د - ضرغام الدباغ - ألمانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3218
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يلاحظ المتصفح في الأدب الأوربي، وحتى في كتب سير الرجال، أن العديد من كبار المؤرخين، والمدهش أكثر، من عمالقة رجال الأدب يكتبون شعراً جميلاً تختلط فيه العاطفة وبالوعي والعقل والحكمة عن الرسول محمد صل الله عليه وسلم. وكبار الأدباء هم طليعة مجتمعاتهم، علماً وذكاء وثقافة، وتحسساً، لذلك فعندما يكتب أحدهم إنما هو يعبر عن مسألتين في آن واحد :
• مشاعر وأفكار والقناعات العميقة لصفوة المجتمعة ونخبته المثقفة.
• عن اكتشافه للموقف الحق السليم وإعلانه، وقدرته عن التخلي عن الأحكام المسبقة.
لقد وجدنا الكثير جداً من النصوص الرائعة، التي تعبر عن هذا الموقف الذي ليس بالسهل على كاتب مهم اتخاذه، أولاً، ومن ثم الإجهاز به علناً دون الخشية من العواقب، وهي ليست سهلة وخاصة لكاتب يريد الحفاظ على جمهوره، ولا يجازف بفقدانهم.
وفي ألمانيا، برز الشاعر والعالم الكبير يوهان فولفغانغ غوتة، معبراً ومصرحاً دون تردد بعظمة الرسول محمد (ص)، قولاً وشعراً، بل وكتب ديواناً كاملاً أسماه " الديوان الشرقي "، وقصائد في مدح النبي العربي، لأهميتها الفائقة، سنفرد لها بحثاً كاملاً.
في هذا التقرير/ البحث، سنعرض مواقف سبعة علماء وأدباء ومستشرقين، مع تركيز خاص على الأديب والشاعر الفرنسي الفونس دي لامارتين. وفي استعراض لأقوال هؤلاء العلماء والمستشرقين، رؤية عميقة لعظمة الرسول ورسالته، من حيث أنها رؤية موضوعية وجدت في الرسول (ص) قائداً أقام الدين وحقق الدولة. ولم تكن أقوال هؤلاء المستشرقين مجرد تعبير عن آرائهم في الإسلام ورسوله، بل جاءت بعد دراسة متأنية للتاريخ الإسلامي، لاسيما الفترة التي عايشها النبى محمد صلى الله عليه وسلم، وتناول مواقفه مع أعدائه قبل أصدقائه وأتباعه، وهى ما جعلت كثيرين منهم ينبهرون بأخلاق النبى الكريم، حتى أن بعضهم قال إنه يتسم بأهم صفتين، وهما العدالة والرحمة.
العالم الأمريكى مايكل هارت
من العلماء الغربيون والمستشرقون الذين شهدوا بعظمة النبى محمد وسماحته، هو الأمريكى مايكل هارت اختاره على رأس قائمة أهم 100 شخصية مؤثرة في التاريخ، بقوله في كتابه "الخالدون مائة "، " إن اختياري محمدًا ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، لكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين الديني والدنيوي، فهناك رسل وأنبياء وحكماء بدئوا رسالات عظيمة، لكنهم ماتوا دون إتمامها، كالمسيح في المسيحية، أو شاركهم فيها غيرهم، أو سبقهم إليهم سواهم، كموسى في اليهودية، لكنّ محمدًا هو الوحيد الذي أتم رسالته الدينية، وتحددت أحكامها، وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته، ولأنه أقام إلى جانب الدين دولة جديدة، فإنه في هذا المجال الدنيوى أيضًا، ووحّد القبائل في شعـب، والشعوب في أمة، ووضع لها كل أسس حياتها، ورسم أمور دنياها، ووضعها في موضع الانطلاق إلى العالم أيضًا في حياته، فهو الذى بدأ الرسالة الدينية والدنيوية وأتمها".
المستشرق الإنجليزى جورج برنارد شو
أما المستشرق الإنجليزي الشهير جورج برنارد شو، فهو من أشهر الغربيين الذين نصفوا الإسلام خلال القرون الماضية. وقال "شو" في مؤلفه "محمد" الذي أحرقته السلطات البريطانية خوفًا من تأثيره: " إن المثل الأعلى للشخصية الدينية عنده هو محمد صلى الله عليه وسلم، إذ يتمثل في النبي العربي تلك الحماسة الدينية، وذلك الجهاد في سبيل التحرر من السلطة، وهو يرى أن خير ما في حياة النبي أنه لم يدّع سلطة دينية سخرها في مأرب ديني، ولم يحاول أن يسيطر على قول المؤمنين، ولا أن يحول بين المؤمن وربه، ولم يفرض على المسلمين أن يتخذوه وسيلة لله تعالى ".
وقال برنارد شو إن رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجة للجهل أو التعصب، قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة، لقد كانوا يعتبرونه عدوًا للمسيحية، لكنه اطلع على أمر هذا الرجل، فوجده أعجوبة خارقة، وتوصل إلى أنه لم يكن عدوًا للمسيحية، بل يجب أن يسمى منقذ البشرية. وفى رأيه أنه " لو تولى أمر العالم اليوم، لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها".
كما قال برنارد شو: " لو تولى العالم الأوروبي رجل مثل محمد لشفاه من علله كافة، بل يجب أن يدعى منقذ الإنسانية.. إنني أعتقد أن الديانة المحمدية هي الديانة الوحيدة التي تجمع كل الشروط اللازمة، وتكون موافقة لكل مرافق الحياة، لقد تنبأت بأن دين محمد سيكون مقبولاً لدى أوروبا غدًا، وقد بدا يكون مقبولاً لديها اليوم، ما أحوج العالم اليوم إلى رجل كمحمد يحل مشاكل العالم".
المهاتما غاندى
كانت هناك شخصيات عالمية أخرى رغم عدم استغراقها في دراسة الإسلام، فإنها لم تخف إعجابها بشخص محمد، فقال المهاتما غاندى في حديث صحفي تطرق فيه إلى الحديث عن الرسول الكريم:
" أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بل منازع قلوب ملايين البشر.. لقد أصبحت مقتنعًا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول، مع دقته وصدقه في وعوده، وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته مع ثقته المطلقة في ربه وفى رسالته، هذه الصفات هي التي مهدت الطريق وتخطت المصاعب وليس السيف.. بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول وجدت نفسي آسفًا لعدم وجود المزيد للتعرف أكثر على حياته العظيمة".
المستشرق البريطانى ويليام مونتجمرى وات
المستشرق البريطانى الشهير ويليام مونتجمرى وات الذي عمل أستاذًا للغة العربية والدراسات الإسلامية في جامعة أدنبرة، فكان من أشهر كتبه " محمد في مكة " الصادر عام 1953، و" محمد في المدينة " الصادر في عام 1956، و" محمد: النبي ورجل الدولة" عام 1961. وقال عن الرسول الكريم في مقدمة كتابه الأول " محمد في مكة "إنه يأمل في أن هذه الدراسة عن حياة محمد يمكنها أن تساعد على إثارة الاهتمام من جديد برجل هو أعظم رجال بني آدم.
وفى فصول هذا الكتاب، قال: " إن استعداد هذا الرجل لتحمل الاضطهاد من أجل معتقداته، والطبيعة الأخلاقية السامية لمن آمنوا به واتبعوه واعتبروه سيدًا وقائدًا لهم، إلى جانب عظمة إنجازاته المطلقة، كل هذا يدل على العدالة والنزاهة المتأصلة في شخصه، وافتراض أن محمدًا مدّع، يثير مشاكل أكثر ولا يحلها.. بل إنه لا توجد شخصية من عظماء التاريخ الغربيين لم تنل التقدير اللائق بها مثلما فعل بمحمد ".
الفيلسوف الفرنسي الشهير روجيه جارودى
الفيلسوف الفرنسي الشهير روجيه جارودى، قال عن الإسلام في كتابه " الإسلام وأزمة الغرب ": " إن الإسلام أنقذ العالم من الانحطاط والفوضى، وإن القرآن الكريم أعاد لملايين البشر الوعي بالبعد الإسلامي ومنحهم روحًا جديدة ".
وقارن جارودى بين أثر الحضارة الغربية، وما يمكن أن يقدمه الإسلام للبشرية. وقال وفقًا لما ورد بكتاب " الإسلام يصطفى من الغرب العظماء " للباحث مفيد الغندور، إنه بعد خمسة قرون من هيمنة الغرب همينة لا يشاركه فيها أحد، يمكن أن ننظر إلى الأرقام الآتية :
عام 1982 تظهر لنا ملامح وقسمات الحضارة الغربية، فمع حوالي 600 مليار دولار من الإنفاق على التسليح، وصنع ما يعادل أربعة أطنان من المتفجرات فوق رأس كل إنسان من سكان كوكب الأرض، مات حوالي 50 مليون نسمة في العالم من الجوع وسوء التغذية، في العام نفسه الذي أنفق الغرب ملياراته على أسلحة التدمير، ومن ثم فمن الصعب أن نطلق كلمة تقدم على هذه المرحلة التي قطعتها الحضارة الغربية في تاريخ البشرية. ورأى جارودى أن الإسلام يمكن أن يقدم للعالم المعاصر ما ينفعه وما يفتقده، وهو معرفة غاية الإنسان ومعنى الحياة.
أستاذ الفلسفة الهندى راما كريشنا
وفى كتابه " محمد النبي " قال أستاذ الفلسفة الهندي راما كريشنا راو: " لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها، لكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة، فهناك محمد النبي، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامى العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضى، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلًا ".
المفكر والشاعر الفرنسى لامارتين
المفكر والشاعر الفرنسي " لامارتين " كتب عن رسولنا الكريم في مقدمة كتابه الضخم "تاريخ تركيا - الجزء الثاني"، الصادر عام 1854، يقول: "إذا كانت الضوابط التي نقيس بها عبقرية الإنسان هي سمو الغاية والنتائج المذهلة لذلك رغم قلة الوسيلة، فمن ذا الذي يجرؤ أن يقارن أيًا من عظماء التاريخ الحديث بالنبي محمد في عبقريته، فهؤلاء المشاهير صنعوا الأسلحة، وسنوا القوانين، وأقاموا الإمبراطوريات، فلم يجنوا إلا أمجادًا بالية لم تلبث أن تحطمت بين ظهرانيهم".
ويتابع "لامارتين" في المقدمة التي أصبحت كتابًا مستقلًا فيما بعد حمل عنوان " حياة محمد"، قائلاً: «لكن هذا الرجل " محمد " لم يقد الجيوش ويسن التشريعات ويقم الإمبراطوريات ويحكم الشعوب ويروض الحكام فقط، إنما قاد الملايين من الناس فيما كان يعد ثلث العالم حينئذ، ليس هذا فقط، بل إنه قضى على الأنصاب والأزلام والأديان والأفكار والمعتقدات الباطلة".
وأضاف: «لقد صبر النبي وتجلد حتى نال النصر.. كان طموح النبي موجهًا تماما إلى هدف واحد، فلم يطمح إلى تكوين إمبراطورية أو ما إلى ذلك، حتى صلاة النبي الدائمة ومناجاته لربه ووفاته وانتصاره حتى بعد موته، كل ذلك لا يدل على الغش والخداع، بل يدل على اليقين الصادق الذي أعطى النبي الطاقة والقوة لإرساء عقيدة ذات شقين: الإيمان بوحدانية الله، والإيمان بمخالفته تعالى للحوادث" . وقال " لامارتين " أيضًا: " ما من إنسان البتة رسم لنفسه إدراك هدف أسمى مما نوى محمد أن يبلغ، إذ كان هدفًا يفوق طاقة البشر، يتمثل في نسف المعتقدات الزائفة التي تقف بين المخلوق والخالق، وإرجاع الله للإنسان، وإرجاع الإنسان لله، وبعث الفكرة الإلوهية المجردة المقدسة في خضم فوضى الآلهة المادية المشوهة، آلهة الوثنية، وما من إنسان البتة، في نهاية المطاف استطاع أن ينجز في وقت أوجز ثورة على الأرض أعظم أو أبقى مما أنجز هو". (1)
رؤية الشاعر الفرنسي لامارتين للرسول العربي الكريم محمد
ولِد الشاعر والصحفي والسياسي ألفونس دي لامارتين في منطقة ماكون، شمال مدينة ليون في فرنسا، في العام 1790 وعاش في جوّ ريفي جميل ضمن عائلة أرستقراطية، وقد أثّرت فيه والدته وأخواته البنات، فجاء هذا التأثير ليضيف عذوبة إلى حياته. ودرس في مدرسة اليسوعيين في بيلّي وتذوق كتابات فرجيل وهوراس وقرأ شاتوبريان، وكانت لديه حماسة دينية عارمة. في العام 1814 عند سقوط الإمبراطورية، خدم ضمن حرس الملك لويس الثامن عشر ثم استقال من هذا العمل بعد معركة واترلو.
وقد أوحت له تجربة حب مؤلمة بكتابة أحلى قصائده في مجموعته المعنونة (التأملات) في العام 1820. حازت هذه المجموعة الرومانسية على إقبال جماهيري كبير؛ وهكذا أصبح لامارتين بين ليلة وضحاها شاعراً مشهوراً جداً.ً وبعد ذلك عُيِّن ملحقاً للسفارة الفرنسية في نابولي ثم تم تعيينه سكرتيراً للسفارة في فلورنسة في العام 1825. وحين قامت الثورة في فرنسا في العام 1830، لم يُفاجأ بها لامارتين الذي كان يتطور فكره باتجاه الليبرالية.
منذ العام 1821، كان لامارتين يحلم بمشروع ملحمة شعرية يكتبها، ومن أجل هذا الهدف، قرر زيارة الأماكن المقدسة في الشرق، أي مهد المسيحية؛ فزار مع زوجته وابنته اليونان وفلسطين وسورية ولبنان. وفي طريق عودته إلى بيروت، فَقد ابنته جوليا فعبر عن ألمه في قصائده التي كتبها في العام 1834. وقد كتب كتاباً بعنوان" الرحلة إلى الشرق" في العام 1835.
انتُخِب نائباً عن منطقة ماكون منذ العام 1833 وحتى العام 1851 وخلال هذه الفترة، اعتبر من أهم خطباء عصره السياسيين، وقد رفض الانتماء إلى أي حزبٍ كان، وبدأ يتجه نحو اليسار إلى أن جاءت الثورة في العام 1848، حيث كان يقف في صفوف المعارضة مطالباً بإحلال الجمهورية. وانتخب بأكثر من مليون ونصف من الأصوات ليكون مديراً منفذاً في الحكومة. إلاّ أنه حين رشح نفسه لرئاسة الجمهورية ولم يحصل إلاّ على 18000 صوت، مقابل خمسة ملايين صوت للأمير نابوليون. وهكذا انتهت حياته السياسية بهذه الخسارة. عاش حياته بعد ذلك في ضيق مادي كبير واضطر لبيع ممتلكاته؛ وقد اتجه للكتابات التاريخية، ومنها تاريخ تركيا (1854-1855). توفي الشاعر لامارتين في العام 1869 بعد مرض أصابهُ، فدفن في مدفن العائلة المتواضع.
هذه مقدمة بسيطة عن حياة الشاعر ألفونس دي لامارتين، ومن أشهر قصائده البحيرة ( Le Lac) التي تصف بحيرة ليمان في جنيف. ثم قرأت في كتابه رحلة إلى الشرق (1835) وصفاً للبيوت الدمشقية، فتأثرت بهذا الوصف الذي استطاع الدخول إلى عمق أعماق النفس الدمشقية. لقد استطاع أن يلتقط الحس الدمشقي الذي كان يرفض الإفصاح عن الغنى المادي ليبقيه خاصته من أجل ألاّ يجرح شعور الفقراء. وهذا طبعاً يمثّل جزءاً من روح التكافل الاجتماعي.
لهذا السبب بقي البيت الدمشقي متواضعاً من الخارج، وفي داخله فقط نجد اختلاف المستوى الاجتماعي والمادي. وقد كتب لامارتين عن هذا : "إن البيوت الدمشقية مطلية بالطين واللبن، وأبوابها متواضعة، أما حين دخلنا إلى بعض هذه البيوت، دهشتُ من غنى غرفها وأناقتها من الداخل. فبعد أن تدخل من الباب وتجتاز دهليزاً معتماً تجد نفسك في باحة مزينة بأحواض رخامية يتدفق منها الماء، تأتي السنونو والحمائم لتشرب منها بحرية، ثم تستريح على حافتها". في الحقيقة، ما زلنا نخال أنفسنا في الجنة حين نرى جمال باحات تلك البيوت ونبل مفروشاتها... فالدمشقي لا يرغب بعرض غناه، وإنما يكتفي بالعيش فيه.
لا شك أن هذا الشاعر الذي لامس روح مدينة دمشق، وهي أقدم عاصمة مأهولة في العالم، استطاع بالطريقة ذاتها ملامسة روح شخصية الرسول العربي الكريم محمد. ولذلك، ارتأيت ترجمة الصفحات الرائعة التي كتبها الشاعر ألفونس دي لامارتين في وصفه ووصف فكره والثورة الاجتماعية التي قام بها، في كتابه "تاريخ تركيا"، وأحببت أن أترجمها في هذا الوقت بالذات الذي نجد فيه اختلافاً كبيراً في مقاربة شخصية النبي محمد في أوروبا الحالية بذريعة حرية التعبير وفي أوروبا في القرن التاسع عشر، ونموذج الشاعر لامارتين الذي مثّل هذه المقاربة. إنها مقاربة إنسانية تحترم الرجال العظماء الذين أثّروا في الإنسانية جمعاء، دون النظر إلى أصولهم أو دينهم، وتحترم من خلاله الشعب الذي يمثله، إذ إنه رمز للعرب والمسلمين. لقد كان الرسول العربي الكريم محمد رجلاً لطيفاً ومتسامحاً. لم يختر الحرب بل فُرِضت عليه الحروب، فدافع عن نفسه ودينه وشعبه. وحين انتصرت دعوته، قام بفتح مكّة سلماً ولم يحاول الانتقام من كل من آذاه، فقال للناس بما معناه: " من دَخَل الكعبة فهو آمن ومَن دخل داره فهو آمن ومَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن". وهذا إن نم عن شيء، فإنه ينم عن قلب كبير وتسامح عظيم. وحين انتصرت دعوته، أشار إلى أصحابه بأن "الجهاد الأصغر" هو الذي انتهى وبدأ "الجهاد الأكبر" وهو "الجهاد مع النفس" للارتقاء بإنسانية الإنسان، فهل حققت الثقافات كلها هذا الارتقاء بالإنسانية؟ أم أن ما نشهده الآن من إبادة جماعية وانتهاك للإنسانية والشرعية الدولية في العراق وفلسطين ويسكت عن كل ذلك العالم "المتحضر" الذي يقدّس حرية التعبير هو الارتقاء بالإنسانية ؟!
لنستمع إلى الشاعر الرقيق العاطفة والمرهف الحس، لامارتين في وصفه للرسول العربي الكريم محمد خلال القرن قبل الماضي. وإليكم ترجمتي لهذا النص الرائع، التي أرجو أن تصل إلى مستوى النص الأصلي باللغة الفرنسية:
"ما مِن إنسان مثله قطُّ نَشد، إرادياً أو لاإرادياً، هدفاً أكثر نبلاً من ذلك الهدف، طالما أنه كان فوق طاقة البشر: ألا وهو هدم الخرافات المتواضعة عائقاً بين المخلوق والخالق، وإعادة الله إلى الإنسان والإنسان إلى الله، وإعادة تأسيس الفكرة العقلانية والمقدسة للإلوهية في خضّم فوضى الآلهة المادية والمشوَّهة في عبادة الأوثان تلك.
" ما مِن إنسان مثله قطُّ، وبوسائل ضعيفة للغاية، قام بعمل لا يتناسب إطلاقاً مع قدرة القوى الإنسانية، إذ لم يكن يملك وسيلة تساعده فيه إلاّ ذاته، سواء في المفهوم الفلسفي أو في تحقيق مثل هذا المصير العظيم، وكذلك لم تساعده سوى حفنة من البدائيين على ناصية الصحراء.
"أخيراً، ما مِنْ إنسان استطاع إنجاز ثورة حققت مثل هذا الانتشار الواسع في العالم ودامت كل هذا الزمن، وذلك خلال فترة قصيرة جداً، إذ إنه وبعد أقلّ من قرنين على تبشيره بالإسلام، انتشر الفكر الإسلامي التبشيري والجهادي وسيطر على مناطق الجزيرة العربية الثلاث، وفتح، بوحدانية الله، بلاد فارس وخراسان وترانزوكسيان (أوزبكستان وبلاد ما وراء النهر) والهند الغربية وسورية ومصر وإثيوبيا وكل القارة المعروفة في إفريقيا الشمالية وعدةَ جزر في البحر المتوسط وإسبانيا وجزءاً من بلاد الغال (فرنسا).
"إذا كانت عظمة الهدف وضعف الوسائل والنتيجة الكبيرة التي تحققت هي المقاييس الثلاثة لعبقرية الإنسان، فمن يجرؤ بعد الآن على إجراء مقارنة إنسانية بين رجل عظيم من التاريخ الحديث وبين النبي محمد؟!
إن أشهر الرجال العظماء لم يهزوا إلاّ الأسلحة والقوانين والامبراطوريات، ولم يؤسسوا (حين أسسوا شيئاً ما) إلاّ قدرات مادية، غالباً ما انهارت قبل انهيارهم. أما هو فقد حرّك الجيوش والتشريعات والإمبراطوريات والشعوب والسلالات المالكة وملايين الناس في ثلث المعمورة؛ إلاّ أنه، بالإضافة إلى ذلك، قد زعزع الأماكن المقدسة والآلهة والديانات والأفكار والمعتقدات والأرواح.
لقد أسس على قاعدة القرآن الكريم، الذي أصبح فيه كلّ حرف يشكل قانوناً، هوية روحيةً تشمل شعوباً من كل اللغات والأعراق. وطبع بحروف لا تزول لهذه الهوية الإسلامية، الكرهَ للآلهة المزيفة وعشقَ الله الواحد وغير المادي.
كان هذا الانتماء لتلك الهوية الوطنية والذي انتقم للسماء من فعل تدنيسها، فضيلةً لأتباع النبي محمد؛ وتمثلت معجزته بفتح ثلث الأرض باسم عقيدته، أو بالأحرى لم تكن معجزة شخص واحد، وإنما كانت معجزة العقل. كانت لفكرة وحدانية الله في ذاتها، المعلَنة خلال السأْم من حكايات ولادة الآلهة وسلالاتها الأسطورية، الفضيلةُ حين تفجّرت على شفتيه، فأحرقت كل معابد الأوثان القديمة وغمرت ثلث العالم بوميض نورها.
"هل كان هذا الرجل مدّعياً؟ إننا لا نظن ذلك، خاصة بعد أن قمنا بدراسة تاريخه. فالادعاء هو النفاق في العقيدة. وكما أن النفاق لا يملك قوة العقيدة، فإن الكذب لا يملك أبداً قوة الحقيقة.
"في الميكانيك، إذا كانت قوة القذف هي القياس الدقيق لقوة الدفع، فإن الفعل في التاريخ هو، بالطريقة ذاتها، قياس قوة الإلهام. فالفكر الذي يصل إلى مكانة جِدّ رفيعة وجِدّ بعيدة ويدوم لزمن طويل جداً، هو فكر قوي للغاية: ومن أجل أن يكون هذا الفكر بهذه القوة، يجب أن يكون غايةً في الصدق والثبات...
"إلاّ أن حياته وتأملاته في خلوته وتجديفَه البطولي على خرافات بلده، وجرأتَه في مواجهة حنق الوثنيين وثباته في تحمّله له خلال ثلاثة عشر عاماً في مكة وقبوله القيام بدور يمثّل آنذاك فضيحة عامة، وحتى بدور الضحية بين مواطنيه ثم هجرته أخيراً، ودعوته المستمرة والحروب غير المتعادلة التي خاضها وثقته بالنجاح والنصر، وسكينته التي تفوق طاقة البشر في النكسات، وحِلْمه الصبور في النصر، وطموحه في تثبيت الفكرة فقط وليس في تحقيق الإمبراطورية بتاتاً، وصَلاته الدائمة، وحواره الصوفي مع الله، وموته ونصره بعد دفنه، كل ذلك يشهد على أن هذا ليس ادعاءً وإنما قناعة راسخة. لقد كانت هذه القناعة هي التي أعطته القدرة على إعادة تأسيس العقيدة. وكانت هذه العقيدة مزدوجة: وحدانية الله ولا ماديته: فالأولى تحدد ماهية الله، أما الثانية فتحدد ما ليس فيه؛ الأولى هزمت بالسيف الآلهةَ الكاذبةَ، والثانية دشنت بالكلمة فكرةً جديدةً!
"إنه فيلسوف وخطيب فصيح ورسول ومشرع ومحارب وفاتح لأفكار جديدة ومؤسس لعقائد عقلانية ولعبادةٍ دون صور، ومؤسس لعشرين إمبراطورية على الأرض ولكن إمبراطورية روحية واحدة، هذا هو النبي محمد ..! " فمَن نجد أعظم منه إذا ما قيس بكل مقاييس العظمة الإنسانية .. ؟ " (2)
الشاعر لامارتين والرسول صلى الله عليه وسلم
لم أعثر، إلى حد الآن، على ترجمة إلى اللغة العربية للكتاب الذي وضعه الشاعر الفرنسي الرومانسي ألفونس دولامارتين (1790- 1869)، عن الرسول صلى الله عليه وسلم ضمن دراسته المطولة عن تاريخ تركيا. ولم أعثر في الدراسات الأدبية والفكرية التي قرأتها عن إنجازات شعراء الرومانسية من الفرنسيين أية إشارة إلى هذا الكتاب، بل، إن الدارسين، على ما يبدو لي، تعمدوا إهمال هذا الجانب الفكري في حياة هذا الشاعر الرائع.
اهتمام لامارتين بالرسول صلى الله عليه وسلم جاء في مرحلة من حياته تبحر خلالها في العقائد الدينية، وكان الإسلام من بينها. وبالفعل، فقد أفرد دراسته هذه مبديا فيها إنصافه وتقديره لرسول الإسلام.
حدث ذلك في نفس الفترة التي كن فيها قرينه الناثر العبقري، شاتوبريان، (1768-1848)، يستحث بني قومه من الفرنسيين والأوربيين عامة، إلى ما وصفه بالخطر الإسلامي الذي يمثله العثمانيون، وإلى ضرورة الوقوف صفا واحدا من أجل صد الإسلام والمسلمين عن الساحة الأوروبية. وتزامن ذلك أيضا مع جهود الشاعر ”فيكتور هيغو” (1802- 1885)، من أجل نظم ديوانه الشهير أسطورة القرون، وهو الديوان الذي ضمنه، شعرا، قصائد عن الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض الوقائع الإسلامية.
ومن عجب ألا يهتم المترجمون والنقلة العرب بهذه الدراسة التي وضعها لامارتين. حقا، قد لا تضيف شيئا كبيرا إلى تراث السيرة النبوية المطهرة في العالم العربي والإسلامي، ولكنها، في المقابل، تقدم الدليل على اهتمام شعراء ومفكري أوروبا بالجانب العقائدي في العالم العربي الإسلامي عامة. لم يكن لامارتين مقلدا في هذه الدراسة، ولم يكن مجحفا على غرار ما فعله بعض المستشرقين، بل، لعله كان أقرب منهم جميعا إلى روح الدين الإسلامي وإلى الحياة الشخصية للرسول صلى الله عليه وسلم. ويمكن القول إنه كان في مثل سماحة قرينه الإنجليزي، ”توماس كارليل”، (1795-1881)، ذلك الذي أفرد فصلا مطولا عن الرسول في نفس الفترة.
لم يكن لامارتين مندفعا، ولا صاحب ذهنية عنصرية على غرار شاتوبريان بالرغم من أنه تقلد منصب رئيس حكومة لفترة وجيزة في أصعب المراحل من تاريخ فرنسا، وأدرك العلاقة المضطربة بين الشرق والغرب، أو بين المسيحية في أوروبا والإسلام في العالم العربي. مضى يرصد بكل هدوء، سيرة الرسول من البداية إلى النهاية في لغة رائقة راقية، وبرحابة صدر لم تعهد، خلال القرن التاسع عشر، لا عند الشعراء والناثرين، ولا حتى عند بعض الذين صنفوا ضمن مثيري الشكوك والملاحدة مثل إرنست رينان، (1828-1892).
ولذلك، فإنني فوجئت بعدم اهتمام المترجمين في الشرق العربي بكتاب لامارتين هذا خلال النصف الأول من القرن العشرين، أي حين كان الاحتكاك الفكري والأدبي بأوروبا في الذروة. لقد نقل أولئك المترجمون والمتأدبون العديد من المؤلفات الفلسفية والأدبية، فهل، يا تراهم، اعتبروا دراسة لامارتين تلك نسخة قد تزاد في البلد، مثلما يقول المثل العربي؟
أكرر القول إن دراسة لامارتين هذه قد تكون زائدة عن الحاجة لو أنها ترجمت إلى اللغة العربية، ولكن لا بد منها لأنها تعطي صورة أخرى عن هذا الشاعر، ومن ثم، عن طريقة التفكير في فرنسا خلال القرن التاسع عشر والاهتمامات التي شغلت بال الشعراء والناثرين على حد سواء. إذ من المعروف أن أدباء فرنسا، على سبيل المثال لا الحصر، أحبوا أن يوجهوا أبصارهم نحو الشرق، وسافروا إلى هذا الشرق بالذات، وكتبوا عنه الشيء الكثير في مجال الرحلات، وكان من بينهم ناثرون أفذاذ مثل جيرار دونرفال، (1809-1856)، وشاتوبريان، ورسامون من أمثال دولاكروا، (1798-1863)، و«شاسيريو”، (1819-1856)، وفرومونتان، (1820-1876). آثر لامارتين أن يصب اهتمامه على العقيدة الإسلامية، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فمثل بذلك ما يشبه الاستثناء في الحركة الفكرية الرومانسية الفرنسية، وعمل عن اقتناع تام على ضرورة تصويب ما ينبغي تصويبه في العلاقات بين الشرق والغرب. غير أن الفكر الفرنسي أهمل هذه الدراسة إلى حد الآن، وقلما أعيد نشرها ضمن المؤلفات الكاملة لهذا الشاعر، تماما مثلما أهمل مسرحية ”توركيمادا” التي وضعها فيكتور هيغو عن التعصب الأعمى الذي عاشته الأندلس بعد سقوط الدولة الإسلامية وصعود نجم ملوك الاسترداد الكاثوليكي.وعليه، كان من واجب المتأدبين العرب أن يوجهوا اهتمامهم إلى كتاب لامارتين هذا، ويعملوا على نقله إلى اللغة العربية حتى وإن هو لم يأت بجديد في مضمار الدراسات الإسلامية والسيرة النبوية بصورة عامة. ويكفي لامارتين فخرا أنه وضع كتابه هذا بلغة فرنسية قل نظيرها في تاريخ الأدب الفرنسي كله. والسؤال الأخير الذي أطرحه في هذا الشأن هو التالي: أليس من واجب الفرنسيين والأوروبيين عامة، أي أولئك الذين يستخرجون في كل مرة ورقة ”الحوار بين الحضارات” أن يعيدوا الاعتبار لكتاب لامارتين، خاصة في هذه الظروف التي قويت فيها شوكة العنصرية والعنصريين في العالم الغربي كله؟ (3)
لامارتين: محمد فاتح أقطار الفكر ورائد الإنسان إلى العقل
ألفونس دي لامارتين الشاعر الفرنسي المعروف، والمولود في منطقة ماكون، شمال مدينة ليون العام 1790، درس في مدرسة اليسوعيين، وكان يحلم بمشروع ملحمة شعرية يكتبها، لذا قرر زيارة الأماكن المقدسة في الشرق، فزار فلسطين وسورية ولبنان، وسجل هذه الرحلة في كتابه «رحلة إلى الشرق» اتجه للكتابات التاريخية، وتوفي عام 1869.
في كتابه " تاريخ تركيا " كتب لامارتين صفحات رائعة في وصف النبي صلى الله عليه وسلم ووصف فكره والثورة الاجتماعية التي قام بها، يقول: ما مِن إنسان مثله قط، إرادياً أو لا إرادياً، له هدف أكثر نبلاً من ذلك الهدف، طالما أنه كان فوق طاقة البشر ألا وهو هدم الخرافات المتواضعة عائقاً بين المخلوق والخالق، وإعادة الله إلى الإنسان والإنسان إلى الله، وإعادة تأسيس الفكرة العقلانية والمقدسة للألوهية في خضم فوضى الآلهة المادية والمشوهة في عبادة الأوثان، ما من إنسان مثله قط، وبوسائل ضعيفة للغاية، قام بعمل لا يتناسب إطلاقا مع قدرة القوى الإنسانية، إذ لم يكن يملك وسيلة تساعده فيه إلا ذاته، سواء في المفهوم الفلسفي أو في تحقيق، مثل هذا المصير العظيم، وكذلك لم تساعده سوى حفنة من البدائيين على ناصية الصحراء، وأخيراً، ما من إنسان استطاع إنجاز ثورة حققت، مثل هذا الانتشار الواسع في العالم ودامت كل هذا الزمن، وذلك خلال فترة قصيرة جداً، إذ أنه وبعد أقل من قرنين على تبشيره بالإسلام، انتشر الفكر الإسلامي التبشيري وسيطر على مناطق الجزيرة العربية الثلاث، وفتح، بوحدانية الله، بلاد فارس وخراسان وترانزوكسيان " أوزبكستان وبلاد ما وراء النهر" والهند الغربية وسورية ومصر وكل القارة المعروفة في إفريقيا الشمالية وعدة جزر في البحر المتوسط وإسبانيا وجزءاً من بلاد الغال " فرنسا ".
عظمة الهدف
ويضيف لامارتين: وإذا كانت عظمة الهدف وضعف الوسائل والنتيجة الكبيرة التي تحققت هي المقاييس الثلاثة لعبقرية الإنسان، فمن يجرؤ بعد الآن على إجراء مقارنة إنسانية بين رجل عظيم من التاريخ الحديث وبين النبي محمد ..؟، إن أشهر الرجال العظماء لم يهزوا إلا الأسلحة والقوانين والامبراطوريات، أما هو فقد حرك الجيوش والتشريعات والإمبراطوريات والشعوب والسلالات المالكة وملايين الناس في ثلث المعمورة، بالإضافة إلى ذلك، قد زعزع الأماكن المقدسة والآلهة والديانات والأفكار والمعتقدات والأرواح، لقد أسس على قاعدة القرآن الكريم، الذي أصبح فيه كل حرف يشكل قانونًا، هوية روحيةً تشمل شعوباً من كل اللغات والأعراق، وطبع بحروف لا تزول لهذه الهوية الإسلامية، الكره للآلهة المزيفة وعشق الله الواحد وغير المادي.
طاقة البشر
ويتابع قائلاً: حياته وتأملاته في خلوته وتحديه البطولي خرافات بلده، وجرأته في مواجهة حنق الوثنيين وثباته في تحمله له خلال ثلاثة عشر عاماً في مكة ، ودعوته المستمرة والحروب غير المتعادلة التي خاضها وثقته بالنجاح والنصر، وسكينته التي تفوق طاقة البشر في النكسات، وحلمه الصبور في النصر، وطموحه في تثبيت الفكرة فقط وليس في تحقيق الإمبراطورية بتاتًا، وصلاته الدائمة، وحواره الصوفي مع الله، وموته ونصره بعد دفنه، كل ذلك يشهد على أن هذا ليس ادعاء وإنما قناعة راسخة، لقد كانت هذه القناعة هي التي أعطته القدرة على إعادة تأسيس العقيدة، إنه فيلسوف وخطيب فصيح ورسول ومشرع ومحارب وفاتح لأفكار جديدة ومؤسس لعقائد عقلانية ولعبادةٍ دون صور، ومؤسس لعشرين إمبراطورية على الأرض ولإمبراطورية روحية واحدة هذا هو النبي محمد، فمن نجد أعظم منه إذا ما قيس بكل مقاييس العظمة الإنسانية؟!.
وفي شهادة أخرى يقول لامارتين: إن ثبات محمد وشهامته وجرأته وصبره فيما لقيه من عبدة الأوثان دليل على أن وراءه يقين في قلبه وعقيدة صادقة تحرر الإنسانية من الظلم والهوان، وإن هذا اليقين الذي ملأ روحه هو الذي وهبه القوة على أن يرد إلى الحياة فكرة عظيمة وحجة قائمة حطمت آلهة كاذبة، ونكست معبودات باطلة، وفتحت طريقاً جديداً للفكر في أحوال الناس، ومهدت سبيلاً للنظر في شؤونهم، فهو فاتح أقطار الفكر، ورائد الإنسان إلى العقل، وناشر العقائد المحررة للإنسان ومؤسس دين لا وثنية فيه.
ـــ ﺍﻷﺩﻳﺐ ﺍﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻱ ﺑﺮﻧﺎﺭﺩ ﺷﻮ:
ﺇﻥ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺃﺣﻮﺝ ﻣﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﺇﻟﻰ ﺭﺟﻞ في ﺗﻔﻜﻴﺮ ﻣﺤﻤﺪ، ﻫﺬﺍ النبي الذي ﻟﻮ ﺗﻮﻟﻰ ﺃﻣﺮ ﺍﻟﻌـﺎﻟﻢ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﻟﻮﻓﻖ في ﺣﻞ ﻣﺸﻜﻼﺗﻨﺎ ﺑﻤﺎ ﻳﺆﻣـﻦ ﺍﻟﺴﻼﻣﺔ ﻭﺍﻟﺴﻌــﺎﺩﺓ التي ﻳﺮﻧﻮ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺇﻟﻴﻬﺎ
ـــ الفونس دي لامرتين : قال قولاً جامعاً : قام بعمل لا يتناسب إطلاقاً مع قدرة القوى الإنسانية.
" ﻣﺤﻤﺪ ﻫﻮ النبي ﺍﻟﻔﻴﻠﺴﻮﻑ ﺍﻟﺨﻄﻴﺐ ﺍﻟﻤﺸـﺮﻉ ﺍﻟﻤﺤﺎﺭﺏ ﻗﺎﻫﺮ ﺍﻷﻫﻮﺍﺀ، ﻭﺑﺎﻟﻨﻈـﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﻘﺎﻳﻴﺲ ﺍﻟﻌﻈﻤـﺔ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﺃﻭﺩ ﺃﻥ ﺃﺗﺴﺎﺀﻝ .. ﻫﻞ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﻦ ﻫﻮ ﺃﻋﻈﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﻣﺤﻤﺪ ؟ ".
سيرة حياة لامارتين
الفونس دي لامارتين Alphonse de Lamartine)) (21 أكتوبر 1790 - 28 فبراير 1869) شاعر وسياسي فرنسي. يعد أحد أكبر شعراء المدرسة الرومانسية الفرنسية. خاض غمار السياسة، فتولى رئاسة الحكومة المؤقتة، بعد ثورة 1848. من أشهر أعماله "تأملات شعرية" (1820)، و "جوسلين" (1836)، و "سقوط ملاك" (1838) ومن أشهر قصائده قصيدة البحيرة . كان كثير السفر وأقام مدة في أزمير في تركيا. وقد كان لامارتين ينتمي إلى طبقة النبلاء الفرنسيين، وهي أعلى طبقة في ذلك الزمان. ولذلك نشأ وترعرع في قصر «ميلي» تحت إشراف أمه الحنون التي لم تكن تطلب منه أكثر من أن يكون إنساناً حقيقياً وطيباً، لما يقول هو حرفياً.
وبعد أن أكمل دراساته في أحد المعاهد اليسوعية، أي التابعة للمسيحيين، راح يسافر في البلدان لكي يروح عن نفسه كما يفعل معظم أولاد الأغنياء.وهكذا سافر إلى إيطاليا عام (1811) وبقي فيها حتى عام 1814: أي حتى سقوط النظام الإمبراطوري بقيادة نابليون بونابرت وعودة الملك لويس الثامن عشر إلى الحكم ثم راح يهتم بالأدب والشعر وينشر أولى مجموعاته الشعرية عام 1820 تحت عنوان: " تأملات شعرية ". وكان عمره آنذاك واحداً وثلاثين عاماً. والشيء ا الغريب هو أن هذا الديوان الأول جعل منه بين عشية وضحاها شاعراً مشهوراً يشار إليه بالبنان. وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ اصدر لامارتين مجموعة شعرية ثانية تحت عنوان: تأملات شعرية جديدة. ثم نشر بعدئذ عدة كتب من بينها: موت سقراط، واخر أنشودة جحيم للطفل هارولد.
وبعد أن سافر إلى الشرق وتعرف على القدس في فلسطين حيث يوجد مهد المسيح ومقدسات المسيحية عاد إلى أوروبا وأصبح موظفاً في السفارة الفرنسية بمدينة فلورنسا الإيطالية. ثم تزوج من فتاة إنجليزية بعد عدة قصص حب فاشلة من بينها تلك القصة التي ألهمته قصيدة " البحيرةَ " الشهيرة. وهي من أشهر القصائد الرومانتيكية في الشعر الفرنسي. ثم يردف المؤلف قائلاً: وبعدئذ انخرط لامارتين في الحياة السياسية وأصبح نائباً في البرلمان. وقد سحر زملاءه بخطاباته الشاعرية الفياضة المليئة بالعواطف النبيلة تجاه الشعب الفقير. وكان لامارتين خطيباً في الدرجة الأولى.
ثم نشر لامارتين بعد ذلك عدة كتب مهمة نذكر من بينها: رحلة إلى الشرق (1835)، جوسلين (1836)، سقوط ملاك (1838)، خشوع شعري (1839)، الخ. كما نشر كتاباً جميلاً عن تاريخ الثورة الفرنسية التي كانت لا تزال حديثة العهد. والغريب في الأمر أن لامارتين ذا الأصل النبيل والارستقراطي أصبح من كبار مؤيدي الثورة الفرنسية التي أطاحت بطبقة النبلاء الارستقراطيين وامتيازاتهم الضخمة ! وقد عارض بشدة الحكم الرجعي للملك لويس فيليب وكان أحد قادة الثورة الشعبية الشهيرة عام 1848. ثم أصبح عضواً في الحكومة المؤقتة لفرنسا بل وزيراً لخارجيتها، ولكن لفترة قصيرة. وكان من أكبر الداعين إلى إلغاء قانون الرقّ أو العبودية الذي يصيب السود.
ولكن صعود نابليون الثالث على سدة الحكم عام 1852عن طريق انقلاب عسكري وضع حداً لحياته السياسية. فبعد أن أصبح اليمين الكاثوليكي في السلطة لم يعد له محل. وهكذا انطوى على نفسه وراح يكرِس جل وقته للأدب والكتابة، ولكنه لم يواجه السلطة الديكتاتورية مباشرة كما فعل فيكتور هيغو لأن ذلك كان سيؤدي به إلى القتل أو إلى السجن أو إلى النفي، ولذلك فضّل الصمت والمعارضة السرية غير الناشطة. وقد عاش السنوات الأخيرة من حياته بشكل تعيس وحزين، فقد كان مضطراً للعمل ليلاً نهاراً لكي يستطيع أن يعيش ويأكل الخبز، وذلك لأنه لم يستغل مواقعه السلطوية لكي يغتني كما فعل الكثيرون، وقد اشتكى في إحدى الرسائل إلى فيكتور هيغو بأنه يخشى أن يصادروا بيته ومكتبه والأثاث لأنه لا يستطيع أن يدفع الفواتير. ثم اضطر تحت ضغط الحاجة الماسة إلى قبول هبة من الدولة عام 1867، وقد عاب عليه المثقفون " اليساريون " ذلك واتهموه بالتواطؤ مع الديكتاتور المستبد نابليون الثالث، ولكن هل كان أمامه خيار آخر؟ وهل يريدون له أن يموت في الشارع وهو أحد أشهر شخصيات فرنسا في ذلك الوقت؟
مهما يكن من أمر، فإنه مات مغموماً ومهموماً بعد ذلك بسنتين فقط، ورفضت عائلته تنظيم جنازة وطنية له خوفاً من أن تستغلها السلطة لمصلحتها. هذا هو باختصار شديد ملخص حياة لامارتين. والآن ماذا عن أعماله ومنجزاته الشعرية والفكرية؟ يمكن القول إن مجموعته الشعرية الأولى " تأملات شعرية " دشنت الشعر الرومانتيكي في فرنسا وأغلقت المرحلة الكلاسيكية، فقد بدت وكأنها صادرة عن الأعماق، أعماق القلب الحساس (4)
قال الشاعر الفرنسى لامارتين عن الرسول صلى الله عليه و سلم
كانت فكرة كتابة لامارتين ـ الشاعر الفرنسي الشهير عن حياة محمد ـ مجرد مقدمة لكتاب ضخم عن تاريخ تركيا يقع في سبعة أجزاء, كتبه لامارتين بعد أن جاوز الستين من عمره عام1854, وبعد أن ترك الاشتغال بالسياسة وصراعاتها, وبعد أن تخفف من سطوة الإبداع الشعري والأدبي التي أصبح بفضلها نجما متألقا في سماء الأدب العالمي.
لابد أن نعود ـ ثانية ـ إلي المقدمة البديعة ـ الشديدة التركيز والعمق ـ التي كتبها الدكتور أحمد درويش للترجمة العربية من الكتاب, وهو يوضح أن لامارتين كان قد قرر العودة إلي التاريخ بعد أن عاش الحاضر وملأ الدنيا وشغل الناس, ولفت الأنظار بقدرته علي التأليف الغزير حول تاريخ روسيا وتاريخ تركيا في مجلدات كثيرة, وكيف كانت المسألة الروسية والمسألة التركية من أكثر ما يشغل السياسيين في أوروبا في القرن التاسع عشرة فلم يبتعد لامارتين إذن باختياراته عن حجم تأملاته وتجاربه السابقة.
ويبدو أنه بعد أن انتهي من كتابة تاريخ تركيا التي كانت تمثل الإمبراطورية الإسلامية لذلك العصر, رأي أنه لا يمكن فهم تاريخها بمعزل عن حياة صاحب الدعوة الإسلامية فكتب المقدمة التي أصبحت كتابا مستقلا. كما حدث لمقدمة كتاب ابن خلدون العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر فقد أصبحت هذه المقدمة أشهر من الكتاب نفسه, وأكثر دورانا علي ألسنة الناس وأقلامهم, ونسي الناس الكتاب الأصلي, ولم يعودوا يذكرون إلا المقدمة التي أسست علما جديدا هو علم الاجتماع باعتراف العلماء في الشرق والغرب.
فما الذي يقوله أكبر كاتب وأكبر رجل دولة في فرنسا (في القرن التاسع عشر) وهو يكتب عن حياة محمد؟ إنه يقدم عبارات حافلة بالثناء والإعجاب في مثل قوله والترجمة للباحث التونسي الدكتور محمد قوبعة والمراجعة والاختيار للدكتور أحمد درويش: ما من إنسان البتة رسم لنفسه إدراك هدف أسمي مما نوي محمد أن يبلغ, إذ كان هدفا يفوق طاقة البشر, يتمثل في نسف المعتقدات الزائفة التي تقف بين المخلوق والخالق, وإرجاع الله للإنسان, وإرجاع الإنسان لله, وبعث الفكرة الإلوهية المجردة المقدسة في خضم فوضي الآلهة المادية المشوهة, آلهة الوثنية, وما من إنسان البتة ـ في نهاية المطاف ـ استطاع أن ينجز في وقت أوجز ثورة علي الأرض أعظم أو أبقي مما أنجز هو.
ثم يقول لامارتين عن نبي الإسلام: فإذا كانت عظمة المقصد, وضآلة العدة, وضخامة النتيجة هي مقاييس عبقرية الإنسان الثلاثة, فمن يجرؤ أن يقارن (علي الصعيد الإنساني) أي عظيم من عظماء التاريخ الحديث بمحمد؟ إذ أن أبعدهم في الشهرة لم يهز سوي أسلحة وقوانين وممالك، ولم يؤسس (إن كان أسس شيئا) سوي قوة مادية غالبا ما انهارت قبل أن ينهار هو. أما محمد، فإنه أزاح جيوشاً وتشريعات، وهز شعوباً وعروشاً. بل هو هز فوق ذلك معابد وآلهة وأدياناً وأفكاراً، ومعتقدات وأرواحاً، وأقام على أساس كتاب صارت كل كلمة فيه قانوناً، وانتماء إلى أمة روحية تجمع شعوباً من مختلف اللغات والأجناس، وطبع في تلك الأمة بأحرف لا تمحى، مقت الآلهة المزيفة، وعشق الله الواحد الأحد المجرد.
ولا يفوت الباحث الدكتور أحمد درويش أن يشير إلي أن استقبال كتاب حياة محمد في الأوساط الثقافية الفرنسية في القرن التاسع عشر، كان مختلفا، خاصة عند المهتمين بقضايا الفكر الديني، والمتعصبين ضد الإسلام وحضارته، فقد وجهت إلي لامارتين تهم تصل إلي حد الإلحاد والكفر من جراء تعاطفه وإعجابه الشديد بشخصية محمد, والسيرة الحضارية الراقية لدعوته، وبالارتفاع بقيمة الشرق مصدر الحضارات ومنبع الديانات. ولم يكن موقف الأجيال التالية أقل قسوة علي الكتاب, فقد تم عمدا إهمال إعادة طباعته علي مدي ما يقرب من مائة وخمسين عاما منذ صدور طبعته الأولي سنة 1854 حتي صدور طبعته الثانية بالفرنسية هذا العام, في مناسبة احتفالية أقيمت في باريس وحملت عنوان شوقي ولامارتين, وصدور طبعته العربية في المناسبة نفسها لتكون متاحة لكل قراء العربية، وأصبح صدور الكتاب في طبعتيه: الفرنسية والعربية مجرد إنجاز واحد ضمن إنجازات شتي تمخضت عنها دورة شوقي ولا مارتين.(5)
ألفونس دو لامارتين: من أعظم منك يا محمد؟
يرى المستشرق الفرنسي، ألفونس دو لامارتين، أنه لا يوجد في البشر أعظم من رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال بهذا الصدد " لا يمكن لإنسان أن يقدم على مشروع يتعدى حدود قوى البشر بأضعف الوسائل، وهو لا يعتمد في تصور مشروعه وإنجازه إلا على نفسه ورجال لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة، يعيشون في منكب من الصحراء".
ويؤكد الدكتور، محمد المختار ولد أباه، أن "لا أحد تمكن من إنجاز ثورة عارمة دائمة في مدة قياسية كهذه، إذ لم يمض قرنان بعد البعثة حتى أخضع الإسلام، بقوته ودعوته، أقاليم جزيرة العرب الثلاثة، وفتح بعقيدة التوحيد بلاد فارس، وخراسان، وما وراء النهر، والهند الغربية، وأراضي الحبشة، والشام، ومصر، وشمال القارة الإفريقية، ومجموعة من جزر البحر المتوسط وشبه الجزيرة الإيبيرية، وطرفا من فرنسا القديمة ".
واعتبر المستشرق الفرنسي في ذات المقال أن "سمو المقصد وضعف الوسائل وضخامة الناتج، هي السمات الثلاثة لعبقرية الرجال"، مضيفا "فمن ذا الذي يتجاسر أن يقارن محمدًا بأي عظيم من عظماء التاريخ؟ ذلك أن أكثر هؤلاء لم ينجح إلا في تحريك العساكر، أو تبديل القوانين، أو تغيير الممالك، وإذا كانوا قد أسسوا شيئًا، فلا يُذكر لهم سوى صنائع ذات قوة مادية تتهاوى غالبًا قبل أن يموتوا".
كما ذهب إلى أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم تمكن من "استنفار الجيوش، وتجديد الشرائع وزعزعة الدول والشعوب، وتحريك ملايين البشر فوق ثلث المعمورة، وزلزلة البيع والأرباب والملل والنحل والنظريات والعقائد، وهز الأرواح معتمدا على كتاب صار كل حرف منه دستورًا، وأسس دولة القيم الروحية فشملت شعوبًا من كل الألسنة والألوان، وكتب في قلوب أهلها كراهية عبادة الأصنام المصطنعة، ومحبة الإنابة إلى الواحد الأحد المنزه عن التجسيم".
وأضاف دو لامارتين، أن "سيرة حياته (صلى الله عليه وسلم)، وتأملاته الفكرية، وجرأته البطولية على تسفيه عبادة آلهة قومه، وشجاعته على مواجهة شرور المشركين، وصبره على أذاهم طوال خمس عشرة سنة في مكة، وتقبله لدور الخارج عن نظام الملأ، واستعداده لمواجهة مصير الضحية بين عشيرته، وهجرته، وعمله الدؤوب على تبليغ رسالته، وجهاده مع عدم تكافؤ القوى مع عدوه، ويقينه بالنصر النهائي، وثباته الخارق للعادة عند المصائب، وحلمه عندما تكون له الغلبة، والتزامه بالقيم الروحية، وعزوفه التام عن الملك، وابتهالاته التي لا تنقطع، ومناجاته لربه، ثم موته، وانتصاره وهو في قبره، إن كل هذا يشهد أن هناك شيئا يسمو على الافتراء، ألا وهو الإيمان، ذلك الإيمان الذي منحه " صلى الله عليه وسلم" قوة تصحيح العقيدة.. تلك العقيدة التي تستند إلى أمرين هما: التوحيد، ونفي التجسيم، أحدهما يثبت وجود البارئ، والثاني يثبت أن ليس كمثله شيء، وأولهما يحطم الآلهة المختلقة بقوة السلاح، والثاني يبني القيم الروحية بقوة الكلمة ".
إلى ذلك، اهتدى ألفونس دولامارتين، إلى أن رسول الإسلام " تميز بالحكمة، والخطابة وجوامع الكلام، والدعوة إلى الله بإذنه، وسراج التشريع، والجهاد "، هذا بالإضافة إلى كونه " فاتح أبواب الفكر، باني صرح عقيدة قوامها العقل، وطريق عبادة مجردة من الصور والأشكال، مؤسس عشرين دولة ثابتة على الأرض، ودعائم دولة روحية فرعها في السماء". (6)
نص نادر للشاعر الفرنسي لامارتين في مديح المصطفى
الرباط : السيد ولد أباه
بعد الأزمة التي أحدثتها الرسوم الكرتونية المسيئة لنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، والجدل الإعلامي الذي دار حول موقف الثقافة الغربية من مقام نبي الإسلام، أصبح من المثير الإشارة إلى المواقف الايجابية التي تتعلق بتصور فلاسفة أوروبا ومبدعيها الكبار من النبي الكريم. من هنا تصبح قصيدة الشاعر الفرنسي الشهير الفونس دي لامارتين. والتي تقدم " الشرق الأوسط " ترجمتها من قبل احد المختصين، نوعا من الإسهام في تجلية كامل الصورة بين الجنوب والشمال..
الشاعر الفرنسي الكبير الفونس دي لامارتين، أحد أشهر شعراء فرنسا في القرن التاسع عشر، وحامل لواء الشعر الرومانسي، والذي لقب شاعر البحيرة، نسبة إلى أشهر قصائده، يكتب هنا نصا جميلا ينضح بمحبة وتقدير للرسول الكريم. ومن الغريب أن هذا النص لم يشتهر بالعربية.
و" الشرق الأوسط " تنشر هذا النص الجميل بترجمة العلامة الموريتاني الدكتور محمد المختار ولد اباه على الدكتوراه من جامعة السوربون وصاحب المؤلفات في الفقه واللغويات. وللمترجم كتاب في السيرة النبوية طبع مرات كثيرة في المشرق والمغرب. كما أن له ديوانا في السيرة النبوية بالفرنسية. وترجم أخيرا معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية واعتمدت الترجمة لدى المجامع الإسلامية.
* من أعظم منك يا محمد؟
* لا أحد يستطيع أبدا أن يتطلع، عن قصد أو عن غير قصد، إلى بلوغ ما هو أسمى من ذلك الهدف، إنه هدف يتعدى الطاقة البشرية، ألا وهو: ـ تقويض الخرافات التي تجعل حجابا بين الخالق والمخلوق، وإعادة صلة القرب المتبادل بين العبد وربه، ورد الاعتبار إلى النظرة العقلية لمقام الإلوهية المقدس، وسط عالم فوضى الآلهة المشوهة التي اختلقتها أيدي ملة الإشراك.
لا يمكن لإنسان أن يقدم على مشروع يتعدى حدود قوى البشر بأضعف الوسائل، وهو لا يعتمد في تصور مشروعه وإنجازه، إلا على نفسه ورجال لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة، يعيشون في منكب من الصحراء. ما أنجز أحد أبدا في هذا العالم ثورة عارمة دائبة، في مدة قياسية كهذه، إذ لم يمض قرنان بعد البعثة حتى أخضع الإسلام، بقوته ودعوته، أقاليم جزيرة العرب الثلاثة، وفتح بعقيدة التوحيد بلاد فارس، وخراسان، وما وراء النهر، والهند الغربية، وأراضي الحبشة، والشام، ومصر، وشمال القارة الأفريقية، ومجموعة من جزر البحر المتوسط، وشبه الجزيرة الأيبيرية، وطرفا من فرنسا القديمة.
فإذا كان سمو المقصد، وضعف الوسائل، ضخامة النتائج، هي السمات الثلاث لعبقرية الرجال، فمن ذا الذي يتجاسر أن يقارن محمدا بأي عظيم من عظماء التاريخ؟ ذلك أن أكثر هؤلاء لم ينجح إلا في تحريك العساكر، أو تبديل القوانين، أو تغيير الممالك؛ وإذا كانوا قد أسسوا شيئا، فلا تذكر لهم سوى صنائع ذات قوة مادية، تتهاوى غالبا قبل أن يموتوا. أما هو فقد استنفر الجيوش، وجدد الشرائع، وزعزع الدول والشعوب، وحرك ملايين البشر فوق ثلث المعمورة، وزلزل الصوامع والبيع والأرباب والملل والنحل والنظريات والعقائد، وهز الأرواح.
واعتمد على كتاب صار كل حرف منه دستورا، وأسس دولة القيم الروحية فشملت شعوبا من كل الألسنة والألوان، وكتب في قلوب أهلها ـ بحروف لا تقبل الاندثار ـ كراهية عبادة الأصنام المصطنعة، ومحبة الإنابة إلى الواحد الأحد المنزه عن التجسيم. ثم دفع حماسة أبناء ملته لأخذ الثأر من العابثين بالدين السماوي، فكان فتح ثلث المعمورة على عقيدة التوحيد انتصارا معجزا، ولكنه ليس في الحقيقة معجزة لإنسان، وإنما هو معجزة انتصار العقل.
كلمة التوحيد التي صدع بها ـ أمام معتقدي نظم سلالات الأرباب الأسطورية ـ، كانت شعلتها حينما تنطلق من شفتيه تلهب معابد الأوثان البالية، وتضيء الأنوار على ثلث العالم. وإن سيرة حياته، وتأملاته الفكرية، وجرأته البطولية على تسفيه عبادة آلهة قومه، وشجاعته على مواجهة شرور المشركين، وصبره على آذاهم طوال خمس عشرة سنة في مكة، وتقبله لدور الخارج عن نظام الملأ، واستعداده لمواجهة مصير الضحية بين عشيرته، وهجرته، وعمله الدؤوب على تبليغ رسالته، وجهاده مع عدم تكافؤ القوى مع عدوه، ويقينه بالنصر النهائي، وثباته الخارق للعادة عند المصائب، وحلمه عندما تكون له الغلبة، والتزامه بالقيم الروحية، وعزوفه التام عن الملك، وابتهالاته التي لا تنقطع، ومناجاته لربه، ثم موته، وانتصاره وهو في قبره، ـ إن كل هذا ـ يشهد أن هناك شيئا يسمو على الافتراء، ألا وهو: الإيمان، ذلك الإيمان الذي منحه (ص) قوة تصحيح العقيدة، تلك العقيدة التي تستند إلى أمرين هما: التوحيد، ونفي التجسيم: أحدهما يثبت وجود البارئ، والثاني يثبت أن ليس كمثله شيء. وأولهما يحطم الآلهة المختلقة بقوة السلاح، والثاني يبنى القيم الروحية بقوة الكلمة.
إنه الحكيم، خطيب جوامع الكلم، الداعي إلى الله بإذنه، سراج التشريع. إنه المجاهد، فاتح مغلق أبواب الفكر، باني صرح عقيدة قوامها العقل، وطريق عبادة مجردة من الصور والأشكال، مؤسس عشرين دولة ثابتة على الأرض، ودعائم دولة روحية فرعها في السماء، هذا هو محمد، فبكل المقاييس التي نزن بها عظمة الإنسان، فمن ذا الذي يكون أعظم منه؟ (7)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر
(1) ريم عبدالحميد / مقال في الانترنيت
(2) د. ريم منصور الاطرش، ألفونس دي لامارتين، تاريخ تركيا، 1، ص 276-280).
(3) مرزاق بقطاش، الشاعر لامارتين والرسول صلى الله عليه وسلم
(4) أحمد مراد : ألفونس دي لامارتين
(5) فاروق شوشة في جريدة الأهرام الصادرة 10-12-2006
(6) د، محمد المختار ولد أباه (ترجمة)، العدد 546 يوليو/ 2012 من مجلة الوعي الإسلامي الكويتية،
(7) السيد ولد أباه / الرباط
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: