د- جابر قميحة - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5933 gkomeha@gmail.com
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
كان الإمام الشهيد حسن البنا خطيبا مفوها، يشد إليه العقول والقلوب والمشاعر، فكان قديرا على مراعاة مقتضى الأحوال، قديرا على الاستشهاد بالآيات القرآنية والسنة الشريفة وعمل السلف الصالح، في بساطة وعفوية.
ومما يروى عنه أنه كان في بداية الأربعينيات من القرن الماضي يخطب في حشد حاشد بأحد أحياء القاهرة، وأثناء خطابه قاطعه واحد من الحضور وسأله : يا فضيلة المرشد، هل نبدا الإصلاح من الحاكم أم من الشعب ؟
فكان جوابه في هيئة سؤال وجهه للسائل :
ــ أنت ساكن فين ؟
ــ في منزل فلان ؟
ــ في أي طابق ؟
ــ في الطابق الثالث.
ــ إذا أردتم أن تمسحوا سلم العمارة... هل تبدءون المسح من أعلى إلى أسفل، أم من أسفل إلى أعلى ؟
ــ طبعا من أعلى إلى أسفل.
ــ إذا فعلتم العكس ماذا يحدث ؟
ــ يحدث !!! طبعا ستكون العملية عملية توسيخ، لا عملية تنظيف.
ــ هنا تكون أنت أجبت بنفسك على نفسك... لابد من إصلاح القائد الأعلى حتى تنصلح أحوال الشعب.
*********
ومن هنا تأتي أهمية القائد والقيادة. وقد قال "جورج سباين " في كتابه " تطور الفكر السياسي " : "حتى تستطيع أن تعْرِف الأمة، حاول أن تعرف قائدها وملامحه السياسية والعقلية. وستجد عشرات من الأمم سقطت في الحضيض بسبب حكامها، وبالعكس هناك من الأمم من حققت الانتصارات والنهضات والتقدم على أيدي قادتها البارعين".
وقريب من هذا ما كتبه العقاد في عبقرية محمد: "... عندما تنعقد المقارنة بين المعارك القديمة والمعارك العصرية ينبغي أن ننظر إلى فكرة القائد قبل أن ننظر إلى ظواهر المعارك، أو لأي أشكالها وأحجامها ؛ لأننا إذا نظرنا إلى الظاهر فلا معنى إذن للمقارنة على الإطلاق، إذ من المقطوع به أن عشرة ملايين يجتمعون في ميدان واحد أضخم من عشرة آلاف، وأن حربا تذاع بالمذياع والتليفون أعجب من حرب تدار بالفن والإشارة.... لكننا إذا نظرنا إلى فكرة القائد أمكننا أن نعرف كيف أن توجيه ألف رجل قد تدل على براعة في القيادة لا نراها في توجيه مليون... بينهم الراجل والراكب، ومنهم من يركبون كل ما يركب من مخلوقات حية وآلات مخترعة... وهذه الفكرة هي التي ترينا محمدا عليه السلام قائدا حربيا بين أهل زمانه بغير نظير في رأيه وفي الإقناع بمشورة صحبه... وهذه القدرة هي شهادة كبرى للرسول تأتي من طريق الشهادة للقائد الخبير بفنون القتال.
فمن كانت عنده هذه الأداة النافذة فاقتصر بها على الدفاع واكتفى منها بالضروري الذي لا محيص عنه، فذلك هو الرسول الذي تغلب فيه الرسالة على القيادة العسكرية، ولا يلجأ إلى هذه القيادة إلا حين توجبها رسالة الهداية.
ويزيد هذه الشهادة عظما أن الرجل الذي يجتنب القتال في غير ضرورة رجل شجاع غير هياب... شجاع وليس كبعض الهداة المصلحين الذين تجور فيهم فضيلة الطيبة على فضيلة الشجاعة، فيحجمون عن القتال لأنهم ليسوا بأهل قتال".
ويهمنا في هذا السياق أن نقف أمام محمد القائد في غزوة بدر، لنرى الفروق الجوهرية بينه وبين شخصية قائد المعسكر الكافر ( أبي جهل الحكم بن هشام). يقول المقريزي :"وفي صباح الثلاثاء السابع عشر من شهر رمضان كانت غزوة بدر وهي الوقعة العظيمة التي فرق الله فيها بين الحق والباطل، وأعد الإسلام، ودمغ الكفر وأهله، وجمعت الآيات الكثيرة والبراهين الشهيرة بتحقيق الله ما وعدهم إحدى الطائفتين، ومجيء المطر عند الالتقاء، وكان للمسلمين نعمة وقوة، وعلى الكفار بلاء ونقمة، وإمداد الله المؤمنين بجند من السماء".
وعاش الرسول(صلى الله عليه وسلم) في قلوب جنوده إذ سمعوه يدعو الله لهم "اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالة فأغنهم من فضلك. اللهم هذه قريش قد أقبلت بخُيَلائِها وفخرها تحادك، وتكذب رسولك. اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم أحِنْـهم (أهلكهم) الغداة ".
وكان متواضعا، لا يفضل نفسه على المسلمين في شيء. عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : كنا يوم بدر، كل ثلاثة على بعير، فكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فكانت إذا جاءت عقبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالا : نحن نمشي عنك قال : " ما أنتما بأقوى مني وما أنا بأغنى عن الأجر منكما "
ومضى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يستشير الناس، فكان مما قاله المقداد بن عمرو "يا رسول الله امض بأمر الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون...".
وعن الأنصار قال سعد بن معاذ : "... إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق، فأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامض يا نبي الله لما أردت، فالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك مابقي منا رجل، وصل من شئت، واقطع من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت...".
وأخذ النبي (صلى الله عليه وسلم) كذلك برأي الحباب بن المنذر الذي قال" انطلق بنا إلى أدنى ماء إلى القوم... فبها قليب عذب الماء كثيره ثم نبني عليه حوضا فنقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل، ونعوِّر (أي نكسو بالتراب ) ما سواها من القلب، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم):" يا حباب أشرت بالرأي"ونفذ ما أرى.
فنحن أمام قائد يأخذ نفسه بالعدل والشورى، ويُمَكن جنوده من إبداء ما يرون... إنها شورى حقيقية وليست شورى زائفة أو نظرية.
ونرى القائد العظيم وهو في عريشته يرفع يديه إلى السماء ويدعو ربه في خشوع"اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض،اللهم نصرك الذي وعدتني...".
*********
بينما كان أبو جهل نموذجا للقائد المغرور المستبد، الذي لا يفتح صدره لآراء الآخرين، فيقول باستعلاء وغرور : "لا والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجُزر (الجمال )، ونطعم الطعام، ونُسْقِي الخمر، وتعزف علينا القيان (الجواري)، فما يزال العرب يسمعون بنا، وبمسيرنا، وبجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبد الدهربعدها، فامضوا " ثم قال وهو يتفجر غرورا:
ما تنقم الحربُ العوانُ مني = بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي
فجرَّ على قومه هزيمة نكراء، وكان مصرعه على يد غلامين مسلمين صغيرين هما : عائذ ومعوذ ابني عفراء. وبالقيادة الراشدة انتصر المسلمون انتصارا باهرا.
**********
والقائد النموذجي الرشيد يجب أن يتوفر فيه صفات متعددة أهمها :
1- معايشة رجاله كأنه واحد منهم.
2- أن يكون قدوة حسنة في أقواله وأفعاله " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) ( الأحزاب ) ". (والأسوة تعني القدوة، وتعطي كذلك معنى الدواء و الشفاء والمعنيان متوفران في رسول الله صلى الله عليه وسلم ). وقد قال أحد الصحابة " كنا إذا اشتد البأس، واحمرت الحَدَق، وتحشرجت الصدور، وتقفعت الأصابع، وبلغت القلوب الحناجر اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ".
3- الوعي الشامل الحقيقي لمجريات الأمور، والتصرف معها تبعا للثوابت والمتغيرات. وكل أولئك بمرونة وتأن بعيدا عن الجمود والتطرف.
4- العدل وحفظ الأمانة، وحسن اختيار الرجال في موقع المسئولية فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا ضِّيعتْ الأمانة، وَوُسِّد الأمرُ غيرَ أهلِه فانتظر الساعة ".
ومن المعطيات الإنسانية للإسلام : أن المسلم عليه أن يطيع الحاكم الكافر إذا كان عادلا، فيرفض الحاكم المسلم إذا كان ظالما. وقال صلى الله عليه وسلم : " إن شر الرعاءالحُطمَة " وهو الحاكم الظالم الذي يحطم حياة الناس وسلامهم.
5- الهيبة بمعنى أن يكون القائد له مكانة عند جنوده، وأعدائه، فهو موضع تقدير. وقد قيل لأحد الصحابة صف لي رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فكان جوابه : " والله لا أستطيع ؛ فكلما هممت أن أتأمل وجهه أخذتني هيبته ". وهيبة القائد تولد في الجنود الحب والطاعة والتقدير . وقد قيل عن خالد بن الوليد :
إذا قال سيف الله كرُّوا عليهمو = كررنا بقلب رابط الجأش صارم
*********
وما ذكرناه آنفا يمثل بعض ملامح القيادة الراشدة التي تقود الأمة إلى النصر المبين، وتقيها الهزيمة والسقوط . ولا قيمة لأية خطوة من خطوات الإصلاح، إذا كان على رأس الأمر قائد فاسد يقدم دنياه على أخراه. ففي مثل هذا يقول تعالى : " أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) الجاثية ".
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: