احتفل حزب النهضة التونسي في 6 حزيران/ يونيو بالذكرى الحادية والأربعين لتأسيسه (وقد كان ذلك في ندوة صحفية لإعلان تأسيس الحزب يوم السادس من حزيران/ يونيو 1981) تحت مسمى عام "الاتجاه الإسلامي"؛ في فسحة حريات محدودة تغطى بها محمد مزالي، الوزير الأول بعد الهادي نويرة الذي تعرض للجلطة بعد عملية قفصة العسكرية (كانون الثاني/ يناير 1980) والتي اضطرت بورقيبة لإرخاء الحبل مع معارضيه إلى حين.. منذ ذلك التاريخ لم تتوقف محن الحزب ولم يبق جدار بسجن تونسي لا يحمل أسماء منتسبيه، وقد أكلت المحن الكثير من جسد الحزب ولكنه لم يمت. ومنذ التاريخ أيضا لم تقم سياسة في داخل تونس إلا في صراع مع الحزب؛ فإما قمع وتشريد أو قصقصة أجنحة أو استخدام و"ركوب".
واحد وأربعون عاما من السياسة ضد النهضة أو معها جعلت الحزب مدار السياسة، وقد تلاشت من جواره مسميات حزبية حتى لم يعد يتذكرها أحد. ماذا يمكن أن يقال؟ وعن ماذا سيسفر احتفال الذكرى الحادية والأربعين؟ سنوجه رسائل بسيطة للحزب من موقع المواطن.
من أي موقع نتحدث للحزب في هذه الرسائل؟
تحدثنا دوما مع الحزب حديثا غير رسمي، لكن عبر أصدقاء لنا من داخله بخلفية غير استئصالية. ولم نخف لحظات تعاطف عالية عندما نتحسس عودة الخطاب الاستئصالي في أي موقع كان، ولم نخجل من استعدادنا للدفاع عن الحزب عندما يتحول الخطاب إلى نيّة اعتداء، لكننا نقدنا سياسات الحزب في مواضع كثيرة بعد الثورة، وفي أغلب مشاركات الحزب في الحكم أو في مشاركاته البرلمانية. وهذا التذكير ليس منّاً على الحزب، لكننا اخترنا موقع مرافقة الديمقراطية بالنصيحة، وقد بنينا مع أصدقاء آخرين وخاصة الدكتور زهير إسماعيل موقفا واضحا (وجود النهضة ومشاركتها في العملية السياسية شرط لازم لبناء الديمقراطية)، ومن هذا الموقع نفسه نوجه الرسائل.
ونحن غير معنيين بالمرة بتلك التهم المنحطة التي تصنف كل من لم يضرب النهضة بأي حجر يصل يده بأنه نهضوي (أو خوانجي أو مرتزق يقبض منها!). فهذه الاتهامات طالت أعتى العلمانيين المعادين للنهضة ولكل مرجعية سياسية إسلامية، وآخرهم عياض بن عاشور، الفقيه القانوني. فهذه الاتهامات تصدر حصرا عن غرفة عمليات بوليس ابن علي، بل يمكننا أن نفخر بأننا لم نمارس الاستئصال ولم نؤذ بشرا في رزقه ولا في عرضه. نحن نعرف من أي عين يشرب بوليس ابن علي، لذلك نتجاوز.
ما نرى واجب قوله للنهضة أو رسائلنا في ذكرى التأسيس
لقد أعلنتم براءتكم من عقل الفرقة الناجية، ونحن من بعض من لم يقبل منكم خطاب الفرقة الناجية منذ التعارف في الجامعة. ولم نر شيوخكم سعيد بن جبير أمام الحجاج، ولا جمهوركم أصحاب الأخدود في نجران. وفي الديمقراطية يصير الإخلاص لإعلانكم ضرورة أخلاقية وسياسية، ما نتابعه حتى الآن أن هذا الإعلان (وهو ما سميتموه بالإسلام الديمقراطي) لم يتجسد على الأرض. وليس الموضع موضع محاسبة، ولكن منشورات أنصاركم لا تزال تكفيرية في مواضع كثيرة، بما يوحي بأن البراءة رسالة سطحية موجهة إلينا ولا تنفذ إلى عمق تفكير جمهوركم، فاتخذوا لكم حديثا واضحا واحسموا ليكون لكم شركاء على بينة.
لقد تذرعتم دوما بأن وضع المطاردة يؤجل طرح المسائل الجوهرية، وقلنا لكم إن هذا تباكي الضحية الكسولة دون الفعل، وقد شعرنا في ردهات كثيرة أنكم تستمطرون الآلام لتهربوا من الاستحقاق العميق. لا نرى سببا يمنعكم من ترتيب الجهود وتوزيع المهام بين السياسي اليومي والفكري الدائم، إلا أن تكون هذه الصفوف من القياديين في المركز والجهات مجرد أسماء فضفاضة عاجزة عن كتابة جملة، ولسنا في موضع اختبارها ولا الحكم على كفاءاتها. ولكن بعد عشر سنوات من الحرية عليكم أن تعرفوا أن جيرانكم غير الاستئصاليين في السياسة والاجتماع لا يقبلون صورتكم الماضية، ولا يعرفون صوركم المستقبلية. وإذ نظن أنكم تطرحون على أنفسكم أكثر من مجرد الفوز بوظيفة براتب مجز، نرجو أن يتوقف التحجج بذريعة آن الآخرين أيضا ليس لهم كتاب.
في تراثنا المشترك وجدنا أن سن الأربعين هي سن النضج العقلي (المؤهل للنبوءة)، ووجدنا أن الأجيال تتبدل كل أربعين سنة وأنتم في عيدكم في مرحلة النضج والتبدل، لكننا جيرانكم ولم نر الجيل الجديد. وقد تابعنا التشقق الحزبي والاستقالات، وسمعنا الحجج ووجدنا لها منطقا. لقد انفتحت معركة الانتقال القيادي ولكن حلولها تأجلت، وأنتم أعرف بالذرائع أو الأسباب.
سيبدو أمر الانتقال القيادي كشأن داخلي، لكن الموقع الذي تطلبونه في الشراكة السياسية/ الوطنية يجعل معارككم الداخلية قضايا وطنية تعني جيرانكم؛ لا من قبيل المحبة أو التصافي الأخوي بل من قبيل شظايا زجاجكم المكسور تصيبنا في وجوهنا.
نشم روائح مطبخكم الداخلي ونجدها روائح مطابخ وجبات سريعة لا تكشف مشروعا طويل النفس (مما تدّعون)، وإنما تنافس على المواقع والمغانم. وهذا مدخل ضعف وهشاشة التي عصفت بالأحزاب والمنظمات المجاورة، وهو مدخل للاختراقات (وقد رأينا فيكم كثيرا من رماة أُحد).
نتوقع أو نتمنى (ونعرف الاستحالة الكامنة في التمني) أنكم واقفون على حدود العجز عن التخلي والاستبدال العقلاني، وبقدر ما سيكون في ذلك من خسارة لكم وللمجتمع بجواركم إلا أنه يحررنا أكثر من العطف في منعرجات الاستئصال التي لن تنتهي في المدى المنظور. (هذا مرض جيل ومرض مجتمع يعيش أزمة تحديث ديمقراطي). لن نتردد في القول لكم بصوت تسمعونه: "تخربون بيوتكم بأيدكم"، فلا تبكوا على كتف أحد.
نهضة أخرى ممكنة؟
إذا قلنا لكم إن وجود النهضة شرط لقيام الديمقراطية وإقامة الجدل السياسي البناء بين مشاريع بمرجعيات مختلفة ومتناقضة، فإن هذا لا يعني أن المجتمع قائم بكم أو من أجلكم، كما أظنكم تعلمون جيدا أن الإسلام قائم دونكم وقد كان قبلكم وسيبقى بعدكم، ولستم في تاريخه إلا بعض المؤمنين به بعد انتهاء عصر النبوءة.
لذلك نريد أن نتخيل نهضة جديدة بقيادات جديدة بخطاب ديمقراطي لا يتباكى من ظلم وإن وجد، ولا يتعالى بسلطة وإن ظفر، ويطرح على الناس أفكارا جديدة بوجوه جديدة قادرة على المضي بالحوار والجدل والصراع (تدافعكم المحبوب) إلى مدى أبعد.
في هذه البلاد من يثمّن عاليا حمايتكم للحريات منذ الثورة ويثمّن خروجكم الشجاع ضد الانقلاب المعادي للحريات (لم يخل البلد من عقلاء أبدا). لم نخض هنا في موضوع أخطائكم في الحكم وبعضها كارثي، لكننا حسمنا الأمر سابقا (أخطاء التقدير تناقش في وضع ديمقراطي لا تحت الحصار الإعلامي الاستئصالي).
نقدر رغم بؤس اللحظة أن قد خرجت البلدة من معارك الاستئصال وقد عجز الاستئصاليون أمام ما حميتم من الحرية (وتقديرنا أن هذه الأيام الأخيرة للاستئصال الفكري والسياسي)، وهذا استثماركم، لكن إذا اعتبرتموه وسيلة شخصية للسلطة فسيجعل منكم ذلك حطب مرحلة لا أحجار تأسيس.
ماذا ستؤسسون؟ ستؤسسون الديمقراطية الدائمة ليس بهذا الجيل القيادي بل بجيل جديد من أبنائكم، وبالشراكة حتما مع أبناء الجيران والخير ليس فيكم وحدكم. السنوات العشر (وقد سميناها عشرية الحريات الباهرة) كانت مقدمة تأسيس، والآن نستشعر أن البلد دخل مرحلة المرور إلى كتابة النص الديمقراطي الطويل. فليكن عيدكم تحولا عميقا لا مناسبة حلوى مجانية على حساب الحزب، ثم تتلبسكم النبوءات الكاذبة مرة أخرى.
أيها الأصدقاء لستم صحابة رسول الله والتوانسة ليسوا كفار قريش، لكننا شركاء وطن وعشاق حرية نترافق في طريق طويلة ونقتسم مؤونة الطريق وجلابيب آبائكم ضاقت علينا، وسنتجاهل أن قد ضاقت عليكم حتى نرى وجه حزب جديد، أو نكتب: كان هناك شيء اسمه حزب النهضة وسقط بالتقادم.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: