د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7815
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لماذا يبخس البعض من المثقفين في تونس الثورة التونسية بوصفها بالانتفاضة؟ سؤال هو استنتاج خرجت به من عديد المناقشات التي حضرت بعضها وخضت بعضها الآخر مع عديد من الزملاء والأصدقاء، إضافة إلى بعض المطالعات التي يشكك أصحابها في ثورية الثورة التونسية. في نفس الوقت لاحظت من خلال تتبعي لنقاشات المثقفين في مصر مثلا بنعت ما نقلوه عنّا بالثورة، ونحن من أشعل فتيلها نتردد في اعتبار ما أنجزناه بالثورة.
بعيدا عن كل شوفينية أتساءل عن مصدر هذا النزوع لدى المثقف التونسي باستنقاص ما أنجزه رجل الشارع وأطرح على هؤلاء سؤال منهجي حول ما يسمونه بالثورة وبالانتفاضة. ما هو تعريفهم لكلا المفهومين؟ وللإجابة أطالبهم بالرجوع إلى التاريخ القريب، سنة 2008 والأحداث التي شهدها الحوض المنجمي، وإلى سنة 1984 تاريخ انتفاضة الخبز…الخ. ثم اسألهم لماذا لم يجرأ أحد على تسمية تلك الانتفاضات بالثورة؟
الثورة في بعدها السياسي هي كسر الواضع السائد والانتقال إلى وضع جديد قد يكون مع الأيام أفضل أو أسوء من سابقه. ورد تعريف كلمة الثورة لغويا في أشهر القواميس في سياقين: سياق التعريف الكلاسيكي الذي أفرزته الثورة الفرنسية (1789) وهو قيام الشعب بتغيير مفاجئ وعنيف للهيكلية السياسية والاجتماعية للدولة وانتزاع السلطة من بين يدي الحاكم، بقيادة النخبة المثقفة في المجتمع. أما المنحى الثاني، فهو أميل إلى مفهوم الانقلاب على الأوضاع السياسية والاجتماعية بآليات متنوعة، منها الجيش و/أو النقابات العمّالية أو زعامة تاريخية، تتغلب على السلطة الحاكمة في بلد ما، لتحقق لاحقا آمال وطموحات الجماهير، باعتبارها الأداة الفعلية في انجاز التّغيير. أما العرب فقد عرّفوا الثورة انطلاقا من فعل اشتقاقها، على أنها حالة من الغضب والهيجان والتوّثب . من الواضح أن تعريف الثورة في لسان العرب لم يهتم بحالة التّغيير ولم يمض بعيدا في ربط العلاقة بين الثورة والسلطة.
في عالم عربي يسوده التصحر الفكري (إلا من الفكر الغربي وبعض المحاولات العربية لإعادة قراء الوضع وتفعيل التراث) وغياب تام للقدوة السياسية والفكرية، تخرج الثورة التونسية على عالمنا العربي في ثوب ثوري - طال انتظاره-. لقد بوءة الثورة التونسية أهلها لقيادة العرب نحو التغيير ورفع الظلم عن الإنسان العربي. لم ينتظر رجع صداها كثيرا ليجد في مصر المجيب المتلهف لاسترجاع مكانة ودور رياديين في تزعم العرب وتوجيههم.
لقد أحيت الثورة التونسية حقيقة القومية العربية وقد صعقتها كهربائيا ذلك من حيث إبرازها للعمق الإستراتيجي للدول العربية بعضها لبعض. وليس من باب التفاؤل، إن قلت أنّ ما حدث في تونس هو اللبنة الأولى الفعلية/العملية لوحدة عربية مستقبلية، استشعر وأدرك الغرب عموما وأمريكا وإسرائيل قدومها، في حين لا نزال، نحن نناقش تصنيف الأحداث التي تمر بها الشعوب في الوطن العربي بمصنفات غربية أساسا. لعل افتقار المثقف العربي لأدوات بحث ذاتية، يكمن وراء عجزه عن إدراك الأحداث، بما جعله يتيه في البحث (المتعسّف) عن طريقة مقبولة فكريا، لإسقاطات من التاريخ العالمي على مجتمعات لها خصوصياتها المميزة.
فمهما بلغ نبوغ الباحثين العرب في خلق توليفة فكرية بين الإيديولوجيات الغربية لتفسير الثورات العربية، لن يتمكنوا برأيي، إلا في تحقيق شيء من التلفيقية التي لا تخدم في جوهرها إلا تثبيط حراك هذه الأمة التي بدأت أخيرا تتلمس طريق التقدم في بعده الحضاري الرّاهن من ناحية ومن ناحية أخرى تعبر عن عقدة النّقص التي نعاني منها جميعا. ما ضرّ لو عملنا (ولو بشيء من الغرور) على الاعتراف بأن العربي العادي قد أفاق من سبات وغيبوبة وربما موت سريري، ونقول بصوت رجل واحد - من المحيط إلى الخليج- إننا قادمون لاسترجاع حقوقنا المهدورة وثرواتنا المنهوبة والمشاركة في صناعة التاريخ الإنساني.
لقد أدرك الغرب استفاقة العرب بعد أن استبعدتها عبقرية واضعي السيناريوهات في كواليس "الكونغرس الأمريكي" ومستشرفي "وكالة الاستخبارات الأمريكية" وباحثي "مراكز البحوث الإستراتيجية". ونظرا لبراغماتية الغرب، لم يتوقف عند تعريف ما حدث، هل هي ثورة أم انتفاضة؟ الأمر لا يهم كثيرا، فهو يرى رأي العين عودة الروح في جسد أمة ميئوس منها وتدّب الحياة في الشارع العربي، ودليله طريقة لم تعهدها المجتمعات البشرية في إسقاط طغاة زمانهم وفريدي عصرهم في النّهب وخيانة المؤتمن. في تونس كما في مصر، صحّح الإنسان العادي المفاهيم وأعاد الضوابط الاجتماعية والأخلاقية إلى طبيعتها.
لقد سقط فراعنة هذا العصر من غير قيادة ولا زعامة ولا نبوة، فالشعب التونسي قد اختزل كل ذلك في إرادة "رجل الشارع" الذي قرر أن لا سيادة إلا لمن يخدمه ويسهر على مصالحه، فهو السيّد الذي يوّلي ويعزل. فلو أن أحداث تونس لم تنجز إلا هذه، لاستحقت أن تكون ثورة بامتياز. أفلا نبصر خطب الأحزاب -قديمها وحديثها- ودّ جميع أطياف المجتمع التونسي، حتى لو افترضنا عدم صدقية السياسيين، فهم يعلمون علم اليقين، تحرر الأقنان من قيود العبودية وقد شفتهم الثورة من رُهَابِهِمْ المزمن.
لقد تميزت الثورة التونسية على باقي الثورات التاريخية، بأنها ثورة لاسترجاع الكرامة أولا وقبل كل شيء، ثأر فيها التونسيون لذكائهم المهان وطيبتهم المستغلة وحسن نيّتهم المستغفلة لعقود طويلة من الزمن، هذه في تقديري هي الخطوة الأولى على درب التغيير، الذي ستليه ثورة اقتصادية واجتماعية وثقافية تحقق تدريجيا تغييرات جذرية وشاملة كما يتصورها المجتمع. لعل ما يجب تذّكره في هذا المجال ما قالته العرب "زرعوا فأكلنا ونزرع ليأكلون"، هذا تذكير لكل المثقفين التونسيين الذين يعيبون على ثورة مذهولة بإنجازها، عدم تحقيق ما يدور بخلدنا وما بنته تصوراتنا. على المثقف أن يقّر (دون خجل) بحقيقة تَجَاوُزِ الفعل التاريخي الشعبي كل تنظيراته وكل تصوراته. كما نجحت الثورة التونسية في نزع كل شرعية فكرية و/أو سياسية و/أو إيديولوجية عن جل المثقفين العرب، طل ما تشدقوا بها (أي الشرعية)، متخذّين منها برجا عاجيا للتعالي على إخوتهم -البسطاء- والتّكبر على -العامة-. لقد أسقطت الشعوب ورقة التوت على مثقفي الأمة وسياسيها، فبادلوهم الاستعلاء بالاستغناء، وخاضوا ثورة من غير غطاء، إيديولوجي أو ديني أو سياسي… ثورة خرساء، إلا عن ترديد كلمة الحق، ثورة صماء، لم تسمع إلا نداء الكرامة… ثورة تصالحت فيها الفطرة مع إرادة القدر، في غفلة من لوثة السياسة وفيروس الخطابة… لقد تعمق شعور المثقف العربي بالإحباط وربما الغيرة من شعوب وجدت سبيل الفعل، مخلفة وراءها جيشا من المتردّدين/ القاعدين وقد ترهلت أجسامهم بالنّعيم والمخدرة أفكارهم بالتّرف.
يصر المثقف العربي إلى الآن على تفويت الفرصة التاريخية ببقائه على الربوة، يراقب، عاجزا عن فهم استيعاب تقدم الفعل عن الفكرة، وذلك لخطئ في تقدير التحوّل الحاصل في الوعي الشعبي، الذي برهن عن قدرة فائقة في تخطي أنانية ونرجسية المثقف وسحر الكلمة وطلاوة الفكرة وعمق النظرية إلى السّعي والعمل بالنزول إلى الميداني. لقد أفرز رقي الشعور بالواجب لدى المواطن الأعزل إلا من إيمانه بكرامته، التي تحولت في لمح البصر إلى قضية القضايا قبل الخبز والوجود، الذين تمسكا بهما المثقف التقليدي وانزوى في ركن المصلحة الشخصية على حساب دوره القيادي في المجتمع.
لقد برهنت الثورة التونسية بما لا يقبل الجدل، انعتاقها من تخفّي المثقف وراء النظريات الفضفاضة، في ذات الوقت لا تزال الثورة تفتح ذراعيها لكل من يأنس في نفسه القدرة على احتضانها ويتمتع بالمرونة الفكرية اللازمة لاستيعاب نهج الثورة التونسية والتقدّم بها إلى الأمام، بالتوجيه والتّنوير ووضع التصورات الملائمة لمكانة ودور الإنسان التونسي دون الاستعلاء عليه أو إقصائه وربما تحقيره، خاصة بعد أن برهن "رجل الشارع" تفوقه على المثقف والسياسي في آن واحد، مؤكدا على ما يمكن تسميته "بالتخاذل التاريخي للمثقف العربي".
لم يتوقف تخاذل بعض المثقفين العرب، ملحين على قطيعتهم مع شعوبهم حتى بعد أن دبّت الحياة في جسد الأمة، بل يطلع علينا هؤلاء المشككين في وعي الإنسان العربي وينقص من درجة وعيه وفعله الثوريين. ستبقى القطيعة هذه مستمرة ما لم يع المثقف في الوطن العربي ضرورة تجسيرها برتق الفتق بينه وبين الأمة من ناحية وبين الشعوب وحكامها من ناحية ثانية وبينه بين السلطة من ناحية ثالثة. قطيعة ثلاثية الأبعاد تتطلب جهدا فكريا وعملا ميدانيا "خارقا" من قبل المثقف بالدرجة الأولى.
يتوجب على المثقف في العالم العربي أن يدرك الدرس ويؤمن بأنه يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، ولا يتسنى ذلك إلا بشيء من التواضع والتجرّد من الأنانية، موقنا بتفسخ ميكانزمات منظومة تفكير الجيل السابق والتحول من قضاياه إلى قضايا أكثر التصاقا بواقعه، وفسح المجال أمام تلاقي الأجيال وتواصلها، بعيدا عن الحساسيات الفردية، باعتبارها في نظري، قاعدة للصراع وليست أرضية للانطلاق. فإن لم يحصل التواصل والاندماج بين الاثنين فلا يسعني إلا أن أنصح بإحالة المثقف العربي التقليدي على المعاش، تاركا الثورة لمن أشعل شرارتها وألهب نارها وحقق المعجزة.
د - صالح المازقي
أستاذ علم الاجتماع بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية
بتونس
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: