د. ضرغام الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 12325
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
منذ أيام استلمت بالبريد الالكتروني رسالة من صديق، ومعها ملف (البوم) لرسام أمريكي معاصر وهو مارك بريان تايلر (Mark Bryan Tyler)، أسترعى أنتباهي لوحة شهيرة قديمة تعود إلى الحرب العالمية الأولى تمثل العم سام بقبعته الطويلة وهو يشير بأصبعه إلى الناظر ويقول له، والنص مكتوب أسفل الصورة كان: أنت مطلوب، أو الوطن يريدك، وقد طور الرسام المعاصر تايلر الصورة فكتب أسفل الصورة : (I want your Oil) أنا أريد نفطك ..!.
فتأملت كيف تستطيع القوى العدوانية العظمى أن تهيمن على ساحة الإعلام والسينما والتلفزيون، وفي زمن العولمة تمكنت من أن تمد تأثيرها إلى ساحات الفن والثقافة فتمنع انتشار لوحات كهذه، أو رقوق سينمائية من خلال هيمنتها شبه المطلقة على صناعة السينما، وعلى دور العرض في العالم، أو كليبات من خلال هيمنتها على مواقع العرض كاليوتيب، والغوغل ووكالات الأنباء وغيرها. وأنا أعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية تهيمن على ساحة الإعلام بدرجة غير معقولة، بل وحتى تفرض على أجهزة الإعلام الخارجة عن إرادتها أيضاً أن تستخدم مصطلحاتها وتعابيرها، فتقرر من هو الإرهابي، ومن هو الديمقراطي، ومن هو شفاف ومن هو غير ذلك، وفي سخرية لاذعة هي من يقرر من هو الخطر على السلام العالمي.
ولكن وبرغم هذه السطوة، فهناك عناصر وحركات ومثقفين وفنانين لا يهابون الاغتيال، ولا غارات الطائرات بدون طيارين، ولا المقاطعة الفنية، ولا يأهبون لسحر الدولار ودفئه، فيفضلون أن تبقى رؤوسهم وأقلامهم وريشتهم حرة، يخلدهم التاريخ أنهم وقفوا بوجه البطش العولمي مع الحق، وأدانوا المجرم وهزأوه. فالمثقف والفنان ينتهي يوم يقرر تأجير قلمه وريشته ودماغه لدور العلاقات العامة كما تستأجر سيارة أو شقة مفروشة، فينعم بوجبة طيبة في مطعم فاخر هي بائسة حيال أن يفقد شرف الكلمة المضيئة، وإشراقة اللوحة الناطقة التي تهتف في تظاهرات الجماهير، الفنان يتحدث بالريشة وقلم الرصاص وينجز أعمالاً راقية، فيما عجزت القنابل عن تحقيقه، الأوطان تبقى، والأعمال تعتلي جدران أرقى المتاحف، ويرحل القتلة إلى حيث يستحقون.
وكان الرسام الاسباني الشهير بابلو بيكاسو (Pablo Bicasso/ 1881- 1973) قد قدم في الثلاثينات شهادة فنية لا يمكن أن تنسى، خلد فيه عذاب الشعب الأسباني في مدينة غورنيكا الباسكية من جهة، وأبرز وحشية الفاشية الأسبانية والألمانية والإيطالية المتحالفة معها ضد حلم الحرية الأسباني. ولا نبالغ إن قلنا أن لوحة غورنيكا قد ساهمت في التحريض على إدانة عالمية للأجرام واستنكاره.
بيكاسو رسم غورنيكا عام 1937، ولابد أن يكون ذلك بعد تاريخ 26/ نيسان / 1937، وهو التاريخ الذي أغارت فيه الطائرات الفاشية الهتلرية على مدينة غورنيكا المسالمة وقصفتها دون تميز، ودون أن يكون لهذا القصف مغزى عسكري أو استراتيجي، سوى قتل المزيد من البشر، ورسمها بتكليف شفهي من حكومة الجمهورية الأسبانية للمساهمة في المعرض العالمي للرسم المقام في باريس عام 1937 وذلك يعني أنه أنجزها في غضون أشهر قلائل، وهو وقت قصير لمثل هذا الإنجاز الفني الكبير.
وذات يوم كانت دورية من جيش الاحتلال الألماني تفتش بناية كان بيكاسو أحد سكانها وعندما فتشوا بيت بيكاسو وجدوا اللوحة الشهيرة فنظر الضابط الألماني بإعجاب إلى اللوحة، وقال : إنها لوحة رائعة، هل أنت من فعلها ؟، فأجابه بيكاسو إجابة تسجل تاريخياً مغزى العمل الفني، قائلاً : كلا أنتم من فعل ذلك، ولكني سجلتها فحسب. وهكذا، ترتبط الأشياء ببعضها، مات فرانكو، عاش الشعب، أسبانيا بقيت، الشعب أستعاد حريته، غورنيكا لم تمحيها القنابل .... إنها خلود العذاب الأسباني وتدين الجريمة ..!
كنت ذات يوم (مطلع السبعينات) في مكتب أحد قادة الثورة الفلسطينية في بيروت، وكان رسام الكاريكاتير يبحث عن فكرة لتحتل صفحة العدد الوشيك الصدور، فكرة تدور عن موضوع كان شاغل الجماهير في تلك الأيام وهي محاكمات الفدائيين الذين قاموا بعملية فدائية، ويعتزم نظام النميري محاكمتهم. الرسام يبحث عن فكرة لتكون جوهر صورة كاريكاتورية، وكنا نتحدث عن شعر جرير والفرزدق (القرن السادس / السابع م) وقول جرير في هجاء أحدهم :
أقل اللوم عاذل والعتابا*** وقولي إن أصبت لقد أصابا
فغض الطرف إنك من نمير*** فلا كعباً بلغت ولا كلابا
فطارت الفكرة وحلقت فوق رؤوسنا: وهتفنا على الرسام وكان رسام الكاريكاتير العراقي حسيب الجاسم فقلنا له من يحاكم الفدائيين قال نظام النميري، فتلونا عليه هذا البيت الخالد في الهجاء فغض الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغ ولا كلابا ، فخرج عدد المجلة يصور النميري في قفص الاتهام والجماهير تشير بأصبعها عليه وتهتف وإنك لمن نمير فلا كعباً بلعت ولا كلابا، وكأن جرير قد كتب القصيدة خصيصاً بحق النميري ........ فأنتشرت الصورة فكراً وفناً. النميري سقط، وما زال حسيب يناضل بريشته، والصورة 3 هي أحد أعماله الحديثة تصور شعبه العراقي يتصدى للطغاة المحتلين.
في مطلع الستينات سمعنا أن فناناً فلسطينياً هو إسماعيل شموط (1930 - 2006)، أبدع برسم لوحة عرضها الجناح الأردني في نيويورك، وحاول الاسرائيليون حرقها، لأنها تحفر في الضمير المأساة بطريقة يفهمها من فقد الضمير " فلسطين على الصليب ". اللوحة سلمت، وهي اليوم من خوالد الفن العربي، ومات ناس كثيرون، ولكن اللوحة صامدة تحكي وتنطق بشكل راقي عن جريمة قذرة. إسماعيل ولد في اللد، ترعرع في غزة، تعلم في القاهرة، ناضل في كل مكان من أجل وطن صار قضية كل الشرفاء في العالم.
والعدوان على العراق أثار وما يزال بوصفه مثالاً للهمجية في العصر الراهن، الكثير من الإبداعات الفنية رسماً ونحتاً وحتى أعمالاً فنية مختلفة (أفلام سينمائية، أفلام وثائقية /Decumentary Film / وحتى أعمالاً مسرحية) وهي وإن تتفاوت في قيمتها الفنية إلا أنها تؤكد أمراً جوهرياً وهو الهدف الأسمى للعمل الفني، وهو إدانة العدوان.
ومن أول الفنانين الذين تصدوا للعدوان الأمريكي على العراق هو الرسام البرازيلي العربي الأصل كارلوس لطوف الشاب / 1968 (Carlos Latuff) الذي يواصل دون انقطاع نضاله في الوقوف إلى جانب العراق والقضايا العربية عامة وفي النضال ضد العولمة، وتنتشر رسومه في العالم أجمع، الريشة والقلم يتحول إلى أداة للنضال ضد الهمجية الاستعمارية والإمبريالية، إنها ريشة الفنان البرازيلي كارلوس لاتوف.
وفنان رائع آخر حول معارض لوحاته التي يقيمها في أرجاء العالم إلى قاعات محاكمة للولايات المتحدة الأمريكية، هو الفنان الكولمبي فرناندو بوتيرو (Fernando Botero/ 1932)، والفنان بوتيرو هو نحات بالدرجة الأولى يتمتع بشهرة عالمية، يقف بشجاعة إلى جانب الشعب العراقي وقضاياه. وقد خلد ضحايا سجن أبو غريب في مجموعة من اللوحات طافت العالم وثقت الجرائم فنياً وسجلت لها إدانة شعبية واسعة.
ومبدع آخر من أسبانيا هو الفنان خوسية غارسيا ماس / José Garcíay Más / 1945) هو فنان معاصر مهم درس الفن وعمل وأقام المعارض في ألمانيا، قبل أن يعود إلى بلاده ويصبح نجماً من نجوم الفن. أبدع بصفة خاصة في لوحته التي أطلق عليها (غورنيكا 2) التي شبه فيها مجازر الولايات المتحدة في العراق بما نفذه الفاشست الألمان والأسبان في الثلاثينات في غونيكا الأسبانية.
لوحته غورنيكا 2 ذاعت شهرتها وانتشرت وأخذت مكانها في الفن المقاوم، الفن الوطني الشريف.
ورسام مبدع من بغداد بلاد الرافدين، واجه عتو الصواريخ والقنابل بريشته، وقلب الصخب الذي تحدثه بألوانه إلى لوحة سوف لن تغادر متحف التاريخ اللذي يدين الجريمة ويمجد الفن والإنسان، هو الفنان العراقي مخلد المختار، عندما رسم لوحته الشهيرة بغداد تحت القصف.
مخلد المختار، فنان، لم يكن يمتلك إزاء الصواريخ سوى سلاحه المفضل، الريشة والألوان، ايصنع من ذلك أسطورة بلد ينهض من بين الأطلال، وحمامة بيضاء يقدمها للعالم بدل الكراهية والبغضاء، ثقافة نظيف مقابل ثقافة الموت والكراهية، هذا الفنان العراقي يواصل مهمة بلاده منذ ألاف السنين وما يزال.
فنان رائع من أرض النضال الفلسطيني، هو الفنان رسام الكاريكاتور المبدع ناجي العلي. ولد عام 1937م، في قرية الشجرة الواقعة بين طبريا والناصرة وأستشهد برصاص الإسرائيليين في لندن بتاريخ 29 اغسطس 1987، كان العلي قد هاجر مع أهله، عام 1948 إلى جنوب لبنان وعاش في مخيم عين الحلوة.
ورغم أن العلي تعلم ليكون مهندساً ميكانيكياً، إلا أن ميكانيكا الثورة أجتذبته، شاهراً قلمه وريشته، ليصبح من أعلام فن الكاريكاتير في الوطن العربي والعالم. واصل العلي جهاده رغم الظروف الصعبة التي تحيط به وبعائلته، حاملاً علبة أصباغه وأقلامه مهاجراً، يرسم ويطلق أعماله وليس له متراس يحميه سوى صدره العامر بالإيمان وحب القضية التي أفتداه بحياته.
أشتهر ناجي العلي بكون يضع الطفل الفلسطيني (حنظلة) أبن الشتات في كل رسومه، ينظر إلى الأمام، حاف ممزق الثياب، ولكنه ممتلئ عزيمة، يكتب على الجدران شعارات الثورة والنصر القادم بحتمية التاريخ وهي أقوى من أسلحة الغزاة.
ويرسم ناجي العلي ضد الاغتيال، كأنه يعلم أنه سيكون ضحية لأغتيال من كواتم الصوت. مات ناجي العلي ودفن مؤقتاً بمقبرة بلندن بأنتظار نقله ذات يوم إلى قريته (الشجرة) ولكن القضية لم تمت، والريشة المناضلة تفرعت إلى مئات الريشات، بالألوان، والأسود والأبيض، وكلها تؤدي إلى فلسطين.
وفي دمشق الشام أمتشق مبدع ريشته يواجه بها الطغاة والدكتاتورية وأسلحة القمع وخستها، (علي فرزات المولود في حماة عام 1951) وعوقب عقوبة ذات مغزى، فقد كسرت الديكتاتورية سلاحه وذلك بأن سحقت أصابعه التي بها يرسم، على أمل أن يكتموا الصرخة في صدره وألوان ريشته، ولكنهم لم يحصلوا على أي منها، فقد تكفل الأطباء بإعادة الحياة لأصابع علي فرزات ليواصل مقارعة الطغاة يسخر منهم ومن أنظمتهم الكارتونية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: