ترجمة : ضرغام الدباغ
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1932
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
مرتان انطلقت فيها السهام من قوسه، وفي المرتين أصابت السهام هدفها. المناضل، الرامي الماهر بالسهم، لم ينقذ حياته وحياة أبنه فحسب، لكنه ساهم في النضال التحرري للشعب السويسري من الاضطهاد. وليم تيل Wilhelm Tell ، هل هو أسطورة ؟ أم خرافة، أم ترى هو بطل حقيقي ؟ أم هو رمز لنضال الشعب ؟
يعد وليم تيل، شخصية أسطورية ليس بوصفه بطلاً لشعبه السويسري، بل أن شهرته عبرت بلاده الصغيرة الكائنة في وسط أوربا إلى العالم بأسره، والذي أضحى رمزاً من رموز المقاومة ضد الاضطهاد.
ليس كتاب التاريخ وحدهم، بل والأدباء أيضاً، لم ينسوا وليم تيل في أعمالهم، كالشاعر الألماني الكبير فردريك شيللر 1759ـ1805، فساهموا في صنع شعبيته وشهرته. ففي 18 / مارس ـ آذار / 1805 افتتحت مسرحية وليم تيل التي كتبها شيللر على خشبة مسرح هوف تياتر في فايمار، وفيها عبرت شخصية تيل عن قوة الشعب وأرادته، والدفاع عن الوطن كضرورة، الشخصية التي تصدت بشجاعة لجور الطاغية جيسلر، فقتله، وبذلك أعطى الإشارة لبدء النضال ضد الحكم الطغياني الجائر لأمراء آل هابسبورغ. وبالنسبة لشيللر، فقد عبرت هذه التعابير عن النضال من أجل الحرية والعدالة.
"هيه ... والدي، أنظر إلى القبعة هناك على العمود" فأجاب تيل ولده الصغير فالتر " ما لنا والقبعة ... هيا، دعنا نمضي من هنا "
هكذا ابتدأت المسألة في مسرحية شيللر في أحداث جرت على مرتفع بالقرب من قرية تدعى أوري. واتخذت أبعادها الإشكالية " بخروج تيل على نظام السيادة لأمراء الأرض، لاسيما الأمير جيسلر والذي كان يترك قبعته كرمز لسلطته على عمود، وعلى كل من يمر من هناك، أن يؤدي التحية لهذه القبعة ويواجه المخالفون العقوبات القاسية.
بذلك اظهر تيل عدم رضوخه لتقاليد الاضطهاد، ولكن احتقاره للسلطات لم يكن ليمضي بعيداً، إذ قام أحد المرتزقة واسمه فريسهارت، وفاجأ تيل معترضاً وبيده رمح قائلاً " بأسم الملك، لا تتحرك " ثم أن هذا المرتزق وضع تيل في السجن، لأنه لم يحترم قبعة الطاغية. وقام الصغير فالتر بإرسال رسالة يطلب فيها لمساعدة. وبالفعل، خف بعض الفلاحين للنجدة، وهكذا توفرت البدايات لنزاع طويل وكبير. وإذ هَم الفلاحون القيام بالهجوم على السجن وتحرير تيل، أقتحم في هذه اللحظات، جواد جيسلر الميدان، مع تعالي هتاف مرافقوه وحاشيته: أفسحوا الطريق ... أفسحوا الطريق ... جاء الأمير ".
أراد جيسلر أن يعلم ما قد حدث، وكان قد سمع عن تيل وشجاعته، وبالأخص مهارته في رماية السهام، فقرر أن يجري هذا الاختبار القاسي:
" على الأب تيل أن يطلق سهماً على تفاحة توضع على راس الغلام فالتر، من على بعد مئة خطوة ". وكان جيسلر بمقترحه هذا خبيثاً، فأمر أن توضع تفاحة على رأس ولده، وأن يطلق الأب سهماً عليه عقاباً له لعدم أداءه التحية للقبعة.
المجازفة كانت بالتأكيد كبيرة، فتقدم تيل بالرجاء بالعفو عنه وعن ولده، ولكن جيسلر كان قاسياً وأصر على قرار الحكم الجائر الذي أصدره: إما أن تطلق السهم، أو أن تموت أنت وولدك معاً ".
وببطء استعاد تيل هدوءه وتمالك أعصابه واستعد لأجراء المخاطرة الرهيبة، وأظهر فالتر الصغير شجاعة فائقة عندما رفض أن تعصب له عيناه. وقام الأب تيل بتوتير قوسه للحظة، ولكنه ما لبث أن أخفض القوس.
كان تيل يعاني من صراع رهيب: يداه ترتجفان، والعينان تنتقلان بسرعة بين ولده والأمير، ثم إلى السماء، ثم بادر إلى سحب سهم من كنانته، ووضعه في مجراه. كان تيل يعد نفسه ببطء لتنفيذ الواجب الغير أنساني، أطلق السهم من قوسه، وأصاب التفاحة في الوسط. أسرع فالتر إلى والده الذي حمله عالياً وأحتضنه بقوة وضمه لصدره وإلى قلبه. وفي هذا الموقف خر تيل على الأرض فاقداً قواه، فيما تعالت صيحات النضارة من الناس.
وكان جيسلر يريد أن يشارك تيل فرحته، وأن يشارك الناس تصفيقها، ولكنه لاحظ أن تيل قد استعد ووضع سهماً آخراً في قوسه، وأدرك ما سيفعله تيل، الذي هتف بقوة مؤكداً مخاوف جيسلر :"
وهذا السهم الثاني الذي سأطلقه عليك، إذا أصاب ولدي مكروه، فأسرع جيسلر بإصدار أوامره لاعتقال تيل، المتمرد الذي لا يريد أن يخضع.
جرت هذه الأحداث الدرامية، عام 1307. ولكن للأسف فإن الأحداث وإن أخرجت بشكل جذاب في مسرحية شيللر، إلا أنها كانت تنطوي على سلبية مهمة: أن جزءاً كبيراً من هذه الأحداث لم تكن حقيقية، ولكن الشاعر الألماني الكبير شيللر لم يخترعها، بل هو استعار اتجاها آخر، يحمل عنوان: تاريخ سويسرا، اعتمادا على أحداث صحيحة كانت قد جرت في سويسرا عام 1671. وكان أحد المؤرخين وهو أجيديوس تشودي 1505 ـ 1572، قد كتب عن هذه الأحداث والذي وضع كتاباً يتضمن أحداث تلك المرحلة الهامة من تاريخ سويسرا، و لا تتطابق أخباره عن وليم تيل مع المعطيات حسب تسلسلها، بل هي موضوعة على حسب ما وصل إليهم من أنباء التاريخ.
وهكذا ظهرت شخصية وليم تيل فيما يسمى بالكتاب الأبيض لمؤلفه زارين عام 1470، وفي النشيد الوطني الأتحادي السويسري عام 1477، وكل هذه الكتابات بمجموعها تخبرنا عن شخصية رجل واحد: وليم تيل، وهل هو حقيقة أم أسطورة، وبموجب جميع الآراء إنها شخصية لم تكن، وعن حوادث لم تقع مطلقاً، بل هو شخصية فنتازيا ولم توجد مطلقاً، بل هي خرافة.
ضربة التفاحة ليست الحادثة الوحيدة
موضوعة الأسطورة: بطل يرغمه حاكم طاغية على أطلاق سهم، حدث قد ورد في سير عديدة لأبطال في القرون الوسطى. فقد كان هذا النمط من العقوبات (يزعم الحكام أنها أحكام إلهية ـ المترجم)، سائداً في القرون الوسطى، إذ جرى ربط العدالة المطلقة بالآلهة، يلتجأ إليها البشر ويناديها عندما لا يلبي العدل على الأرض حاجة البشر. وبالطبع تزعم السلطات بأنها تطبق العدالة الإلهية، لذلك كان دعاء الحكام إلى الله أو الأستعانة به أمراً سهلاً كوسيلة لأحداث التأثير والضغط من أجل تثبيت سلطة الحكام.
دارت مطارحات طويلة في موضوعة: البطولة والوطنية في شخصية وليم تيل. وهناك أيضا الشخصية البطولية الأسطورية توكو باتا وحول هذا المحارب الشجاع كتب المؤرخ الدانمركي ساكسو جراماتيكوس في القرن الثاني عشر، الذي يوصف بكونه من رماة السهم الماهرين، وهو ما هّيج وحشية الملك الدانمركي هارالد بلوتسان، وأن يطبق نفس خطة الطاغية السويسري، فقد أمر بفعل ما قام به تيل بإطلاق سهمه على تفاحة فوق راس وولده. وتتكرر نفس الأحداث، إذ يعد باتا سهمين، يصيب البطل الدانمركي باتا التفاحة من السهم الأول، فيما يصوب السهم الثاني صوب الملك الطاغية، كما ترافقها أحداث تشبه الانتفاضة.
في القرن الثامن عشر قام القس السويسري فرويدمن بيرغر بكتابه: أخبار تيل في أعالي الشمال، وفي عام 1760 نشر بحوثه المثيرة للجدل عن وليم تيل ودعا فيها إلى أعادة النظر في المسألة برمتها، معتبراً إياه من شخصيات الأساطير. فمنع كتابه في العديد الكانتونات السويسرية، أما في أوري، (المكان المفترض كمسقط رأس وليم تيل) فقد أحرق الكتاب علناً.
الإشارة من أجل الانتفاضة
تعبر مسرحية شيللر: وليم تيل، عن العنف حيال أمراء الأرض الطغاة، مما أودى به إلى السجن، ثم نقله بواسطة السفينة عبر البحيرات إلى كوستاخت وفي خلال الرحلة هبت عواصف جعلت من البحيرة جحيماً هادراً، وأحس خدم السفينة أن ساعتهم الأخيرة قد حلت، وهنا كان لابد من الاستعانة بالبطل تيل الذي كان أيضاً بحاراً ماهراً. فقام جيسلر بنفسه حل وثاق تيل الذي قام بقيادة السفينة إلى اليابسة، حيث قفز تيل إلى البر واستطاع الفرار، فيما استطاع الآخرون بعده بقليل من النزول على البر.
أضاع الحاكم الوحشي حياته عندما قرر البطل تيل أن يأخذ بثأره وأن يطرد الطاغية، ووضع حد لطغيانه وجوره. وعندما وضع شيللر مسرحيته قرر أن يأخذ بما كتبه تشودي.
أبتدأت فعاليات الثأر والأنتقام " في أرجاء البلاد السويسرية، في المرتفعات والجبال " حيث كان تيل يعرف الطرق والمسالك. و كمن له بالمرصاد في منطقة أحراج صخرية، إذ كان يعلم أن جيسلر سوف يمر من هذا الموضع، عائداً إلى قلعته " من خلال هذا الممر الجبلي سوف يأتي، فليس من طريق آخر يقود إلى ما يريد الوصول إليه، هنا ستكون النهاية الأخيرة له " لهذه الكلمات التي وضعها شيللر على فم بطل مسرحيته، إعلان على العزم.
وللمرة الأخيرة، حسب رؤية شيللر الشعرية، أظهر جيسلر شيئاً من روحه الشريرة:" أريد أن أنحني للروح الجسورة المحبة للحرية، أريد أن أضع قوانين جديدة في هذه البلاد ... أريد أن أغرس سهمي القاتل في جسده، هكذا يضرب تيل".
وعندما أحاط تيل والثوار بالمكان من كل جانب، و يصوبون أسلحتهم من فوق الصخور، هتف تيل: " ليس بوسعك أن تحمي نفسك من ضربتنا، حرة هي الأكواخ، في أمان من ظلمك هم الأبرياء، ليس بوسعك بعد اليوم أن تؤذي البلاد ".
وعند شيللر، فإن قتل الطغاة هي إشارة، سهم ناري من أجل إعلان انتفاضة شعب البلاد، وسرعان ما انطلقت الشرارة وابتدأ النضال من أجل الحرية، وها هم الثوار يحيطون بالقلاع وسرعان ما سوف يحطمون قيودهم.
تشودي ومؤرخين آخرين، من الذين اهتموا بالتاريخ السويسري وسجلوا أحداث الانتفاضة وصمودها، ربما فعلوا ذلك دون إحاطة تامة منهم بأحداثها، إذ لم يكن في تلك الأوقات مصادر دقيقة كما هو الحال في عصرنا الراهن، وعدا ذلك، فقد مثل وليم تيل كشخصية بطل أسطوري لمؤرخين أمثال تشودي. وكانت سويسرا مهددة بالصراعات والالتزامات المرافقة للإصلاحات. وبدلاً من التفكير في المصالح المشتركة، اندلعت في سويسرا صراعات وخصومات بحيث يعمد المؤرخين إلى إضفاء نوع من الهالة على مرحلة التأسيس، ومن هنا فإن خلق أسطورة شخصية حية وجميلة، أمر مهم من أجل إضفاء أفكار وذكريات النضال التحرري على وحدة البلاد.
ولادة سويسرا
كما هو غالباً في كتب التاريخ، جرى في عصر وليم تيل نضال مرير في سويسرا من أجل السلطة والنفوذ. وكانت أراضي دولة سويسرا المعاصرة منذ عام 1032 تعود إلى دولة الروم المقدسة للشعب الألماني، ثم استولى النبلاء والأمراء على مناطق الجبال وأقاصي البلاد. فتكونت فئات من أمراء الأرض من الهابسبورغيين الذين كانوا يهدفون دوماً إلى توسيع سلطاتهم.
وسرعان ما وضع القيصر الألماني اهتمامه على أوري وشفايتز، فمن هناك كانت طرق التجارة المهمة تمر قاطعة سلسلة جبال الأب، لذلك كانت أوري منذ عام 1251 تحت حماية القيصر القيصر، ونالت شفايتز كذلك حريتها عام 1240 وكلا المدينتان كانتا بذلك تحت الرعاية المباشرة للقيصر الألماني.
لم تستمر طويلاً سعادة المدينتان الواقعتان في قلب الغابة. وتقسيم سويسرا إلى كانتونات جعلها تقع على بحيرات، ما لبثت أن انتخبت عام 1273 غراف رودولف فون هابسبورغ ملكاً، وكان اهتمامه الرئيسي يقع في إطار توسيع إمارة هابسبورغ في قلب سويسرا اليوم، وسعى إلى إقامة دولة ذات نظام، ومنصب الأمراء كحكام وكلفهم بأعمال الإدارة في مقاطعاتهم، ولكن القليل منهم من قام بأداء التزاماتهم الإدارية، مقابل انغماسهم بأعمالهم الشخصية ومصالحهم الاقتصادية، لذلك ساءت سمعتهم مما أدى إلى خشية السكان في هذه المناطق على حقوقهم، لذلك تصاعد وأشتد بالمقابل ضغط الهابسبورغيون، وعندما توفي رودولف الأول عام 1291، استغل السكان هذه المناسبة ووحدوا أمرهم.
وإلى جانب أوري وشفايتز، شاركت منطقة الغابات السفلى أيضاً، وعلى الرغم من أنه لم تكن هناك حقوق معروفة لنيل الحرية. وفي 1/ أغسطس ـ آب التقى مندوبوا المقاطعات الثلاث، وكان لقاءاً تاريخياً في غاية الأهمية.
وحسب تقاليد روتلي التي تقع على ضفاف بحيرة أورنر حيث أبرم الاتفاق مشفوعاً بالقسم الشهير على صيانة التحالف في الحماية والتحدي. ولم يكن في وقته معلوماً بأنهم يضعون بذلك جحر الأساس لدولة جديدة كما أتفق الأطراف الثلاثة أن يقدموا المساعدة لبعضهم، في المقام الأول في حالة تعرض أحد الأطراف لهجوم من الهابسبورغيين.
يذكر شيللر قسم روتلي الشهير في مسرحيته على الرغم من أنه وضع كلمات ملتهبة على أفواه أشخاصه التي ألهبت مسرحيته.
ومن ثم ... فإن أي اتفاقيات لاحقة كانت تنطوي على اتفاقيات لاحقة كانت تنطوي على اتفاقات مماثلة في وثائق منتظمة. وبهذا ولدت سويسرا الأولى التي طرحت نفسها قوية منذ تأسيسها في الدفاع عن نفسها وطردوا الأمراء المكروهين وحصنوا قلاعهم، وشيئاً فشيئاً التحقت كانتونات أخرى إلى الاتحاد السويسري وانظموا إلى الاتفاقيات المبرمة في الدفاع المشترك وفشلت كافة المساعي الهابسبورغيين في استعادة المناطق السويسرية تحت سلطانهم، حيث خسروا معركتين حاسمتين أبيد فيها النمساويون: في معركة مورغارتن عام 1315، وسيمباخ 1386.
تيل لا يموت
وليم تيل والأمير جيسلر، موجودان في تاريخ سويسرا التي تعتز اشد الاعتزاز بأبطالها الوطنيين. وتمثال وليم تيل الذي ينتصب تحت ضلال علم البلاد تذكر من لا يعلم بنضال أبطال الحرية، وهناك الكثير من المتاحف والمحلات والمقاهي والمطاعم باسمه. ولا يزال الموقع الافتراضي الذي حدثت فيه المواجهة حسب الأسطورة "الممر العالي" بالقرب من سيمباخ وروتلي، وهي تعج بالزوار في المواسم الجميلة من السنة من المتنزهين والسواح، وليس من شك أن تيل ما زال يعيش، فهو يجسد القيمة الأساسية للإنسانية وهي: الحرية .