د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 10172
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يسعد موقع 'بوابتي' إنضمام الدكتورصالح المازقي، من تونس، للمساهمين بالنشر بالموقع، ونحن نرحب به وبإنتاجاته.
محرر موقع 'بوابتي'
--------------
قدرنا نحن "التوانسة" أن ننتقل من وصاية إلى وصاية أخرى وكأنّ الثورة لم تكن. هذا شعوري بعد الانتهاء من متابعة كل منبر حواري يتم بثه على مختلف القنوات التلفزية في تونس. ولعل ما دفعني إلى كتابة هذه الأسطر ما ختم به أحد ضيوف برنامج بثّ على شاشة إحدى القنوات في بلادنا مساء غرة جوان 2001 حول إشكالية تحديد موعد انتخاب المجلس التأسيسي، قال الضيف الكريم وهو من أساتذة القانون بالجامعة ما يلي:" تابع المشاهد حوارنا وهو محبّ للمجلس التأسيسي دون أن يعرف عنه شيئا وأنهى المشاهد الحوار وهو كاره للمجلس من غير أن يعلم عنه شيئا". بهذه الجملة التي هي على غاية من الأهمية والخطورة، لخص أستاذ القانون حوارا شاركت فيه نخبة مؤلفة من ثلاثة أساتذة جامعيين ومحاميا وصحفيا وكاتبا محللا سياسيا. جملة جمع فيها بين طرفي نقيض يتوسطهما قاسم مشترك وهو "عدم فهم المشاهد". وهنا يحق لي (كمشاهد) أن أطرح على الأستاذ وبقية الضيوف المحترمين، من المسؤول عن عدم فهم متابع الحلقة؟
في رأيي المتواضع، يتحمل مسؤولية عدم الفهم هذه معدّ البرنامج ومقدمته وجميع الضيوف. لماذا؟ ذلك لأن المواطن/المشاهد عموما، متلقي، متعطش لرسالة كان يأمل من خلالها توضيح مسالة مصيرية، تتعلق بشرح مصطلح قانوني (المجلس التأسيسي) وهو مفهوم لم تألفه أذن شباب تونس ونسيه شيوخها منذ سنة 1956، ليعيشوا عقودا طويلة تحت وصاية "الدولة الوطنية/الراعية"[ ] التي اختصرت كل مجالات الحياة العامة والسياسية على وجه الخصوص في فهمها هي، وتخطيطها هي، وتنفيذها هي، لكل التوجهات والخيارات المحورية التي غيّبت عنها (عمدا) الفرد والجماعة. في ذات الوقت ومنذ الأيام الأولى للاستقلال، انتهجت الدولة مبدأ الوصاية على مجتمعنا بجميع أطيافه وشرائحه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ متخذة من أجهزتها التّنفيذية، "المتوحّدة/المتفنّنة" على اختلافها وتنوعها بتنوع تخصصاتها، في أساليب القمع والقهر والإذلال والتحقير والتهميش والإقصاء الشامل لمحكوميها.
غير أن نهج الوصاية لم ينتهي بعد ثورة الكرامة، التي حطمت حاجز الصمت ودوّى فيها صوت الشعب مناديا بإسقاط النظام؛ والجميع يعلم أن الوصاية لا تمارس إلا على القاصرين من غير الراشدين و/أو على غير العاقلين من السفهاء والمجانين. منذ الأزل لم يكن شعب تونس قاصرا ولا سفيها، وقد أنجب من العلماء الأفذاذ والساسة العباقرة -قديما وحديثا- من أمثال "عبد الرحمان بن خلدون" والإمام سحنون[ ] أشهر فقهاء المالكية بالمغرب العربي، كذلك العالمين الجليلين"محمد الطاهر بن عاشور وابنه محمد الفاضل"[ ] ومن القادة السياسيين نذكر المرحوم "الشيخ عبد العزيز الثعالبي"[ ] والسياسي/النقابي الشهيد "فرحات حشاد"[ ] والزعيم الراحل "الحبيب بورقيبة (1903م/2000م)". كذلك من أبناء تونس من ذاع صيتهم في كل أرجاء الدنيا وخلّد التاريخ أسماءهم، من أمثال "الطاهر الحداد (1899م/1935م)" نصير المرأة وشهيد تحرّرها، إضافة إلى شاعر الحرية والخلود "أبو القاسم الشابي (1909م/1934م). إن الشعب الذي ثار على الإهانة وسوء المعاملة وكسّر قيود العبودية، مستلهما من تراثه الثوري في مقاومة الظلم والاستبداد[ ] لينطلق في فضاء الحرية والكرامة، لن يقبل مجددا بالوصاية من أحد، فله من الأفكار والرؤى ووجهات النظر "المعتّقة"، العقلانية، الصائبة، السديدة، المخزنة في لا وعيه الفردي والجمعي؛ أفكار لا تنتظر إلا حاكما أسقط استعلاءه على شعبه، بصيرا ومتبصرا بقضاياه، ملتحما معه، مشاركا له في الفعل دون وصاية ولا حماية.
من الملاحظ أن الواقع الثوري لم يتم استيعابه على الوجه الأكمل من قِبَلِ وسائل الإعلام التونسية، هذا ما لمسته من غياب شباب الجهات الداخلية الذين أشعلوا فتيل الثورة، عن منابر الحوار، خاصة على شاشات التلفزيون الوطني؟ فأين أولئك الذين فقدوا أقارب لهم وأقران، من مؤسسات الإعلام العامة والخاصة؟ أم أن آلية التهميش بدأت تعمل في أثواب جديدة؟ ليس بوسع وسائل الإعلام بعد الثورة، إلا أن تراجع مناهج تعاملها مع أبناء تونس، فالتركيز على المتعلمين والمثقفين من سكان العاصمة، لا يزيد هؤلاء إلا نرجسية وتعالٍ على مَنْ سواهم من المواطنين. من شأن هذا المنهج الإعلامي الانتقائي أن يسرّع سقوطنا جميعا في فخّ وصاية المثقف على المجتمع والثورة وهو أمر لا يقل خطورة عن وصاية الدولة، إن لم يكن أشد منها خطورة. أليس بإمكان منتجي البرامج التوعوية هذه، أن يجمعوا في منابر الحوار باقة من ألوان الشارع التونسي، فتكون عيّنة ممثلة لمجمل مكونات المجتمع، ذكورا وإناثا، شيبا وشبابا يمثلون كل الجهات وكل الفئات الاجتماعية والاقتصادية.
قد يساعد هذا المزج على تحقيق عدّة أهداف في الوقت نفسه منها:
1/ إتاحة الفرصة للمنسيين من أفراد المجتمع التونسي للتعبير عن مشاغلهم بأسلوبهم ومعرفتهم للأشياء.
2/ تدريب المثقف على التواضع بتبسيط النظريات العلمية وشرح المفاهيم لمحاوره والسير على خطى الضعفاء، لقول العرب (سيروا على قدر ضعفائكم).
3/ تجنّب تحويل منابر الحوار لساحات مبارزة فكرية ومجالات استعراض لتراكمية معرفية نظرية، (توحي بمناقشات الرسائل الجامعية)، قد لا تجدي في أغلبها نفعا في تحليل القضايا الشائكة التي يواجهها الواقع التونسي الجديد، الذي يبحث حلولا من صلب مكنونه وعمق إحساسه بمشاكله.
4/ تمكين المواطن من الارتقاء بمعرفته من البسيط إلى المركب ميدانيا وكأنه في درس تطبيقي، كي تنفذ المعلومة الصحيحة والفكرة الدقيقة إلى وعيه فتعمل على تصحيح الخطأ وتوضيح الغموض…
من واجب المثقف العضوي[ ] التونسي، بعد افتضاح وسقوط المثقفين التقليدين، ترسيخ الفعل التاريخي لدى التونسيين/الثوار الذين قدّموا بالفطرة، الفعل على الكلمة، متجاوزين في ذلك كل أصناف المثقفين.
هذه فلسفة التّنوير[ ]كما أراها في مختبر الواقع التونسي المعيش… تنوير يحتّم على جميع وسائل الإعلام أن تساهم من خلاله إلى إعادة كل تونسي وتونسية إلى مكانته ودوره في التاريخ والاقتصاد والثقافة والاجتماع… تنوير يقطع طريق أمام وصاية جديدة للدولة على شعب بلغت فيه نسبة التّمدرس %98 (ذكورا وإناثا) وتراجعت فيه نسبة الأمية إلى ما دون %20 من ناحية وتحميه من وصاية المثقف الذي يخوض على الملء "عنتريات" فكرية وسياسية من ناحية أخرى. لعلي أذكر كل المثقفين في بلادنا وإن تناسوا أنهم أول ضحايا التهميش والإقصاء والوصاية السياسية/المؤسساتية. لقد آن الأوان أن يقلع المثقف على وصف المواطن التونسي بـ"المواطن العادي" (وكأن المثقف "مواطنا خارقا").
يتجلى هذا الواقع الاجتماعي في عبارة أستاذ القانون المشار إليه في أول المقال، وهو يقرّ من حيث "لا يشعر" بفشل المثقف والمتعلّم في إبلاغ المعلومة، بعد أن عجز عن تبسيطها وتفكيك رموزها، حتى تغلغل في نفوس المشاهدين وتستقر في أذهانهم فتبني لديهم تصورات اجتماعية جديدة وتؤسس للسلوكيات الثورية المرتقبة. تمثل المعلومة الصحيحة والمبسّطة، أهم سلاح لحماية الثورة، إذا تمكّن منها غير المتعلِّم ونصف المثقف ليدافع بها عن ثورته، من المتربصين والمنافقين والمرجفين في المدينة[ ] والانتهازيين.
قد يسمح غرور بعض المثقفين لأصحابه استغفال "المواطن العادي/البسيط"، فيجازف ويستعير الأساليب النمطية لخطاب سياسي كان بالأمس مترفعا، متحجرا، مبهما، يخفي حقارة مستعمليه ممن "تورمت" نفوسهم وعميت بصائرهم قبل أن تعمى أبصارهم، فأقفلت قلوبهم وتحجرت "وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"[ ]. وها هو الآن يصف المواطن/المشاهد بعدم القدرة على الفهم، هذا الشاهد الذي أحب وكره دون فهم، وكأن المثقف يلعب على عواطف المشاهد (حب وكراهية) القابلة للتغيّير، أما عقله فبقي متمسكا بجهله. في مثل هذه الحالة، ليس في المتلقي بل العيب، كل العيب، في المرسل الذي لم يتعلم من ثورة (البسطاء) التواضع ونكران الذات، بالتخلص ولو قليلا من نرجسيته ويبادر لامتلاك أولى قواعد التخاطب والاتصال "خاطب الناس بما يفهمون".
إن لم ينفذ مبدأ المساواة والتواضع إلى نفوس المثقفين التونسيين لتعيد إليها صفاءها ونقاءها فيتصالحوا مع ذواتهم ويأنسوا في أنفسهم الشجاعة والجرأة على احتضان محيطهم الاجتماعي، الذي منه منشأهم وفيه مستقرهم ومستودعهم، فإن أزمة الشك المتبادل بين المثقف والشعب لن تنتهي وإن الهوّة بينهما ستزداد اتساعا، لأسباب عديدة أبرزها، الانقلاب تراتبية الأدوار وتفاضلية المكنات في مجال الفعل التاريخي الذي تفوّق فيه "العامة" على "الخاصة" و"العادي" على "المتميز".
لا يجب أن يحبط تقدم الفعل على الخطاب عزيمة المثقفين في تونس وفي الوطن العربي، إن الفرصة لا تزال متاحة أمام الجميع ليلتحموا مع الجماهير الثائرة، فيعبروا في دقة العلم وتواضع العالم وموضوعية المثقف عن مشاغل المسحوقين وهموم المعذّبين في الأرض. مهمة ليست باليسيرة إلا أنها ممكنة ومطلوبة، كي تتدارك الثورة التونسية والثورات العربية أهم نقيصة فيها، هي برأيي، تَعَطُّلُ العنصر الثقافي لعقود طويلة عن الفعل والذي إن دام غيابه سيكون وحده كفيلا بتعثر الصيرورة الثورية. ليسمح لي المثقف في عالمنا العربي بالقول بأن الثقافة هي بمثابة القلب في الجسد، فإن صلحت هذه المضغة صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله؛ كذلك الثقافة في المجتمع، إن هي صلحت، صلح المجتمع وإن اختلت، اختل باختلالها المجتمع. المسؤولية التاريخية ثقيلة وتحملها شجاعة وإهمالها جبن وتخاذل والسقوط على أرضها شهادة ورضوان.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: