د - ضرغام الدباغ - ألمانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1784
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
كنت مرة أحدث صديقا حميما لي عن معتقل بوخنفالد، وحاول هذا الصديق بحسن نية، أن يشبه هذا المعتقل بمعتقلات أخرى، فلما ذكرت له بعض من مواصفات معتقل بوخنفالد، تراجع فوراً، وأعتذر. وبتقديري أن البشرية قد شهدت مظالم كثيرة، عبر تاريخها الطويل، ولكن لا شيئ يضاهي المعتقلات التي أقامها النظام الهتلري النازي، في ابتعادها عن الضمير البشري، بل هي نموذج نادر لنظام يتخذ التصفية منهجاً، ومن هنا تأتي أهمية أن لا تنسى البشرية عذابات مئات الألوف، بل الملايين ممن دخلوا سجون النازية، ومنهم من صفي داخل المعتقلات وأعداد كبيرة فارقوا الحياة فور منحهم الحرية، فأجسادهم الهزيلة لم يعد بوسعها أن تعيش كالبشر في الحرية، بعد أن اعتادت على حياة أقل من ذلك بكثير ...بكثير جداً، عشرات الألوف فارقوا الحياة فور تحرير معتقلاتهم ماتوا قرب الأسلاك الشائكة. إنه لمنظر يحرض على التأمل العميق وإعادة النظر ... وبالطبع الحزن العميق...! أن يموت الإنسان من العطش على حافة النهر ..!
قمت مرة بزيارة إحدى معسكرات الاعتقال، في المدخل المؤدي للمعتقل، هناك مكتب استعلامات يضم كراسات تنطوي على معلومات مختلفة عن المعتقل، ومن بين ما مكتوب.. أن مئات الألوف من المعتقلين من كافة الجنسيات والقوميات والأديان والمعتقدات السياسية فقدوا حياتهم هنا في هذا المعتقل، صرت أنظر إلى قمم الأشجار الباسقة المعمرة، إلى أرجاء الغابات التي تحيط بالمعتقل، لا شك أن أنظار مئات الألوف من هؤلاء المحرومين من الحرية كانت تصافح هذه المناظر يومياً، وعلى مدار الساعة كان هنا رجال ونساء تفارق أرواحهم الأجساد.
في هذا المعتقل (كما في معتقلات النازية الأخرى) أقيمت محرقة للجثث، وكان دخان حرق البشر يتصاعد ليعكر صفو ونقاء الغابات الجميلة، وفي خضم هذه الأفكار انتابتني مشاعر حقيقية مادية أكاد أشعر بها حسياً، أن أرواح البشر تحلق فوق هذا المكان أنها تنظر إلى المكان وقد أصبح متحفاً، تضحياتهم مسجلة هنا، وأسماءهم مدونة بدقة وجنسياتهم وقومياتهم، إنها تطالب البشرية أن تسمو المبادئ وأن تحترم جراح البشر وعذاباتهم .... الإنسان أثمن رأسمال .. نعم الإنسان يحب ويتغزل بحبيبته، ويتفاعل مع مناظر الطبيعة، يتألم للألم الإنسان، أما عندما يحمل عصا أو آلة جارحة أو قاتلة فلا توجد نظرية شريفة على وجه الأرض تجيز تعذيب البشر، تقبل بالتصفية على أساس اللون والعرق ولون الشعر والعيون، من يفعل ذلك فهو لا ينتمي للبشرية، هو ينتمي لصنف آخر.
لقد شاهدت في فلم وثائقي (Decumentarfilm) محاكمة مجرمي النازية بعد الحرب، بينهم أطباء وطبيبات، وجوههم قاسية صلفة، لا أثر للخجل أو الندم فيها، ارتكبوا جرائم لا تصدق لفظاعتها، يستحيل أن تقدم عليها حتى الضباع والذئاب المسعورة، أن وسائل الثقافة تعرض أفلاماً وثائقية وسينمائية، والفنون التشكيليون يرسمون وينحتون أعمالاً تخلد هؤلاء الذين ماتوا على أيدي الذئاب البشرية. إن أهمية أن تبقى هذه الأهوال في الذاكرة لكي نثقف الأجيال المقبلة، أن الاعتداء على الإنسان هو فعل غير إنساني، هو عار ينبغي أن ينال الإدانة الواضحة والصريحة، لا ينبغي أن يتردد أي إنسان في الوقوف ضد التصفية والتعذيب العرقي والديني أو تحت أي شعار آخر.
لقد زرت عدة مرات معسكر معتقل سكسونهاوزن القريب من برلين (شمال برلين نحو 70 كم) كما زرت معسكر اعتقال بوخنفالد في فايمار بولاية أيرفورت ، (نحو 400 كم جنوب برلين) والفظائع التي يشاهدها المرء يصعب حتى أصحاب القلوب القوية تحملها ..! حتى الحيوانات المتوحشة لا تفترس ضحاياها بهذه الوحشية.. بدرجة أني أجزم أن من يشاهد بوخنفالد تتغير طباعه بعدها، إلى شيئ آخر ..
في هذا الكتاب ترجمنا وبحثا في أربعة معتقلات للنازية : داخاو، رافينبروك، بوخنفالد، وميدانيك ــ لوبلين، وآوشفيتس، وهي تمثل أصناف من المعتقلات، داخاو كانت البداية، رافينبروك كان معتقلاً للنساء، بوخنفالد، ثم معسكر الاعتقال الأقذر وآوشفيتس وميدانيك تمثل بجدارة لطخة عار في تاريخ البشرية فقد كان مخصصاً لأن يكون معسكر تصفية.
المعتقل النازي (Konzentretionlager) هو يجمع خصائص السجن والمعتقل. فالسجن هو مكان يودع من حكم عليه بعقوبة الحرمان من الحرية، لمدة معينة، والمعتقل هو من تقرر سلطات عرفية / عسكرية إيداع من تعتقد أنه خطر على الأمن العام ولكن بموجب معطيات مادية، لا بالشبهة والظن، ولا ضمن عقوبات جماعية، أما معتقلات النازية فكانت تجمع الخصائص وبلا خصائص، فيكفي أن يكون الرجل، أو المرأة أو الطفل من ديانة معينة لكي يودع في معتقلات النازية، أو من عرق معين كأن يكون غجري، أم مخالف لرأي الدولة السياسي كأن يكون شيوعياً، أو أشتراكياً ديمقراطياً، أو أسير حرب.
والمعسكر هو غالباً مساحة كبيرة في البداية المدخل وهو أيضاً مقر قيادة المعتقل، والغريب أن مدخل المعسكر / المعتقل، مزين بجملة تحمل المشاهد على الضحك، رغم أن الضحك سوف يغادرك لساعات طويلة، الجملة هي " (Arbeit macht Freiheit) العمل تعمل الحرية"، أي حرية وأي عمل ..؟ إذا كانت الحرية قد أصبحت بعيدة المنال، وأما العمل، فالمعتقلون كانا يجبرون على العمل كحيوانات لا تنال من العلف (الغذاء) ليمكنها مواصلة العمل، فالفاشست لم يكن يهمهم أن لا يحتمل المعتقل إرهاق العمل فيموت .. بل كان هذا هو المطلوب للإبقاء على حجم معين من العمالة (المعتقلين). ثم تنتشر المهاجع بتراصف، على شمل مستطيلات، أو نصف دائرة بحجم واحد ويطلق عليها (براكات) وهي غالباً من الخشب، فيها أسرة متراصفة خشبية بثلاث طوابق، والخشيات من نشارة الخشب.
الطعام لم يكن شيئاً مذكوراً، لذلك يندر من عاش لسنوات طويلة، فالبعض توفوا ووزنهم لا يتجاوز 25 كيلو. والكثير جداً من المعتقلين توفوا فور إطلاق سراحهم أو بعدها بساعات، وهذه ملاحظة تستحق الأنتباه والتحليل. على الصعيد الصحي كانت تجرى الأختبارات الطبية على المعتقلين، أختبارات بشعة في الغاية ومؤلمة في التطبيق، كان الكثير ممن تجري عليهم الاختبارات يتوفون خلال الأختبار أو بنتيجته، ونادراً من كان يفلت منها حياً. ولكن أفلت منها عدد يكفي ليكونوا شهوداً في محاكمة دولية، لم تدين المجرمون فقط، بل أدانت الفاشية بأسرها ..
المعتقلات كانت بدرجات، فمنها من مان يعتبر كمراكز للتجميع، ثم منها ما كان يعتبر كمحطات، وأخرى للتسفير، ومنها كانت معتقلات إيداع، وأخيراً كان هناك نحو 8 معتقلات تعتبر معتقلات تصفية منها آوشفيتس وميدانيك، الضحايا فيها بمئات الألوف أو الملايين، المودع فيها لا يأمل الخروج حياً، بل ينتظر الموت القادم من خلال العمل المرهق (سخرة)، أو الأمراض، أو الاختبارات الطبية أو غيرها، أو الإعدام رمياً أو شنقاً، أو في غرف الغاز، ثم تحال الجثة للمحرقة، ويصبح رماداً في حفر. وهناك نحو 48 ــ 52 معتقلاً بتصنيفات قوية كبوخنفالد ورافينبروك وسكسون هاوزن وداخاو، ونحو 6ـ 8 مواقع شهدت مجازر عرقية وسياسية وعنصرية. هذا ناهيك عن عشرات مراكز الاعتقال والتوقيف والتسفير.
المعتقلات النازية لطخة عار في جبين الفكر العنصري والتطرف، واليوم ربما تحاول جهة أو دولة، عظمى أو غير عظمى أن تعيد ذات المسلسل ولكن بإيقاع آخر. بتحوير بسيط في المشهد، بإخفاء معالم الجريمة، أو بمنحها ملامح جديدة، ولكن بنتيجة واحدة، تتمثل بسحق المعتقل السياسي، ولا يهم ماذا أرتكب، بل أن عرقه، أو دينه، أو لون بشرته، أن فكرته السياسية، وليس بالضرورة يعتنقها ضمن حزب سياسي، بل يكفي أن يبدي معها نوع وشكل من أشكال التأييد والتعاطف. أو أفعال في إطار تصفيات عرقية أو طائفية، أو دينية. وبهذا المجال لابد أن نذكر أن سجن أبو غريب في بغداد / العراق، الذي هو في الأساس سجن نظامي، تحول إلى معتقل ومسلخ بشري مرعب، أستحق أن يسجل في سجلات المعتقلات الأكثر وحشية في التاريخ. ومعتقل غوانتنامو والذي ليس بأفضل كثيراً من معتقلات النازية، والمعتقلات التي أقيمت في أفغانستان والعراق في أعقاب الاحتلال الأمريكي كانت تنطوي على جرائم إبادة صريحة، وضد الإنسانية.
وأخيراً وليس آخراً ... نود القول والتذكير، أن جرائم الإبادة والعنصرية وجرائم الحرب هي غير قابلة للسقوط بفعل التقادم، ومن يعتقد أنه اليوم خارج المحاسبة والمساءلة، ففي غد قد لا يتوفر له غطاء يعفيه من المثول في قفص الاتهام، ومن شيد داخاو وبوخنفالد وكان يتبختر فيها كالطاؤوس، لم يكن يعتقد أنه سيقف ذات يوم في قفص الاتهام، ويمثل أمام المحكمة ليحاسب على ما اقترفته يداه.
إن الغاية الأساسية من استذكار هذه القسوة، بل قل الوحشية، هو بلورة وعي نهائي، أن لا نقبل بالقتل على الهوية، وأن نرفض القتلة وندينهم، وندين الفكر العنصري التصفوي، من المفيد أن ننبه الناس ونحذرهم، أن خطراً كبيراً يحدق بنا، إن تهاونوا أو أهملوا مراقبة المجرمين، نريد أن نقول للناس رفضوا من اللحظة الأولى ثقافة التصفية والانتقام والثأر... فهذه مصطلحات تخفي السكاكين في ثناياها، يسيل منها الدماء... والألام والآهات والإهانة للإنسان وللإنسانية جمعاء..
أيها الناس احذروا .... احذروا ...!
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: