د. ضرغام الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5730
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الفقرة الأساسية في أي قراءة للأوضاع العراقية، هي غياب الإرادة الوطنية العراقية، وهذه تأتي ضمن الترتيب العام المخطط له، بهدف استبعاد الاستقرار، وإبقاء العراق في مدى الأزمات المتتابعة المتلاحقة والمنهكة بطبيعة الحال والمستنزفة لقواه. فالأطراف الممسكة بجوانب العملية السياسية والقوى الدولية المحركة لها، متفقة على قرار فحواه هو إبقاء العراق في هذه الحلقة المفرغة، وليس بخاف على أحد، أن الشخصيات الوالجة في العمليات السياسية ما هي إلا واجهات تحركها قوى خارجية، وبقدر ما يكون هناك تفاهم بين تلك القوى تجد انعكاسها على الأوضاع الأمنية والسياسية بصورة مباشرة وغير مباشرة.
وأستند بما أذهب إليه من تحليل، بما تشهده الساحة السياسية من أحداث منذ أسابيع، من غياب لحكومة متماسكة، فما زالت هناك وزارات شاغرة، وأخرى جرى إفراغها بقرارات من رئيس الوزراء، ورأس السلطة يعاني من شلل واضح، والعملية السياسية ضمن القوى المشاركة فيه ليس لها أفق واضح، والمصالحات لا أساس سياسي لها، واليوم رئيس الجمهورية خارج العراق في زيارة شخصية، وذلك يعني أن اللقاءات التي تشهدها السليمانية وأربيل لن نشهد نتائج قريبة لها.
رئيس الوزراء المالكي تمكن في ضرب من إلغاء مدهش لآليات حكومة، وللإرادة الوطنية، وهيكلية الدولة مستغلاً تشابك المصالح الخارجية، تمكن من الاستحواذ على عناصر مهمة في الموقف السياسي والعسكري، ومن خلق قوى سياسية / عسكرية / أمنية تدين بالولاء الشخصي له، وأضاف لكل ذلك قدرات مالية ضخمة من الميزانية العامة، ومجرد استحواذه على هذا المبالغ، وهي بالمليارات، تؤشر إلى طبيعة عمل " الدولة "، نقول دولة بين مزدوجين، لأن ما نشهده لا يمت بصلة إلى أصول وقواعد العمل الحكومي وتقاليده السياسية والقانونية.
في ظروف سياسية وعسكرية كهذه، نجد من الطبيعي أن يجتاح العنف الساحات العراقية، ويحصد أرواح المواطنين وليس بمستبعد أن تكون كلها أو بعضها من تخطيط وتنفيذ قوى محلية أو إقليمية لها ذراعها العامل الضارب في العراق، يساعد على ذلك غياب لقوة وإرادة مركزية في العراق تعمل بموجب قواعد عمل قانونية ومهنية سليمة، وفي الكثير من الحالات، تنفذ هذه العمليات بهدف استدراج أعمال وأنشطة مضادة ومعاكسة كفعل وفعل مقابل، والمحصلة النهائية لذلك، تواصل لمسيرة العنف وبلوغ المواطن العراقي لقناعة نهائية مفادها أن شقاؤه هو حصيلة الاحتلال الذي لم يبلغ بالشعب حتى إلى حافة الأمان والسلام، بل أن ذلك لا يشاهد حتى في الأفق البعيد، وأن ما يدور هو جزء من سيناريو جرى التخطيط له والاتفاق على تنفيذه من قبل قوى الاحتلال والضالعين فيه.
ومن النتائج الطبيعية في مثل هذه الظروف، أن تحاول كل من القوى الإقليمية توسيع أماكن أقدامها في العراق، عبر أنشطة سياسية وأستخبارية واقتصادية وتجارية، فالعراق بالنسبة لكل هذه القوى قد أصبح ساحة عمل مفتوحة، ولكل قوة دولية أو إقليمية من يعمل بتوجيهاتها أو بإيحاء منها، في صراع تنافسي محموم، الكل يدعي الحرص على مصالح الشعب العراقي لفظاً، ولكن الواقع الموضوعي يشير ببساطة شديدة إلى: أن العراق يغطس شيئاً فشيئاً في احتمالات صعبة وتتكاثف من حوله المزيد معطيات التمزق ومن سالبات السيادة، فالسيادة على موارد الثروة تقل يوماً بعد يوم، واستقلال القرار السياسي قد انتهى بحجم خطير من تدخل القوى الأجنبية التي ترسم للعراق ما ينبغي اتخاذه من خطوات، القوة العسكرية العراقية قد جرى تلغيمها بألغام الطائفية والعمل بروح الميليشيات، المجتمع العراق تنخر به بحسب معطيات وزارة الصحة شتى أنواع الأمراض الوبيلة والمخدرات، القضاء العراقي فقد مصداقيته للأسف، والأجهزة التنفيذية محكومة من خارجها، البرلمان العراق يحقق في فقدان عشرات المليارات من الدولارات ... !
وهكذا فالسلطات الحقيقية في الدولة: التشريعية والتنفيذية والقضائية غائبة عن الوجود أو تعمل بغير نواميس عملها الحقيقي. وكل سياسي يعمل قدر ما تمتد يده على إبعاد خصومه بدعاوي الاجتثاث، الإرهاب، والفساد، ومن يعلم بعد ماذا ..؟ ليس أحد ببعيد عن طائلة الانتقام، ليس هناك من هو أكبر من فأس الثأر.
والأحداث العراقية في تدهورها المتواصل، أمنياً وسياسياً وما قد يتفاعل معها وما ينتج عنا عرضياً، تفتح الباب على مصراعيه للقوى الإقليمية للبحث عن مصالحها، ومن تلك القوى تركيا التي عدا وصفها كقوة إقليمية ذات وزن وتأثير، هناك الكثير من المصالح الحيوية المتبادلة، وبحوزة تركيا العديد من الأوراق التي تؤهلها أن تلعب دوراً متميزاً في العراق، ومن تلك: قضية المياه المشتركة، والمعابر الحدودية وخط أنابيب النفط للموانئ التركية جيهان، وإمدادات الكهرباء، وتفاصيل اقتصادية أخرى، ناهيك عن التغلغل في شمال العراق ضمن تداعيات الشأن الكردي، وقدرة تركيا نظرياً وعملياً على الاتصال بمجاميع عراقية ودعمها سياسياً، وخلق قوى عراقية تتمتع معها بصلات ممتازة. هذا إذا استثنينا الموقف في سوريا وتطوراته البالغة الأهمية على المنطقة حالياً وفي المستقبل.
ولكن هذه الصورة القاتمة لا ينبغي أن تكون إلا دافعاً للشعب العراقي من أجل استعادة نفسه، وذلك بالدرجة الأولى بتوحيد الإرادة العراقية بعد أن اتضحت أبعاد ما كانت القوى الأجنبية تعد به العراق، دفع العراقيون لها ثمناً باهظاً، والمستقبل هو أمام العراقيين فقط، وكل القوى الدخيلة سترجع وتنسحب منكفئة، ولا يصح إلا الصحيح، ولكن بشرط أساسي هو اتحاد إرادة كل القوى العازمة على وضع أساس العراق ومستقبله من قبل كل الأطراف العراقية المستقلة عن القوى الخارجية، الرافضة للاحتلال ونتائجه، سواء تلك المقاومة بالسلاح، أو بالاحتجاجات السلمية، أو تلك التي ترفض التعاون مع الاحتلال ونتائجه، أو تلك التي اكتشفت حقيقة الاحتلال وأهدافه البعيدة والقريبة.
جميع هذه القوى، والملايين من أبناء شعبنا مدون اليوم للمساهمة بجد ودون انتظار دعوة من أحد في بناء مستقبل عراق جديد، يسع الجميع، ديمقراطي تعددي، عراق يتوفر فيه الأمن والأمان، والمستقبل الواضح للأجيال القادمة.
كل هذا الذي حدث ويحدث لأن إرادة العراقيين مغيبة قسراً وبالقوة المسلحة وبالبطش والقمع بأعلى درجاته، ولكن يوماً سينحسر كل الماء الخابط الذي نحن فيه غاطسين، ويبقى الحق لأهله، والعراق لشعبه. ويوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى العراق بقلب سليم.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: