د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 11099
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
من المؤسف والمحزن جدّا أن ينقف بيض العروشية في تونس الثورة يوم الخميس 2جوان 2011 ويتحوّل فرخها إلى وحش كاسر في الليلة الفاصلة بين السبت 4 والأحد 5 من نفس الشهر والسنة، مخلفا وراءه قتلى وجرحى وخسائر مادية وأخرى أدبية في تونس ثورة الكرامة والمساواة وهي بمثابة جرح غائر في جسم وطنية متداعية، نتيجة إهمال ولا مبالاة حاكم لا همّ له سوى جمع المال وتكديس الثروة على حساب بلد وظّف كل طاقاته للتنمية والخروج من التخلف. وإني أحسب سكوت المثقف التونسي عن أحداث مدينة المتلوي الأخيرة خيانة وطنية لا مبرر لها والبلاد تمر فترة تاريخية شديدة الخطورة، تتميز بكسر الصمت الجماعي وتجاوز الخوف. علينا جميعا أن نوحد جهودنا لتفادي مستقبل ينبئ بمخاطر "صراعات أهلية وتناحرات جهوية" تعيدنا إلى الوراء وتقضي على مسار ثورتنا التي قدّم من أجلها شبابنا دمه رخيصا في سبيل تحررنا من نير الاستعباد والمهانة والذّل.
كرامتنا المسترجعة أخيرا لا تحتمل النزوات الشخصية ولا تتحمل النزعات العروشية. ومن موقعي كأستاذ جامعي متخصص في علم الاجتماع لا يسعني إلا أن أصدع برأيي، باحثا ومحللا لخفايا آليات الاضطرابات الدموية الأخيرة التي عاشها أهلنا في المتلوي الجريح. لقد كان أسبوعا مظلما في بداية الثورة التونسية الفتية التي لم تجف دماء شهدائها بعد، نتيجة غباء البعض من أبناء "أم الثورات العربية" المهددة بنكوص هؤلاء على أعقابهم والارتماء في أحضان مصلحية ضيقة وأنانية متبلّدة، تتلاعب بها أيادي مجذومة لا تستحق إلا البتر قبل أن يتفشى داؤها في جسد الأمة.
طالعتنا الصحف الوطنية، المكتوبة منها والمرئية والمسموعة بنعوت وأوصاف لأحداث المتلوي خالية من كل مرجعية علمية دقيقة، فبعضها كتب عن صراع قبلي، كما جاء في جريدة (لابراس) تقول نقلا عن شاهد عيان آثر التستر على اسمه:" شاهد على ساحة المعركة… بين 'الجريدية' و'أولاد بويحي' قبيلتان كبيرتان…"[1] كذلك فعلت محطات تلفزيونية عربية مثل (قناة العربية) حين نسبت ما جرى إلى "… تجليات الانتماء القبلي الذي يميز مختلف مناطق تونس، وهذا الانتماء له جذور تاريخية…"[2]. "، في حين تحدث بعضها الآخر عن صدامات عروشية… الخ. هذا إلى جانب تحاليل مسطحة، ابتهج أصحابها بظهورهم لدقائق وربما لثوان معدودة على شاشات التلفزات التونسية، دون تدقيق لغوي وإبستيمولوجي في مفهوم القبيلة. أمام هذا الخلط الدلالي في استعمال عديد المصطلحات، أشعر بضرورة تحديد بعض المفاهيم/المفاتيح التي كثر تداولها، كمفهوم القبيلة والعرش للتفرقة بينهما، حتى تتضح في ذهن القارئ معانيها وتوّضح له دلالاتها، لنقترب موضوعيا من فهم حقيقة ما جرى في مدينة.
يتمتع مصطلح القبيلة بعمق سوسيولوجي وأنثروبولوجي ضاربين في تاريخ البشرية وقد تلازم مع بني الإنسان، ليميزهم عن المخلوقات الأخرى. يقابله في اللغة الفرنسية مفهوم [La tribu[3 ، وقد عرفت أوروبا القديمة المجتمع القبلي، ولعل أقدمها جميعا قبائل الغال أو الغول أصيلة وسط أوروبا وهي قبائل عاشت خلال الفترة الممتدة من القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرن الأول قبل الميلاد، كما نذكر قبائل الوندال ذات الأصول الجرمانية، التي هيمنت على أجزاء كبيرة من أوروبا, يحدد المؤرخون ظهورها في القرن الأول ميلادي واستمر بقاؤها إلى القرن الخامس ميلادي، كذلك قبائل الفايكينغ المنحدرة من الدول الاسكندينافية (الدنمارك والنورويج والسويد) التي عاشت ما بين القرنين الثامن والتاسع ميلادي وغيرها كثير… كما عرف العرب قبل وبعد الإسلام حياة قبلية زاخرة، دونت أشعارهم (أ) خصوصيات تلك الحقبة التاريخية. نذكر على سبيل الذكر لا الحصر البعض من أشهر قبائل العرب: الأزد، بنو تميم، عبس، خزاعة، الأوس والخزرج، تغلب، قحطان، طي وقريش… وهذه حقيقة سوسيولوجية أقرّها القرآن الكريم في وصفه للمجتمعات الإنسانية في قوله تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"[4].
من هذا المنطلق، نجد أن أقدم التعريفات التي حددت مفهوم القبيلة في العصر الجاهلي ما جرى على لسانهم قولهم، القبيلة هي "مجموعة من اللاعبين الذين اجتمعوا تحت راية واحدة لتحقيق هدف "[5] وجاء في لسان العرب" القِبيلةُ هو الحيُّ العظيم الذي يقوم بنفسه، ينفرد بِظَعْنِها (ترحالها) وإِقامتها ونُجْعَتِها، وهي من الإِنسان الصدر والقبيلة مجموعة من الناس هم بنو أب واحد". يعتبر هذا التعريف من التعاريف الحديثة التي تقول:" القبيلة هي جماعة من الناس تنتمي في الغالب إلى نسب واحد يرجع إلى جد أعلى، وتتكون من عدة بطون وعشائر. غالبًا ما يسكن أفراد القبيلة إقليما مشتركًا يعدونه وطنًا لهم، ويتحدثون لهجة مميزة، ولهم ثقافة متجانسة أو تضامن مشترك (أي عصبية) ضد العناصر الخارجية على الأقل"[6]. يمكن وصف هذا التعريف بأنه بنيوي/وظيفي، باعتماده على البعد الهيكلي للمجتمع واعتبار القبيلة أهم بنية فيه، إلى جانب العامل الوظيفي الذي تحدده مجموعة الوظائف المتنوعة التي تؤمنها القبيلة لأفرادها وأسرها وعروشها وبطونها وأفخاذها، نتيجة نقاء رابطة الدم وصفاء العرق. ولا يؤخذ في هذا المجال عنصرا النّسب والمصاهرة في المعايير القبلية إلا من ناحية التحالف. وكانت القبيلة العربية (ولا تزال)، لا تعترف بانتماء أبناء البنت المتزوجة خارج رابطة الدم، لانتسابهم إلى قبيلة أبيهم، وفي الغرض أنشدوا قائلين:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ۞ أبناؤهن أبناء الرجال الأباعد
غير أن المستشرق، الجزائري المولد والفرنسي الجنسية (جاك بارك (ب) Jacques BERQUE) وبحكم مولده ونشأته في مجتمع عربي مسلم، كان أكثر حذرا من غيره في تعامله مع مفهوم القبيلة، إذ أكد على "ضرورة إدراجه ضمن صيرورته التاريخية ضمانا للتخلص من نمطية التعريف المسطح وربط الظاهرة القبلية بمتغيرات تاريخية تتحدد أساسا من علاقتها (أي القبيلة) بالدولة ضمن شبكة من التفاعلات التي يرسم معالمها مدى التصاق القبيلة بموطنها الجغرافي"[7](بتصرف).
ويضع بعض علماء الاجتماع في الغرب شرطين لقيام القبيلة كوحدة اجتماعية، أولهما الاستقرار في حدود جغرافية تكون معلومة لدى الجميع، تضمن للقبيلة بنيتها التحتية وتميزها عن غيرها من القبائل المجاورة؛ وثانيهما وحدة الإدراك والفكر والعاطفة؛ فالتقاء الشرطين يكون مدعاة لاجتماع وتآلف الأسر ومنها العشائر لتكوّن مجتمعة قبيلة. ومما يجدر التنبيه إليه، أن العامل الجغرافي لم يشكل مانعا في هجرة وانتقال بعض العشائر "العروش" بعيدا عن موطنها الأصلي مع محافظتها على عصبيتها التي هي عنوان انتمائها القبلي وضمان نصرتها وبقائها.
أما العشيرة وتسمى في تونس بالعرش "Le clan"، فهو بنية أقل حجما من القبيلة، تتألف من مجموعة من العائلات العريضة يضمها زمان ومكان محددين، تجمع بينها رابطة الدّم وتنتسب إلى قبيلة واحدة. يلبّي العرش العديد من حاجيات أفراده الأساسية ويعجز عن توفير الحماية لهم إلا من خلال القبيلة، التي تضم في تركيبتها إلى جانب العروش، هياكل اجتماعية مثل البطون والأفخاذ، التي تؤلف مجتمعة قبيلة. أما انضمام مجموعات من القبائل إلى بعضها البعض فيكوّن شعبا.
لقد فقدت القبيلة في المجتمع التونسي المعاصر كل مقوماتها البنيوية وتخلت قصرا عن جميع وظائفها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بفضل سياسة التحديث التي تزعمتها الدولة الوطنية مع بداية الاستقلال. لقد تلاشي دور القبيلة وانمحت مكانتها واندثرت مختلف وظائفها من الوعي الجمعي لدى التونسيين وحلت محلّها الدولة العصرية بكل مؤسساتها، لتعمّم التعليم وتحرّر المرأة، فاختلطت الأنساب وامتزجت الدماء وهاجر أبناء القبائل مواطنهم الأصلية ليستقروا في الحواضر؛ فسقطت القبيلة وسقطت معها عصبيتها، وهو ما أكد عليه "ابن خلدون" بقوله:"هذا إلى ما لَحِقَ هؤلاء العرب أهل الأرياف من الازدحام مع النّاس على البلد الطّيب والمراعي الخصبة، فكثر الاختلاط وتداخلت الأنساب… ثم وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم وفسدت الأنساب بالجملة وفقدت ثمرتها من العصبية… ثم تلاشت القبائل ودَثَرَتْ فدثرت العصبية بدُثُورِهَا…"[8].
لئن فقدت القبيلة في البلاد التونسية فاعليتها التاريخية في التعامل مع التاريخ الحديث لتحل محلها الدولة في بعدها الوطني وتنتزع منها كل أدوارها التقليدية في تدبير المعيشي البسيط إلى الإستراتيجي/السياسي المركب، مرورا بالإيديولوجي والثقافي، كما حولت الدولة شعور الأفراد بالانتماء لجذورهم القبلية وشكلت كل أحاسيسهم وإيمانهم بقبائلهم إلى شعور وطني موحد، شديد التأثير في النّفوس، جماعات وأفراد انضووا تحت رايتها عن وعي وقناعة وصدق إيمان.
لا يمكن لكائن من كان أن يشكك في وطنية سكان الحوض المنجمي ولن يكون بوسع الجاحدين أن ينكروا على أهالي تلك المنطقة تاريخهم النضالي وتقاليدها النقابية. هذا لا يمنع وجود عدم تجانس اجتماعي يميّز تركيبتها السكانية، حيث يجتمع فيها لفيف من الأسر والعروش الذين وفدوا على المنطقة منذ اكتشاف مناجم الفسفاط على يد البيطري الفرنسي فيليب توماس بقفصة خلال بحوثه الاستكشافية في أفريل من سنة 1885 بين جبل الثالجة ورأس العيون. ولولا هذا الاكتشاف الذي استرعى اهتمام رؤوس الأموال من المستعمرين الفرنسيين، المقيمين بتونس وخارجها، والذين بعثوا في باريس (سنة 1896م) شركة الفسفاط والسكك الحديدية بتونس، لاستغلال منجم المتلوي (سنة 1899م) ومنجم الردّيف (سنة 1904م) وتلاه منجم أم العرائس (سنة 1905م) ثم في (سنة 1920م)؛ كما أنشاء الفرنسيون الشركة الجديدة لفسفاط جبل المظيلة واستغلال منجمها، لخلت تلك الصحاري من البشر، وبقية مراعي لإبل تجّار أهل الجريد الذين كانوا يؤمنون التجارة الصحراوية بين مدينتي توزر وتمبوكتو في مالي. فالجفاف وطبيعة الأرض الجبلية المتميزة بصخورها الصلدة الجرداء وقلّة المراعي، كل ذلك جعل الإنسان يهجرها إما باتجاه مدينة قفصة وواحاتها وحدائقها الغنّاء أو باتجاه واحات الجريد، حيث الماء والكلأ وطيب العيش.
فلولا اكتشاف الفسفاط لمَ تكونت التجمعات السكنية، ابتداء من مركزها "مدينة المتلوي" إلى تخومها "الردّيف" و"أم العرائس" و"المظيلة" التي تجمع بينها سكة الحديد التي أنشئت لنقل الفسفاط إلى ميناء مدينة صفاقس ومنه إلى فرنسا. على هذا الأساس يمكن القول بأن العمالة الوافدة على الحوض المنجمي منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى الآن هي امتداد لقبائل وليست قبائل، ولعلنا نعتبرها عروش نزحت من مواطنها الأصلية لتستقر بجهة جاذبة ومستقطبة لليد العاملة وقد تجمعت في أحياء سكنية على شكل عروش، حافظت في مجملها على ولاءات قبلية/جهوية، امتزجت بوطنية، صادف أن ضعفت وترهلت في الآونة الأخيرة بالتوازي مع ضعف عام للدولة.
إضافة إلى كل ما تقدّم، شاءت الظروف أن تلعب العصبية القبلية دورها "التقليدي" كما وصفه "ابن خلدون" (ت) في الثورة على الحاكم ونجحت في الإطاحة بقمة هرم السلطة اجتثاث أركان الدولة المنهارة وفي مقدمتها الحزب الحاكم. يبدو واضحا من الأحداث المتكررة بالبلاد وآخرها ما حدث في المتلوي. إن النزعة العروشية تحاول هي الأخرى كسب جولة أمام الحكومة المؤقتة وقد أنست فيها شيئا من المرونة وقلّة الحزم في التعامل مع القضايا الأمنية.
في مسار تاريخي معاكس للصيرورة الثورية من ناحية وتضاد صارخ مع وطنية التونسيين، بما فيهم أهالي المتلوي نفسها، الذين لم يتوانى شبابهم في تقديم أرواحهم فداء لكرامة الوطن وحرية المواطن، تأتي أحداث مدينة المتلوي، معاكسة لمدها الثوري ومتناقضة مع تقاليدها النضالية. أ من أجل توزيع بعض مواطن الشغل بشركة فسفاط قفصة، بطريقة الحصة التناسبية، حسب عدد سكان كل مدينة وليس حسب عدد أفراد أو أسر العروش المتعايشين في المنطقة، يخرج مارد العروشية من قمقمه، ليزهق الأرواح وينتهك حرمات البيوت؟ أي منطق هذا الذي توخته العروشية البغيضة في التعامل مع مبدأ المساواة الذي تبناه الرئيس المدير العام الجديد المعيّن بالتوافق مع جميع الأطراف؟ من الخطأ العلمي أن يسأل الباحث المتخصص في العلوم الاجتماعية عن حكماء و/أو عقلاء العروش، ذلك لأن العروش لم تكن عبر تاريخها مستقلة عن القبيلة، موطن الزعامة والحكمة، وهي التي تضمن مجلس شيوخ القبيلة للشورى (البرلمان) وهو مجلس يلتئم لفكّ النّزعات بين الأفراد وبين الأسر والعروش، وله من القوة المادية والمعنوية ما يخول له تطبيق الأحكام الصادرة عنه.
في مثل الأوضاع التي تمر بها تونس اليوم وفي ظل ضعف الدولة المركزية وارتباك السلطات الجهوية إلى جانب اندثار القبيلة لن يتمكن"أعيان" الجهة ولا وجهاؤها نظريا ولا فعليا من فرض منطق العقل على العرشين المتنازعين، نتيجة التفاف الدولة واستحواذها لكل وظائف شيخ القبيلة وإسنادها للزعيم الأوحد وهو ما أطلقت عليه اسم "الأب/الإله "Le patriarche divin". هذه الحقيقة السوسيولوجية، أكدتها لنا جريدة "الصحافة" في مقال بعنوان " مجلس الصلح في المتلوي لم يسفر عن اتفاق" جاء فيه مايلي:" محاولات الصلح بدأت بتدخل أطراف من مدينة أم العرائس للصلح و بموافقة نخبة من المثقفين من كل العروش المتنازعة. وقد اجتمع ممثلون عن الجهتين المتنازعتين مساء الأحد في «جامع البركة» بالمتلوي وليس بمنزل عمارة عباسي كاتب عام الاتحاد الجهوي للشغل بقفصة كما قيل، وتم هذا الاجتماع بحضور نقيب في الجيش الوطني أوفده والي قفصة. وحضر اجتماع الصلح ممثلو أولاد بويحيى بالمئات في ما لم يتجاوز عدد ممثلي بقية العروش 15 فردا. وحسب شهود عيان حضروا الاجتماع فإن ممثلي أولاد بويحيى لم يتحدثوا عن الصلح بل كان شغلهم الشاغل الاستحواذ على ٪65 من نسبة التشغيل في الشركة رافضين بذلك المناظرة.
هذا الاجتماع عمته الفوضى لسيطرة أولاد بويحيى على الحوار و مطالبتهم بحقوق غير مشروعة باعتبار أن «البلاد بلادهم و الأرض أرضهم و هم أحرار» وتفاديا للمشاكل خير ممثلو بقية العروش عدم مناقشتهم و الصمت. و هذا لا يعني موافقتهم على الصلح إذا تمسكوا بمطالبهم التعسفية"[9].
لعل لقسوة البيئة وجفاف مناخ منطقة المتلوي تأثير في طباع عروش تلك الجهة، فغلبت الغلظة والفظاظة على سلوكيات البعض منهم، فلا يستسيغون لغة العقل وحكمته، فكانوا أميل إلى التّمرد على السلطة وعلى الضوابط والقيم الاجتماعية، فتجعل منهم شرائح اجتماعية مناوئة لكل انسجام وامتثال وطاعة. يتفاعل العامل البيئي/المناخي مع جملة من عوامل أخرى أهما:
1/ ابتعاد العروش عن مواطن قبائلهم الأم، سمح لهم أفرادا وجماعات، بالإفلات من رقابة القبيلة وحررهم من الهيمنة المادية والمعنوية لشيوخها، فاخترقوا الأعراف وتنطّعوا على السلطة.
2/ سكناهم النائية عن سلطة مركزية منهكة، سهل عصيانهم للأوامر وتمردهم على أجهزة أمنية مهتزة وفتور سياسي عام ميّز الفترة الانتقالية للدولة التونسية.
3/ ثورية اللحظة التاريخية الرّاهنة، غلّبت العاطفة على العقل في ترشيد سلوك الأفراد والجماعات، لقوله تعالى على لسان نبيه لوط عليه السلام: "أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ"[10]. في هذا السياق التاريخي (الثوري/العاطفي) المفتقد لقيادة ثورية قوية، انبرت "الأنا الجماعية" لدى بعض العروش ونصّبت نفسها قاضيا وجلادا، لفرض أولوية استحقاقها في التشغيل على بقية العروش، لتدخل معها في صراع دموي مباشر، ردّا على ما اعتبرته اعتداء على كرامة أفرادها وإهانة أصولها.
لقد شجعت الظروف السوسيولوجية والاقتصادية والسياسية للبلاد التونسية على ظهور العروشية في منطقة بعينها، ضعفت فيها الدولة وغابت عنها القبيلة؛ لتثأر -العروش- من بطش سلطة غاشمة، بتحقير أجهزتها الأمنية مجتمعة وشلّ يدها وكسر عصاها الغليظة. لقد حوّلت العروشية (لفترة قصيرة) السلطة من فاعل إلى متفرج على عربدتها والعبث بحرمتها والاستخفاف بهيبتها. لقد عايشنا خروج العروشية من سباتها السياسي، الذي أبقت فيه على نوى تمردها التاريخي حيّة، متوثبة، تترصد فرصة الانتفاض على السلطة المركزية وأجهزتها الجهوية، دون أن تتمكّن من إصابتها في مقتل.
لقد سلكت العروش خلال ستة عقود نهج إخوان الصفاء (ج) في العمل السياسي القائم على مبدأ "التّقية" والسبب في ذلك، افتقارها لعصبية قبلية و/أو زعامة سياسية توحّدها وتقودها وتدعمها ماديا ومعنويا، حتى تحوّل تمردها إلى انتفاضة ومن ثمة إلى ثورة، تكون قادرة على تغيير المجتمع والدولة. تلك مهمة تاريخية لا تقوى العروشية على تحمّلها، لتنوب القبيلة في القيام بدورها في بناء الدولة (حسب نظرية الدور الخلدونية). تتمتع القبيلة بالقدرة على خلق عصبية قادرة على القيام بالفعل الثوري. لقد شاهدنا بالعين المجرّدة خروج العصبية القبلية من عباءة وطنية -مثقلة بخيبات تنمية متعثّرة- لتسقط في سرعة متناهية، سلطة أصابها الوهن وانغمست في الملذّات وكنز الذّهب والفّضة.
أنجزت العصبية القبلية مهمتها التاريخية بنجاح لتعود مجددا تحت جناح الوطنية التي لا نرضى نحن "التوانسة" جميعا، ذكورا وإناثا، شيبا وشبابا، عنها بديلا. لقد ارتوى التونسيون من الوطنية حتى الثمالة وعشقوا البلاد حتى العبادة. ولا يخشى على وحدة الوطن من أحداث عابرة هنا وهناك كأحداث المتلوي التي لن يزيد عمرها عن عمر الفترة الانتقالية للدولة التونسية وعندها سيعلم الجميع أنها وطنية… لا عروشية.
------------
وقع التصرف في العنوان الاصلي كما وردنا، بالإضافة
محرر موقع بوابتي
الإحالات
1 ) La Presse, 7 Juin 2011 par M.H. ABDELLAOUI. Evénements de Métlaoui - Récit Douloureux d'Un Face à face.
2 ) مقتل 11 شخصاً وأكثر من 100 جريح في أحداث قبلية جنوب تونس alarabiya.net/articles/06/06/2011.
3) Tribu : agglomération de familles vivant dans la même région, ou se déplaçant ensemble, ayant un système politique commun, des croyances religieuses et langue communes et tirant primitivement leur origine d’une même souche. Larousse
أ) لمزيد الإطلاع يمكن مطالعة المعلقات
4 ) سورة الحجرات الآية 13
5 ) الصحاح في اللغة
6 ) موسوعة ويكيبيديا الإللكترونية
ب) Jacques BERQUE, né à Frenda (Algérie) le 4 juin 1910 et mort à Saint-Julien-en-Born (Landes) le 27 juin 1995, est un sociologue et anthropologue orientaliste français.
7 ) Jacques BERQUE. Les Arabes: L'Islam et nous, poche, 64 pages, éditions Mille et une nuits (1 juillet 1997). ISBN 2842050479 ISBN 978-2842050474
8 ) ابن خلدون، المقدمة، الفصل التاسع: في أن الصريح من النّسب إنما يوجد للمتوحشين في القفر من العرب ومن في معناهم. عن مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني، بيروت 1961.
ت) يمكن الإطلاع على كاتب صاحب المقال "ثورة الكرامة" الذي سيصدر قريبا عن الدار المغاربية للنشر 2011.
9) -الصحافة- 15-03-2011 حول الأحداث الأولى التي سبقت أحداث 2 جوان وراح ضحيتها 11 قتيلا.
10 ) سورة هود الآية 78
ج) إخوان الصفا وخلان الوفاء: هم جماعة من فلاسفة المسلمين العرب. عاشوا ونشطوا إبّان القرنين الثالث والرّابع هجريا ما بين بالبصرة وبغداد. يعتمد أسلوب عملهم السياسي على التّقية، أي التّخفي عن أنظار الأمير، إما بالعمل السرّي أو الانقطاع التّام عن ممارسة أي النشاط إلى حين انفراج الأوضاع بضعف الدولة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: