" بقمع الشعب وفرض قانون الطوارئ كما هو الشأن في بعض الدول العربية ويبتكر إن لزم الأمر قوانين جديدة (وهو قادر على ذلك) ؟
التقى الجيش الوطني والشعب التونسي على أرضية أخلاقية صلبة، يوحّد بينهما حب وتقديس الدولة الوطنية، فكان سعيهما مشتركا في المحافظة على انجازاتها التي هي في نفس الوقت مكاسب لهما على حدّ سواء. هنا تكمن الإجابة الموضوعية على السؤال السابق. إن ما حققته الدولة الوطنية منذ تأسيسها في منتصف القرن العشرين من انجازات مادية ومعنوية، كانت بشكل مباشر وراء قيام الثّورة وأحد أبرز عوامل نجاحها. ما كان للجيش الوطني أن يسمح (لكائن من كان) بهدمها وإعادة بنائها.
لقد ساهم الجيش التونسي في تحقيق إيجابيات الدولة الوطنية (دون الخوض في سلبياتها) التي نجني ثمارها اليوم… بناء مجتمع موّحد، خال من النّزعات الطائفية و/أو المذهبية، تكوين مجتمع تونسي للأنثى فيه نفس حقوق الذكر، فكان كليهما متحررا، متمكنا من العلوم المتطّورة، منفتحا على ثقافات العالم، متمسكا بأصوله، محافظا على هويته، مدافعا على وجوده بعقل سليم في جسم سليم.
إن احترام مفهوم الدولة في عقيدة الجيش الوطني والمجتمع التونسي، سجية رئيسية في اللاوعي الفردي والجماعي؛ وهو ما يسميه "بيار بورديو" الهابيتوس Habitus(4). لقد أمّنت هذه السجية للدولة بقائها وضمنت استمراريتها وحمتها من التّطاول على شخصيتها والتجرؤ على قدسيتها. كانت لحظة تاريخية فريدة من نوعها، تلك التي غلب فيها الرّشد ونشط فيها العقل وفُعِّلَتْ فيها الحكمة، في الوقت الذي ضعفت فيه الدولة وفقدت جزء كبيرا من مناعتها، حتى بدأت كفريسة سهلة ولقمة سائغة. لحظة احتضن فيها المدني والعسكري الدولة التونسية فحافظا على هيبتها وقدسيتها؛ واليوم يعمل كلاهما على أن تستعيد عافيتها ونظارتها وقوتها حتى تكون قادرة على ردّ الجميل لأصحابه، بالسّهر على احترام القانون وتطبيق العدالة والمساواة بين الأفراد والجهات في مناخ ديمقراطي يضمن للجميع حقوقهم والقيام بواجباتهم.
كتب جيشنا الوطني بأحرف من ذهب، صفحة من التاريخ السياسي والاجتماعي لتونس الحديثة، فاستجاب لإرادة الجماهير الثائرة وساعد على تحقيق رغبتها "الشعب يريد إسقاط النّظام"، صيحة أطلقتها حناجر المضطهدين، فرددتها الرّوابي والسهول وأرجعت صداها الأودية والأنهار وحلقت فوق القمم الشمّاء، لتشقّ كبد السماء… فاستجاب القـــــــــــدر..! هنا، اكتفت الجماهير التونسية الثائرة بتحقيق شعارها، تحت عيون الرّقيب الساهرة (عيون الجيش)، دون الذّهاب إلى أبعد من ذلك و/أو التّفكر في القضاء على الدولة، فلم يرتفع صوت واحد مردّدا أو مطالبا "الشعب يريد إسقاط الدولة"، لمَ تحلّى به الحسّ الثوري من قدرة التّمييز بين المقدس (الدولة) والمدّنس (النّظام).
واصلت حديثي الذي لم يقاطعه أحد قائلا:
اعتقد أنّ قوى اليسار من ماركسيين وشيوعيين في تونس وفي العالم لن تغفر لهذه الثورة النّقية ما يعتبرونه هدرا لفرصة تأسيس دولة "البروليتاريا" والقضاء على دولة الوصاية والتّبعية وسماسرة الغرب. إلا أن ما فات هؤلاء أن "الطبقة الكادحة" التونسية ونتيجة لأسباب موضوعية، كضعف التّصنيع وغياب بورجوازية/رأسمالية وطنية، بقيت طبقة هشّة، لم تمكنها هشاشة تركيبتها البنيوية من خوض صراع طبقي، صريح ومفتوح، ضدّ العصبية الإتنو- مالية[5] المهيمنة على السلطة في تونس لعقود. إن مكانة (الطبقة الشغيلة) في الساحة السياسية التونسية لا تتعدّى مكانة شريحة كادحة ذات تقاليد نقابية ثابتة، لن تؤهلها لانتزاع السلطة وإقامة دولة وإرساء شرعية، في زمن تلاشت فيه وتفككت كل المفاهيم الماركسية غربا وشرقا. لقد شكل عمّال المناجم على مر السنين نواة التّمرد على السلطة، وما انتفاضة عام 2008 التي تصدّى لها نظام الرئيس المخلوع بكل وحشية، إلا دليل على سيرورة التّمرد، الذي تقابله السلطة في كل مناسبة بالقمع العنيف ويبقى الصراع سجالا بينهما؛ دون انتصار أحدهما على الآخر. شرفاء الحوض المنجمي؛ وهم على ما هم عليه من وعي سياسي وتاريخ نضالي عريق لم يفلحوا في كسر شوكة سلطة تهادنهم مرّة وتضطهدهم مرّة.
الثورة ثورة أو لا تكون. هي ثورة على أكذوبة السلطة بحماية الدولة وصيانة هيبتها، التي شرعنت للعنف الأمني، فارتكبت باسمها (أي الدولة) أبشع الانتهاكات وأفظع الجرائم. إنّ قيام الثورة صعب ونجاحها أصعب وصيرورتها محفوفة بالمخاطر على المستويين الدّاخلي والخارجي؛ وهذا ما تفطن إليه الجيش الوطني وعمل جاهدا على حمايته. لا يزال الصراع بين الثورة وقوى الشدّ والتّثبيط طويلا ومحتدما، فالرجعية المحلية والقطرية والعالمية لن تدّخر جهدا لإجهاض هذه الثورة النّقية من شوائب الإيديولوجيات الغربية والشرقية ووأد الحلم الجماعي بالحرية والعدالة والمساواة.
ثورة الكرامة التونسية والعزّة العربية، في عين الإعصار والأحرار (في مقدمتهم جيشنا الوطني) هنا وهناك يتصدون ببسالة ورباطة جأش لكل مؤامرة مكشوفة كانت أو خفية. إنّ المتآمرين على الحرية كثر لكن الشرفاء أكثر. لقد عصت قوى التّحرر في العالم العربي أُولِي الأمر[6] فشقّت عصا الطاعة في وجه الطغاة وحطمت أصنام جبابرة، طأطأت لها الرؤوس وركعت أمامها الهامات وسجدت لها الجباه، أما من أبت نفسه إعلاء "هبل"(7) وتسبيح "صهباء"(8) فقد سحقت عظامه وجيء بأجله قبل الكتاب (9). تقف اليوم الثورة التونسية والثورات العربية أمام تحديات وجودية، أصبح التّصدي لها فرض عين، لقوله تعالى: " كُتِبَ عَلَيْكُمْ الِقَتالُ وَهْوَ كُرْهٌ لُكْمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهْوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَحِّبُوا شَيْئًا وَهْوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونْ"[10].
فتحية إكبار وتقدير من القلب إلى قواتنا المسلحة على مختلف رتبهم، لمَ قدّموه لشعبهم وللثورة وتحية خاصة إلى أركان جيشنا الوطني على ما أبدوه من حكمة وحنكة ووفاء.
الإحالات:
(1) مثل شعبي تونسي، تحمل صياغته مدلوله.
(2) مارسيل موس، أنثروبولوجي فرنسي ولد عام 1872 وتوفي سنة 1950، صاحب نظرية تبادل الهدايا أو الهبة.
(3) Bruno KARSENTI, L'Homme total. Sociologie, anthropologie et philosophie chez Marcel Mauss, PUF, 1997.
(Bruno KARSENTI) sociologue et philosophe français.
(4) السجية أو التّطبع أو الخلقة كلها كلمات مرادفة لمفهوم الهابيتوس عند عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو (1930- 2002) ، الذي يفسر العلاقة بين التنشئة الاجتماعية وأفعال الأفراد بالتّطبع. وهي وضعية تتكون في الواقع المعيش من قبل كل التدابير وأنماط العمل والإدراك، التي يكتسبها الفرد من خلال تجربته الاجتماعية. فبواسطة التنشئة الاجتماعية ومساره الاجتماعي يكوّن الفرد سلوكياته القائمة على التفكير والشعور والتصرف في المواقف بشكل مستديم. يعتقد بورديو أن هذه الأحكام هي مصدر للممارسات المستقبلية للأفراد.
(5) انظر كتابي، ثورة الكرامة عن الدار المتوسطية للنشر. جوان 2011.
(6) سورة النساء، الآية 59 "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".
(7) إحدى آلهة العرب في الجاهلية.
(8) آلهة أسطورية في كتاب: السّد للأديب التونسي محمود المسعدي.
(9) إشارة إلى الآية 38 من سورة الرعد " لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ".
(10) سورة البقرة، الآية 216
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: