د. ضرغام الدباغ - ألمانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6258
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
مقدمة
أوتو فون بسمارك : Otto von Bismarck، ولد في 1 / أبريل/ 1815، وتوفي بتاريخ 30 / يوليو/ 1898هو رجل دولة وسياسي بروسي - ألماني، شغل منصب رئيس وزراء مملكة بروسيا بين 1852 ــ 1890، كان له الدور الأكبر في توحيد الولايات الألمانية وتأسيس الإمبراطورية الألمانية أو ما أطلق عليه بـ "الرايخ الألماني الثاني", وأصبح أول مستشار لها(رئيس وزراء) بعد قيامها في عام 1871، حتى قام الأمبراطور فيلهلم الثاني بعزله عام 1890، ولدوره السياسي / التاريخي الهام خلال عمله كمستشار للرايخ الألماني، وضع أسساً للعمل، وأثرت أفكاره وتوجهاته على السياسة الداخلية والخارجية لألمانيا في نهاية القرن التاسع عشر.
أعتبره الكثيرون من الألمان، البطل القومي التاريخي للشعب الألماني (ووصف بالمستشار الحديدي)، كما أشاد المؤرخون بدوره كرجل دولة ساهم في الوحدة الألمانية، واستخدم سياسة توازن القوى للحفاظ على السلام في أوروبا في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر.
في أوربا كانت دولتان تعانيان من نتائج سياسية واقتصادية ووطنية وخيمة من جراء تفتتها إلى دويلات، ولحق بهاتان الدولتان خسائر كبيرة في مقدمتها، أن الدولتان تأخرتا في دخول عالم الثورة الصناعية ونجم عن ذلك شيوع الفقر داخل البلدين، ثم كان السباق صوب التصنيع لم يكن سهلاً، بالإضافة إلى أن التوحيد كان بحد ذاته عملية شاقة داخلياً، لأن التجزئة لها معسكرها، من المستفيدين والفاسدين والأنتهازيين ومن عملاء القوى المضادة، ومن هؤلاء الذين يعتقدون أن مكتسباتهم المالية والاجتماعية ستصاب بالضرر في حالة الوحدة، ناهيك عن القوى الدولية و البلدان المحيطة التى لا يسرها قيام دولة موحدة، ستكون دون ريب أقوى من ذي قبل وبعدد سكان أكبر، وقدرات أوسع، والتعامل مع كيانات صغيرة أسهل ولاسيما إذا سادت العلاقات التابعة والتكتلات والتمحور، وهكذا تصبح عملية توحيد الأمة من أصعب وأشق المهمات.
وهاتان الأمتان من أكبر الأمم الأوربية وأوسعها قدرات ولذلك كثرت القوى التي تعادي مسيرة الوحدة، وهاتان الأمتان هما : الأمة الإيطالية، والأمة الألمانية. وإذا كانت فرنسا كقوة خارجية قد تكفلت الإبقاء على إيطاليا مجزأة، إذ لا يتفق مع مصالحها بوجود كسان سياسي ضخم وعدد سكان ومساحة كبيرة، وهذه معطيات تسعد على قيام دول عظمى، عدا عن كون إيطاليا تاريخياً لعبت لقرون دوراً قيادياً في أوربا، ولكن بعد سقوط الامبراطورية الرومانية، تجزأ هذا الكيان الضخم ودبت أسباب الفرقة وبتشجيع ودفع علني أو خفي من القوى الخارجية، فرنسا، وربما بريطانيا أيضاً الإبقاء عليها، ولكن نهاية الحروب النابليونية التي كانت تؤذن أيضاً بنهاية فرنسا كقوة عظمى، هيمنت على الكيانات الإيطالية والأمارات الألمانية ووفرت المعطيات الضرورية للتوحيد. ووجود زعامات قوية بعقليات عبقرية : غاريبالدي في إيطاليا، وبسمارك في ألمانيا، في استغلال الظرف الدولي المناسب، وكثبات وتواصل لهذه العناصر الداخلية والخارجية، لعبت عناصر وعوامل مماثلة في الوحدة الألمانية الثانية (1990)، بزعامة ذكية مقتدرة مثلها هيلموت كول مستشار ألمانيا، ووزير خارجيته المقتدر هانز ديتريش غينشر.
في الوحدة الألمانية التاريخية (تاريخية بحسب نتائجها) لا نريد أن نغفل دور المعطيات السياسية والاقتصادية التي لعبتها دولة بروسيا سياسياً في عقد التحالفات وفضها، والأحلاف العسكرية، واغتنام الفرص التاريخية، وفي مقدمتها النهاية المعروفة للمغامرات النابليونية ولعبت الدبلوماسية السرية والعلنية في عقد التحالفات السياسية والعسكرية بين دول كانت تناصب بعضها العداء، وربما تظهر الود والصداقة لنابليون يوم كان سيد أوربا المرعب، فتحالفت بروسيا والسويد والنمسا، وروسيا بالإضافة إلى كيانات صغيرة أخرى، تتوق للتحرر من الهيمنة الفرنسية، وخاضت العديد من المعارك الصغيرة والكبيرة، جرت بذلت فيها التضحيات الجسيمة، أبتداء من موسكو، وحتى معارك درسدن، وأخيراً معركة الأمم الحاسمة، ثم المعركة الفاصل الأخيرة في واترلوا، هذه المعارك والحروب أنهت دور فرنسا القيادي لأمد طويل.
ولكن بريطانيا مهندسة السياسة الأوربية، ترى أن هناك شران مستطيران في أوربا بصرف النظر من يكون على رأس الدولة : روسيا، إن كانت ملكية، أو شيوعية، وألمانيا إن كانت نازية، أو رأسمالية أو شيوعية فهي شر ينبغي التحوط له. وسائر ذلك يمكن تفاديه وأستيعابه. كفرنسا وإيطاليا.
وفي مراجعة لأشهر عمليات الوحدة، سنلاحظ الخصائص السياسية بالطبع، ولكن أيضاً دور الزعامة والقائد والأفراد في الوحدة، وهي مسألة في غاية الأهمية، وبحثنا هذا يركز على دور الزعامة الألمانية المتمثلة ب المستشار الحديدي أوتو فون بسمارك الذي قاد السياسية الألمانية لعقود طويلة كدبلوماسي محنك، سفيراً في موسكو وباريس، ثم كمستشار لألمانيا، وحاضراً لمؤتمر باريس الذي أعلن فيه توحيد الكيانات الألمانية تتويجاً لدور بروسيا القيادي في النصر على الفرنسيين، وبزعامة فيلهام الثاني، كأمبراطور للرايخ الثاني.
بسمارك عبقري السلطة
) 8 / 10 / 2012Welt N24 في (Jacques Schuster تحرير : ياكوب شوستر:
ترجمة : د. ضرغام الدباغ
بسمارك كان أعظم سياسي القرن التاسع عشر، كما لم يكنه غيره، وقد تمكن من تغير معطيات كثيرة على مديات بعيدة.، وتجلت عبقريته ببقاؤه في القمة لزمن طويل(30 عاماً). ولمن يريد قياس مكوث أوتو فون بسمارك في منصب المستشار لفترة طويلة عليه أن يتخيل أن يتصور بقاء هيلموت كول في كرسي المستشارية لفترة تقارب الثلاثين عاماً كان فيها بسمارك يقرر مصير بلاده.
ولأكثر من أربعون عاماً، كان أفيها بسمارك من أهم السياسيين في برلين. ففي سن الخامسة والثلاثين، عينه الملك فيلهام الأول، سفيراً(مبعوثاً) لبروسيا في البرلمان الألماني، وفي سن السابعة والأربعين، أصبح رئيساً للوزراء والمستشار، ومنذ عام 1871 حتى وفاته عام 1890، كان عليه أن مستقيلاً خلافاً لإرادته(طلب منه الامبراطور فيلهام الثاني الاستقالة).
المستشار الأبدي
ينحدر بسمار كابن أحد النبلاء براندنبورغ، وبروزه كان ليس بسبب فترة حكمه الطويلة فقط. بل لأنه كان من أبرع السياسيين في القرن التاسع عشر في ألمانيا وفي أوربا، وساهم بسمارك بتوازنات القارة وبتأسيس الأمبراطورية(الرايخ الثاني) في الفترة عام 1871 وغير بذلك توازنات القارة الأوربية على المدى الطويل، وأن شعلة نابليون الإصلاحية لم تنطفئ بصرف النظر عن بعض الخصوصيات التي تميز نظام الإدارة الألماني، والتى انتهجها بسمارك. وباختصار، لا يمكنك تجاهل بسمارك إذا كنت على تماس مع القضايا والملفات البروسية وألمانية والأوربية في القرن التاسع عشر.
وقد تناولت العديد من الدراسات سياسة بسمارك الخارجية والاجتماعية، وطريقة تعامله مع الكاثوليك، والليبراليين الاشتراكيين تثبت ذلك. والذين يهتمون في شخصية بسمارك، سيعذرونه على تناقضات تبدر منه أحياناً، والتي هي أساساً تتكون من خلال عدد كبير كتاب السيرة (الببلوغرافيا) والأعمال حول السيرة الذاتية له.
الثورة البيضاء
وتوصي دراسات لوثر غالس حول " الثورة البيضاء " (1980) ومؤلف ارنست إينغلبييرغ الصادر بجزأين عام (1989 / 1990)، ومن يقرأهما سيطلع على الحياة الحميمية لمستشار الإمبراطورية وفيها وصفه أحدهما بالعبقري، والآخر بالبربري.
ربما يشعر المؤرخان الشباب الألمان غالس وانغلبيرغ أو ربما يعتقدان أن أحداً قبلهم لم يقوى على التوصل إلى وجهات النظر التي توصلا لها ونشراها. وعلى كل حال لم يقدم أي من المؤرخين الألمان منذ عام 1990 على عمل في هذا المجال، في سيرة حياة المستشار السابق، وخوض المناقشات بما له علاقة وإطلالة مع إعادة توحيد ألمانيا. واليوم علينا أن نعالج مشكلات تشابه مشكلات ذلك العصر فيما أصاب بسمارك وفيما أخطأ وهذا سيكون مفيداً بنوع ما.
بركه في استعمال السلطة
والآن بتقدم المؤرخ الأمريكي جوناثان شتاينبيرغ (Jonathan Steinberg) بسيرة جديدة حول ما أسماه ووضع عنواناً له " البركة في أستخدام السلطة " الكتاب الذي سيصدر بعد أيام باللغة الألمانية بعد من صدوره في الولايات المتحدة الأمريكية. ووصف هنري كيسنجر هذا الكتاب بأنه أفضل ما صدر باللغة الإنكليزية حول " المستشار الحديدي " بسمارك، ترى هل هذا صحيح ...؟
ومن المؤكد أن كتاب شتاينبيرغ ينبغي أن يقرأ باللغة الألمانية، لمن يهتم ببسمارك وحقبة القرن التاسع عشر وقضاياه. والمؤلف تمكن في عمله في أن يظهر إنجازات بسمارك وفشله في جوانب كثيرة. وأكثر من ذلك، تمكن المؤلف شتاينبرغ بأن يستخدم المعلومات التي لا تعد ولا تحصى ونتائج المصادر عن الحياة الطويلة لبسمارك (1815-1898) في دراسة لشخصيته وأستخدمها بأسلوب روائي، ولأن مؤلفي هذه المصادر والأعمال كانوا يجدون الصعوبة في تفهم ورسم طبيعة العلاقات بموضوعية، وإعطائها أحاسيس تلك الفترة، ورسم لوحة شخصية (بورتريه) بالألوان لشخص بسمارك سواء رسمت للأصدقاء أو الأعداء. ومن النادر أن تجد في ألمانيا كاتباً مؤرخاً جيداً بهذه النوعية، ينجز عملاً مماثلاً
صنع من نفسه عملاقاً
وبعد كل ذلك، الآن ذلك يزعج ذلك التفوق شتاينبرغ : ففي كل عشر صفحات، يرد فيها أن بسمارك هو رجل الدولة " الأقوى " و "الأعظم"، " الأكثر مكراً " دولة في القرن التاسع عشر. وفي دراسة يراد منها أن تكون خالية من الأخطاء، كما نفترضها في هذه الدراسة، ينبغي أن تركز على السلطة، لا على حوادث جانبية.
شاينبيرغ أنطلق يالدرجة الأولى، كيف مارس بسمارك السلطة، وكيف تمكن من البقاء في القمة، كيف دافع عن مرتبته (درجته)، وأن نظام خلق، ليضمن بقاؤه في فيلهام شتراسة "شارع فيلهام" حيث مقر الحكومة، زمناً طويلاً.
العلاقة بين أب وابنه
وبهذه الطريقة، سنتعرف على الكثير من مساعي بسمارك في طريقه للقمة، وفي امتلاكه المقومات الذاتية ليكون عملاقاً، ولكن أيضاً من خلال علاقته المميزة بالملك البروسي فيلهم الأول، التي وصفها شتاينبيرغ بحق علاقة الأبن بالأب. وبدون الملك فيلهام الأول لم يكن بسمارك ليصمد هذه المدة الطويلة. وفي مقطع من رسالة كتبها بسمارك للأمبراطور تتضح أبعاد العلاقة بين الامبراطور ومستشاره (رئيس وزراه ) :
" سعادتي العظمي هي أن أعيش معكم وأن أكون تحت رعايتكم التامة ". نقل شتاينبيرغ عن الملك، ولا يمكن أن يكون التعبير أوضح من ذلك، لماذا الملك لم يتسرب له الشك حتى في الشهور الصعبة.
في حالة الضرورة بلا رحمة
على الرغم من أن بسمارك كان يبدو عليه دائماً أنه يبحث عن حلفاء، ولم يترك شتاينبيرغ مجالاً للشك في ذلك، أو المستشار كان يعمل وحيداً، شجاعاً، بشخصية طاغية جذابة، وفي حالة الضرورة كان يبدو بلا رحمة من أجل تنفيذ أهدافه السياسية أو الشخصية، وكسياسي لم تكن لديه شفقة ولا أحلام. وعندما يكتب بسمارك " نحن " فهو يقصد أما شخصه، أو بروسيا ...!
قوة بلاده يجب أن تتضاعف، من الاتحاد الألماني، ومن محيطها من الدول الألمانية الصغيرة، عبر ووصف شتايبنيرغ ذلك بوضوح، مشيراً بالتفصيل، كيف تمكن من ذلك بمساعدة الحروب ضد النمسا وفرنسا.
السلطة المشبعة
يعبر شتاينبيرغ بإعجاب كيف نجح بسمارك تعطش البروسيين للسلطة بعد التوحيد أن يحولها إلى ألمانيا المشبعة وبذلك إعادة الاستقرار إلى أوربا ونجاح سياسات التحالف البسماركية.
وكان بوسع شتاينبيرغ أن يستطرد أكثر في سرد أخطاء يسمارك في مجال السياسة الخارجية، بعد عام 1870، وهناك على الأقل كانت البداية غير الموفقة حين تأسست الإمبراطورية في قصر الجيران (إعلان الإمبراطورية الألمانية في قصر فرساي / باريس 1871) في حين كانتا الألزاس واللورين الألمانيتان قد سلبتا من ألمانيا..!
وأخفق المؤلف أن يشير بجلاء إلى العلاقة بين 1914، و1870 ، كما لبداية الحرب العالمية الثانية مع الحرب الأولى. (يريد المحلل القول أن ظلال سياسة بسمارك كانت موجودة في الحرب العالمية الأولى وحتى الثانية) ومثل هذه العلاقة موجودة. وبسمارك يتحمل المسؤولية في ذلك،
بالطبع حتى المدافعين عنه لهم الحق، بقولهم أن القوى العظمى يشيرون ومنذ عقود، أنهم لولاه (بسمارك ) كانوا قبل 30 عاماً لكان هناك تاريخ آخر، وهذا لم يهتم به شتاينبيرغ.
الخلاصة :
لا ريب أن بسمارك كان شخصية كبيرة، لن تجد مؤرخان إثنان يختلفان في ذلك، وله اليد الطولى في الانتصارات السياسية والعسكرية، من خلال عقلية كبيرة في التحالفات وفضها، والعنصر الأساسي له كان يتمثل على الدوام، بمصلحة ألمانيا، ووحدتها، وإعلان الإمبراطورية العظمى، وكان لبسمارك فيها اليد الطولى، ولإعلان الإمبراطورية (توحيد ألمانيا) في قصر فرساي له دلالته الخاصة، أن ألمانيا قوة عظمى في أوربا والعالم، وإنها من سيشارك في تقرير الكثير من القضايا الساخنة، وبدأت ألمانيا حقاً بالتوسع في تكوين مستعمرات، وانطلقت غيها القدرات الاقتصادية التي كانت حبيسة التجزأة وبدأت ألمانيا تكتسب كل صفات الدول العظمى.
ليس مستغرباً أن تجمع ألمانيا على أعمال بسمارك ونعتبرها منجزات تاريخية، لذلك اليوم تنتشر تماثيله في كل ألمانيا، وأسماء الشوارع الرئيسية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: