في خضم الأحداث المأساوية التي تعصف بسفينة الأمة، وفيما تعاني من تلاحق الضربات، وتوالي النكبات، ظهر في أوساط المسلمين صنفان من الناس، شذا في تصورهما للحياة عن التصور الإسلامي الراقي، وعن الهدي النبوي في كيفية التفاعل مع الواقع، حيث اتخذ الصنف الأول الأماني والأحلام منهجا حياتيا، واتخذ الصنف الثاني التفكير بالأوهام منهجا للتفاعل مع الأحداث التي تمر بالمسلمين اليوم، بدل التفاعل مع الحياة بمنهج العمل والتكيّف الإيجابي، والمغالبة والتغيير، ومن خلال التصور الحضاري للإسلام.
الغارقون في الأحلام
وهو فريقٌ شاذ الوجهة، غريبُ اللغة؛ لأنّه اختار الأحلام لغة، والنوم حلا، والانعزال ملاذا، ولم يعد أمره خاصا ببعض الأفراد، بل إن الواقع يظهر أنّه يتضخم يوما بعد يوما، وأهم ميزة لهذا الصنف أنه يتخذ من الأحلام منهجا للتفاعل مع الحياة، سواء أكان الأمر متعلقا بالأمور الشخصية، أو بالأمور العامة للأمة الإسلامية.
وازداد انجذاب الكثيرين نحو هذا المنهج مع انتشار صيت البرامج الفضائية الربحية التي تعتمد تفسير أحلام المتصلين، والتي تأتي ببعض من لا يخاف الله تعالى في أمة الإسلام، ويقوم بتفسير كل حلم يعرض عليه، دون معرفة حقيقة هذا الحلم، ولا حقيقة المتصل، ولأن السذاجة الفكرية قد صارت رائجة اليوم، فإنّ هذا الميدان أصبح من الميادين التي يفضلها الكثير من الباحثين عن الشهرة والمال على ظهر الغافلين والسطحيين من المسلمين.
خطورة التهوين من هذا المنهج
ومن الخطأ التهوين من خطورة هذا المنهج، خاصة بعد أن ثبت استثمار أعداء الإسلام فيه، لضرب صورة المسلمين، وقد وجد الملاحدة -على سبيل المثال- في هذا الأمر وسيلة للطعن في الإسلام، ووصمه بالخرافة والدجل، ومحاولة استغلاله لتنفير الناس منه، أو زعزعة ايمان النّاس، خاصة الشباب المثقف غير المحصن بالثقافة الإسلامية الأصيلة، الأمر الذي يستحق أن يجد من ردا وتصديا من أهل العلم والثقافة الإسلامية في أمتنا.
أسرى الأوهام
وواقع هذا الفريق لا يقل خطورة عن الأول، قد غلبه اليأس، وأثّر فيه الضعف، وانهارت عليه جدر الإحباط، وخارت عزيمته، وتلاشت رباطة جأشه، بعد أن اختار الانحياز إلى العالم الموهوم، وسيلة للهروب من العالم المشهود، وغذّى اختياره هذا: الهزيمة النفسية وسذاجة الفكر، وضياع الوعي، وغياب الإدراك، بعدما غطّت حجب الضلالة على العقول، فجعل الاستنجاد بالأوهام سبيلا للخلاص، وترك المنهج الثابت عن خير الأنام عليه الصلاة والسلام، وهانت عليه عزّته، فارتضى أن يعيش بغير عقل، ودون ميزان صحيح.
مظاهر مرض الوهم الحضاري
وأبرز مظاهر مرض الوهم الذي أصاب هذا الفريق من النّاس ركونه إلى نفسية انتظار المنقذ، وتبنيه فكرة المخلِّص، وهي فكرة ضالة مصادمة للفطرة والعقل والشرع، تبناها اليهود والنّصارى من قبل والرافضة من بعدهم، فلم تزدهم إلّا ضلالا وخسرانا.
الحياة قاعة انتظار أم ورشة عمل؟
إنّ الإسلام لا يربي أتباعه على القعود، بحجة انتظار البطل القادم، ويرفض التغني بأمجاد السابقين من الفاتحين والمصلحين، دون الاقتداء بهم، والسعي نحو التمثل بمنهجهم وأخلاقهم، بل إنّ الإسلام لا يتحدث عن الفرد المنقذ، بقدر ما يتحدث عن تغيّر المجتمع ككتلة واحدة، فالمجتمع الصالح يثمر قائدا صالحا، يواصل بالجموع مسيرة البناء، ويجسد مجتمع التقوى، والحياة المتزنة بوفرة الحقوق، وأداء الواجبات.
لذلك يسعى الإسلام لتخريج أجيال صالحة، ترتبط بمنظومة قيادة راشدة، تنشر العدل والخير، ولا يسعى لتغيير الأجيال بانتظار مخلّصين غير موجودين في الواقع، وما نسمعه من الكثيرين من الاحتفاء بالفاروق رضي الله عنه، أو صلاح الدين، وتمني ظهور أمثالهم من واقع فاسد، وأجيال مثخنة بالفتور، دون الالتفات إلى المدرسة التي تربى فيها هذين الرمزين الخالدين، ودون الالتفات إلى المجتمع الذي تخرّجا منه يصادم التصور الإسلامي لحقائق التغيير الاجتماعي.
إنّ الرموز التي يتغنى بها الكثيرون كانت ثمرة مجتمع فاضل، تملأ قيم العمل والواجب دنياه، وينفض عنه باستمرار مظاهر الخمول والكسل الاجتماعي، الذي ينتج العطالة الحضارية والرسالية.
المسلم بين نفسيتين
إنّ الأحلام والأوهام ليست المنهج الإسلامي الأمثل في التعاطي مع مسائل الحياة، ولم تكن يوما الحادي في المسير، والهادي للطريق، ولم تكن السبيل الأمثل للتغيُّر والإصلاح، بل إن قيم الواجب والبذل، هي المنهج الأقوم لتغيير الأحوال والأجيال، من السلبية إلى الإيجابية، وهذا من سنن الله التي لم تخرمها القرون الماضية، ولن تخرمها أحلام العقول الخاوية.
المنهج الإسلامي في التفاعل مع الحياة
إنّ آيات مثل: قوله تعالى " وافعلوا الخير" وقوله جلّ شأنه: " قل سيحوا في الأرض" وقوله تعالى: " فاضربوا في الأرض"، والآية: " سارعوا إلى مغفرة من ربكم"، وقوله سبحانه: " سابقوا إلى مغفرة من ربكم" وقوله عزّ وجلّ: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله"، وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام مثل: حديث الفسيلة، واشتراطه عليه الصلاة والسلام في المبايع أن لا يسأل النّاس شيئا، وتشديد الوعيد في حق المتسوّل، وحض الإسلام على العمل والتجارة والرياضة، وحديث اليد العليا، والأدعية التي جاءت تتعوذ من العجز والكسل والوهن، وحديث: "بادروا بالأعمال" وحديث " أحب العباد إلى الله أنفعهم للنّاس"، كل ذلك يثبت أنّ الإسلام دين العمل والنفع والخير، وأنّ المسلم مطالب بالتكيف مع الحياة في أقسى الظروف، ولكن بالعمل والاجتهاد، لا بالجبن والخوف والبطالة الفكرية والبدنية، وهو ما فهمه السابقون وتلبسوا به، فأفلحوا في بناء حضارة إسلامية عظيمة، لا تزال أثارها حاضرة إلى اليوم، ولن تعود هذه الحضارة إلا بالقيم التي بنيت عليها أولا.
"إن لم تنفع فضر"
إن الهروب من الحاضر إلى الماضي، ومن الواقع إلى الأوهام والأحلام، لن يغير واقعا، ولن يسعد أحدا، ولن ينقذ مجتمعا يغرق، ولن يردع عدوا، إنما الحركة الإيجابية في الحياة هي الوسيلة الأجدر بإصلاح وتغيير الواقع، وقديما قالت العرب: " إن لم تنفع فضرّ"، والمقصود بذلك المبالغة في ذم التبلد والعجز، وأنّ الإنسان لا يليق به القعود والهروب، بل التدافع والتحرك أنفع لحياته ولمجتمعه.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: