د. ضرغام الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5604
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في مطلع تشرين الأول / أكتوبر الجاري، أعلن ممثل اليونان في صندوق النقد الدولي (IMF)، أن اليونان ستكون بحاجة إلى دفعات جديدة من المبالغ لمواجهة أزمة الديون من الدول المانحة الأوربية وصندوق النقد الدولي، أكبر مما كان مقرراً أو متوقعاً، بسبب الركود الاقتصادي في اليونان، بدرجة تفوق مما كان يعتقد، وأن الدفعة الثانية ينبغي أن لا تقل عن 109 مليار يورو (146 مليار دولار).
وتتجه الأنظار صوب ألمانيا، قاطرة اقتصاد الاتحاد الأوربي وبنوكها في إلقاء طوق النجاة لليونان، بيد أن الأمر سوف لن يكون بهذه السهولة، مع رغبة الحكومة الألمانية القوية في إبقاء اليونان ضمن الاتحاد الأوربي، بل وضمن منطقة اليورو كذلك، على أن لا ينهار الاتحاد وعملته اليورو في أول أزمة وإن كانت بهذا الحجم، وهي رغبة عبرت عنها المستشارة الألمانية ميركل بوضوح تام، ولكن الحكومة والبنوك الألمانية تريدان بذات الوقت أيضاً تبرير موقفها تجاه البرلمان والرأي العام الألماني، والتأكد بأنها لا تجازف بقذف ملياراتها في بحر إيجة، وسيحصل الألمان، أو أنهم حصلوا فعلاً على ضمانات وامتيازات للعمل في مجالات كثيرة منها مجال الطاقة والاتصالات، ورفع مستواها وقدراتها وأدائها لدرجة القدرة على المنافسة، ولكن المعارضة اليونانية تعتبر هذه الأنشطة الألمانية بيع منظم وبخس لليونان لصالح ألمانيا.
وكانت المستشارة الألمانية قد حصلت على موافقة البرلمان الألماني (البندستاغ) بأغلبية 523 نائبا من نوابه الـ620، على خطة توسيع صلاحيات صندوق الإنقاذ الأوروبي ورفع سقفه من 440 مليار يورو إلى 780 مليارا، رغم أن الخطة واجهت معارضة برلمانية حيث أعتبر البعض أنها ستصب المزيد من المليارات لصالح البنوك والمجموعات الاقتصادية العملاقة وليس لفائدة شعوب منطقة اليورو المثقلة بديونها السيادية.
أما على صعيد الرأي العام الشعبي، فقد أوضحت نتائج استطلاع أجراه معهد (إمنيد) الألماني لقياس الرأي لصالح مجلة (فوكوس) الألمانية، أن 50% من الألمان أعربوا عن رغبتهم في العودة لعملتهم القديمة المارك بدل اليورو. في المقابل، أعرب 48% من الألمان عن تأييدهم لبقاء اليورو رغم الأزمة الراهنة. يذكر أنه قبل عام كانت نسبة المؤيدين لاستمرار اليورو بين الألمان تبلغ 50% مقابل 47% للراغبين في عودة المارك.
وبمقتضي الآلية الجديدة سترفع ألمانيا وهي صاحبة أكبر قوة اقتصادية في المنطقة، من نصيبها في تقديم ضمانات مالية لصندوق الإنقاذ الأوروبي من 123 مليار يورو إلى 211 مليارا وهو مبلغ يعادل ثلث الميزانية السنوية للدولة الألمانية، والأعلى من بين المساهمات الأخرى
ولكن ذلك سوف لن يكون بدون آثار ملموسة ففي ألمانيا، ارتفع معدل التضخم خلال الشهر الماضي بوتيرة أسرع من المتوقع ليبلغ أعلى مستوى له في ثلاث سنوات حسب التقرير الذي نشره مكتب الإحصاءات الفيدرالي(مطلع أكتوبر). وأعلن المكتب أن المعدل ارتفع إلى نقطتين وستة أعشار نقطة مئوية ما يمثل زيادة بخمس نقطة قياسا لشهر أغسطس / آب. فيما اعتبرت المستشارة الألمانية ميركل أن العجز الكبير في الميزانية وتفاقم الديون السيادية عند بعض الدول(خاصة في منطقة اليورو والولايات المتحدة) تعد مصدر الأزمة الحالية التي يعانيها الاقتصاد العالمي، واصفة الوضع الحالي بالمرحلة الثالثة من الأزمة الاقتصادية العالمية.
والحكومات الأوربية، وفي المقدمة الألمانية، يدركون(وعبرت عن نفسها في نتائج الانتخابات المحلية في ألمانيا) أن دافعي الضرائب في البلدان الدائنة قد ضاقوا ذرعاً، ويعبرون صراحة عن تذمرهم، لحصول المواطنون في اليونان على 15 راتباً، واقتصار ساعات العمل على بضعة ساعات، والتقصير في جباية الضرائب وارتفاع ميزان الصرف في القطاع العام إلى مستويات قياسية، ومنح وإكراميات تصرف بمناسبة وبدونها.
ولكن من جهة أخرى تتفاقم وتزداد مواقف الحكومة اليونانية صعوبة، ذاتياً وموضوعياً. فمن جهة أن المشكلات الاقتصادية تتعقد بسبب ضعف الأداء الاقتصادي العام والتعثر الذي يسود الأنشطة الاقتصادية والحكومية، فيما تتصاعد أنشطة المعارضة والسخط الشعبي حيال خطط الحكومة التقشفية والضريبية، التي تسعى الحكومة اليونانية من خلالها طمأنة الدائنين(حكومات و"Consortium" كونسوريتوم بنوك، وبنوك) على مصير ملياراتهم.، وبات الأمر برمته يشكل بوضوح ليس كعنصر ضغط على الحكومات والبنوك، بل وكعنصر ضغط على الناخبين(في ألمانيا بصفة خاصة) وبالتالي على نتائج صناديق الاقتراع. كما تعبر جهات عديدة صراحة من أن اليونانيون حكومة وشعباً لا يفعلون الكثير لدرء خطر الإفلاس الداهم، أو الخروج من منطقة اليورو وربما من الاتحاد الأوربي.
ويشهد الواقع الاجتماعي اليوناني يشهد ظواهر جديدة هي في الواقع نتائج لحملة التقشف، وهي مؤشرات تشير أن الأزمة سوف لن تمر بسلام، وسيكون ثمن أخطاء الحكومات السابقة، وعهد الرخاء على حساب الديون فادحاً. وتشير دراسة حديثة إلى زيادة عدد حالات الانتحار بنسبة 25 % العام مقارنة بعام 2009 كما زادت حالات الإصابة بفيروس نقص المناعة الايدز بسبب تعاطي المخدرات ولجوء البعض إلى العمل في الدعارة، وأن التخفيض الحكومي لميزانيات المستشفيات بنسبة 40 % أدى إلى ظهور حالات نقص في الإمدادات الطبية ولجوء المواطنين إلى تقديم الرشاوى لتجنب قوائم الانتظار في المستشفيات التي تعمل فوق طاقتها. ويعتقد خبراء الصحة العامة أن الموقف الحالي في اليونان تثير القلق إلا أن الأمر قد يستغرق عدة سنوات لتظهر الآثار السلبية بشكل واضح على الصحة العامة. وصرح خبير يوناني يعمل في جامعة كامبردج، أن الأمر قد يستغرق عدة سنوات لتظهر الآثار الخطيرة والواضحة للأزمة.
المظاهرات أمام وزارة المالية تشير إلى أن الكثير من الموظفين لم يتلقوا رواتبهم منذ شهر حزيران، والرواتب المتواضعة أصلاً تتعرض لاستقطاعات قد تبلغ 40%، مطالبين أعضاء الحكومة والنواب بالنظر عاجلاً بحل هذه الإشكالية المعقدة. وفي ظل هذا التوتر، في الأوضاع اليونانية وتعثر الأداء الحكومي، أعلنت وكالة " موديز" عن خفض التصنيف الائتماني بمقدار درجتين لثمانية مصارف يونانية.
وصحيح أن الحكومة اليونانية ليست مسؤولة بصفة مباشرة عن الأزمة، إذ ورثتها من الحكومات السابقة، التي كانت تعاني من فساد كبير وسوء إدارة، وعدم المصارحة في البيانات الحكومية سواء للشعب أو للشركاء اليونانيين، ولكن على عاتق رئيس الوزراء باباندريو اليوم أن يقنع المعارضة الشعبية والشارع من جهة، والدائنين الأوربيين الذين لا يرتضون بمجرد كلمات، باباندريو سعى إلى إقناعهم بداعم اليونان بقوله: قبل كل شيء لدى اليونان امكانيات كبيرة. نحن لسنا بلدا فقيرا ولكنه بلد أسيئت إدارته.
إلا أن الجماهير الشعبية اليوم التي يتحتم عليها ما يصعب تحمله، لها رأيها في سبل معالجة الأزمة الطاحنة، التي يتفق الجميع على صعوبتها، ولكن ربما الخلاف يكمن في أساليب الحل.
فالمعارضة، البرلمانية منها أو تلك التي تمتلك الشارع(طلبة وعمال) يطالبون أن تفرض الضرائب بطريقة عادلة، وفي المقدمة كبار الرأسماليين من الصناعيين، وأصحاب البنوك، والأساطيل، وأن لا يقع الدين الذي تسببوا به على عاتق الفقراء وأصحاب الدخل المحدود.
وكان البرلمان اليوناني قد أقر مجموعة من الإجراءات والضرائب لتصل كل من له دخل شهري يبلغ 357 يورو فصاعداً، حيث تم تخفيض سقف من تطالهم الضريبة، وكذلك إلغاء التخفيض الضريبي على الإيجارات، ورفع ضريبة القيمة المضافة، وبلغ تخفيض سقف الضريبة ليشمل المتقاعدون ممن يبلغ تقاعدهم 400 يورو فقط، وهو الحد الأدنى للمعيشة.
وفي ذات الوقت التي طالت الإجراءات والضرائب أصحاب الدخل المحدود، خفضت الضرائب عن أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، حيث تبلغ في الوقت الراهن عائدات ضريبة الرأسمال الكبير في السنة أقل من 2.8 مليار يورو في حين تتجاوز عائدات الضرائب ال 50 مليار يورو من سائر القطاعات.
وما يعنيه ذلك من تداعيات خطرة على واقع اليونان والسياسي والاقتصادي والاجتماعي تتصل بمستقبله أيضاً، فالشباب اليوناني والمتأهل بصفة خاصة يحاول الآن بشتى الوسائل الخروج من البلاد والهجرة صوب بلداناً يجدون فيها الضمان والأمان لمستقبلهم على ضوء ارتفاع نسب البطالة الرسمية (وهي أقل من الأرقام الحقيقية)، إلى 16%(الأرقام الرسمية: 790,000) من بين عدد سكان لا يتجاوز 11 مليون نسمة. وإذ تتركز نسبة البطالة بين الشبان اليافعين: 15ـ 19 سنة، فتبلغ نسبة البطالة أكثر من40%، وهي الفئات العمرية المهاجرة.
ومن المعلوم أن ديون أي دولة إذا تجاوزت حد 30% من الدخل القومي فإنها ستدخل في دائرة المتاعب، أي أن خدمة الدين(قسط الدين + الفائدة) سيلتهم معظم التراكم الوطني ولا يدع شيئاً يذكر للتراكم الناتج القومي، ما لم يعجز عن التوصل لتوفير خدمة الدين فيلجأ إلى الاستدانة مجدداً ليتفادى تراكم الفائدة الضخم، وهكذا يصبح واجب الاقتصاد الوطني توفير خدمة الديون، فيما تتضاءل فرص التنمية. وقد بلغت نسبة الديون إلى الدخل القومي في اليونان 130% وقي إيطاليا 120%، وفي أسبانيا 60%. ولكننا بصدد بحث الديون في اليونان، ولكن مع بقاء متاعب البلدان الأوربية التي تعاني من ظروف حرجة ماثلة في خلفية تفكيرنا وتحليلنا. وربما أن هناك تعديلاً طفيفاً واستثناءات لا تلغي المتاعب، ففي الدول ذات الاقتصاديات العملاقة، تتوافر قدرات المناورة، ولخطط وسياسات مالية منها التقشف وزيادة الضرائب قد تؤدي إلى تقليص المتاعب.
(لاحظ الهامش في نهاية البحث: الديون الأمريكية)
وتبدي البنوك الأوربية تخوفها من أن تتكرر تجربة بنك ليمان براذرز الأمريكي، التجربة التي تسببت بكارثة ما تزال هناك قوى لم تتعافى منها بعد، وهو على كل حال احتمال يضعه الجميع في الحسبان في التعامل مع الأزمة اليونانية، التي لا يبدو أن نهاية قريبة لها.
وسيان، الحكومات أو البنوك الدائنة، فهما يواجهان مأزقاً وخيارات صعبة، فالتراجع عن مد اليونان بالمزيد من المليارات لإنقاذها من إشهار الإفلاس، سيجعل مصير الديون في مهب الريح، بل ويضع مصير الاتحاد الأوربي نفسه في موضع التساؤل. كما أن سياسة حقن المريض بالمزيد من المليارات، سيفقد البنوك شيئاً من مرونتها، وربما يضعف موقفها المالي لدرجة العجز، وهذا مع حدث بالضبط مع البنك الفرنسي / البلجيكي الكبير ديكسيا(DEXIA) الذي ينوء تحت عبأ 95 مليار يورو (127,66 مليار دولار) من ديون السندات، قاد إلى عجز في السيولة، مما أدى لهبوط أسهمه في البورصة، وغدت مشكلة تستحق من الحكومتين الفرنسية والبلجيكية إيجاد الحلول لها(مطلع أكتوبر). وتطلق أزمة بنك ديكسيا إشارة الإنذار للبنوك الأوربية التي تعاملت في موضوع سندات الديون.
وبالفعل فقد أطلقت وكالة التصريف الائتماني موديز إشارة التحذير لبلجيكا، من أنها قد تواجه تخفيض جدارتها الائتمانية، ولذلك فقد تم وقف تداول أسهم ديكسيا في السوق أواخر سبتمبر / أيلول وهبطت قيمة الأسهم بنسبة 42% خلال أسبوع واحد. أقفلت البورصات العالمية الاثنين على تراجع كبير وهبطت بورصة وول ستريت (wall street) إلى أدنى مستوى لها منذ أكثر من عام فيما تراجع اليورو إلى ما دون 1.32 دولار للمرة الأولى منذ كانون الثاني/ يناير.
وفي ذات الاتجاه يرى خبير سندات مالي، أن حجم الأموال المتدفقة في يونيو/حزيران الماضي يشير إلى بدء دخول النظام المالي العالمي في أزمة قروض وهو أمر لا يخص الغرب وحده بل يشمل العالم. وأخيراً وليس آخراً، تطرح الأزمة بكل مفرداتها سؤالاً مهماُ: هل سيكون بوسع اليونان حقاً إيفاء ديونها يوماً... ؟ ومتى... ؟.
وتمثلت مؤشرات أخرى على وصول الأزمة الأوروبية إلى القطاع المالي العالمي، بتوقف بنك الصين المركزي عن مبادلات العملات مع بعض البنوك الأوروبية فضلا عن عمليات للبنك المركزي الأوروبي في السوق لدعم السندات الأوروبية.
وحيال هذه الهواجس، أعلن رئيس البنك المركزي الأوروبي (4/ سبتمبر/ أيلول 2011) أن وزراء المالية في منطقة اليورو سوف لن يتخذوا قرارا بشأن صرف دفعة جديدة حاسمة من أموال الإنقاذ لليونان في 13 تشرين أول/أكتوبر الجاري، بانتظار تقريراً هاماً عن تجاوب أثينا لم ينجز بعد، بالإضافة إلى طلبات جديدة للحكومة اليونانية، إذ صرح حكوميون في أثينا: أم ما لم تتلق أثينا الحزمة الجديدة من أموال الإنقاذ، فسوف لم تكون هناك سيولة نقدية في البلاد بحلول منتصف تشرين الأول / أكتوبر / 2011 .
غير أن آفاق الحل الاقتصادي بالنسبة للحكومة اليونانية تبدو ابعد من ذلك بعدما أعلنت أثينا أن العجز العام في موازنتها سيناهز 5,8 % من إجمالي ناتجها المحلي هذا العام، وهو الرقم الأعلى من 4,7 % الذي تم الاتفاق عليه في حزيران/يونيو مع الدائنين.
فالأزمة إذن ذات عدة فروع، ومتعددة الأطراف، ودائرة تأثيراتها تتسع، وذلك ما يزيد في تعقيد المشكلة وبالتالي الحلول. وفي هذا المجال يطرح خبراء مصرف النقد الدولي (IMF) أن هناك ثلاثة مشكلات مهمة تعمق من الأزمة وهي:
1. تنامي أزمة الثقة.
2. ضعف الرصيد المصرفي العالمي.
3. ضعف السياسة.
وفي سياق تفاقم أزمة اليونان، خاصة ومنطقة اليورو عامة، حذرت رئاسة الاتحاد الأوروبي من مخاطر تصدع منطقة اليورو وتبعات ذلك على دول التكتل الذي يواجه أخطر تحد، وفيما يخيم شبح الإفلاس على اليونان طالبت أصوات اقتصادية بعدم شراء سندات الدول المتعثرة.
وفي هذا الإطار، أعلن (14/ أيلول) وزير المالية البولندي الذي تتولى بلاده حاليا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي: أن أوروبا كلها في خطر من جراء أزمة الديون في منطقة اليورو. ومحذرا من أنه إذا تصدعت منطقة اليورو، لن يكون الاتحاد الأوروبي قادرا على الاستمرار، مع كل ما يمكن تصوره من تبعات لذلك. وحذر من وطأة الأزمة الحالية على الاقتصاد الفعلي: إذا استمرت الأزمة الحالية بهذا الشكل الذي لا يمكن التكهن به، فسوف تكون لها تبعات كبرى. وإذا استمرت عاما أو عامين، فعلينا أن نتهيأ لمواجهة نسب بطالة قد تزيد بأكثر من الضعفين في بعض الدول بما في ذلك الدول الأكثر ثراء. وبعبارات مشابهة وجه رئيس المفوضية الأوروبية باروزو التحذير نفسه أمام البرلمان: إننا نواجه اخطر تحد عرفه هذا الجيل، إنه نضال من اجل مستقبل أوروبا السياسي والاندماج الأوروبي بحد ذاته.
أما رئيس البنك المركزي الاتحادي الألماني "بندس بنك" فقد أعرب عن اعتقاده بأن العملة الأوروبية الموحدة تقف في الوقت الراهن عند مفترق طرق. وإن أمام مستقبل العملة الأوروبية احتمالين، الأول يتمثل في الإبقاء على الأطر المتفق عليها حتى الآن شريطة دعم الحوافز الداعمة لاستقرار العملة، والثاني يتمثل في اتحاد مالي يتم في إطاره تغيير نطاق المسئوليات وفقا لهيئات أوروبية ديمقراطية وبعيدا عن البرلمانات الوطنية للدول التي تنضم إلى هذا الاتحاد.
وفيما تجتاح الاضطرابات اليونان احتجاجا على حزم التقشف الحكومية تواصل اليونان المضي قدما في إجراءات الإصلاح الاقتصادي المتأخرة كثيرا، حيث قالت الحكومة إنها سوف تستغني فورا عن حوالي 20 ألف موظف حكومي، ثم عن 200 ألف بحلول عام 2015، وتزايدت الشائعات حول اقترابها من إشهار عجزها عن سداد ديونها. ورغم مرور عام ونصف العام من التقشف الاقتصادي الذي شمل زيادة الضرائب وخفض الأجور ومرتبات التقاعد والإنفاق الاجتماعي، بيد أن الوضع المالي لليونان لما يزل في حالة خطيرة، وما زالت اليونان تواجه احتمالات إشهار إفلاسها. وكانت المخاوف من إشهار إفلاس الدولة اليونانية قد دفع بسعر الفائدة على سندات الخزانة التي تبلغ مدتها 10 أعوام إلى أكثر من 24 %.
وكان المفوض الأوروبي للشؤون الاقتصادية قد حذر (أواخر سبتمبر) أمام البرلمان الأوروبي من أن عجز أو خروج اليونان من منطقة اليورو ستكون له "كلفة مأساوية" على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ليس في اليونان وحدها وإنما أيضا في كل دول منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي وكذلك على الشركاء العالميين.
وكذلك الأمر بالنسبة لحكومة المستشارة الألمانية ميركل، حيث لم يعد سهلاً مواجهة البرلمان، والجمهور، والمطالبة بالمزيد من التضحيات، وكما يقول أحد الخبراء الألمان إذا ما أشهرت اليونان في يوم ما إفلاسها:" أنا لا أستطيع تسديد الديون "، عندئذ سترتفع ديون ألمانيا دفعة واحدة وتتجاوز الخط الأحمر، وسيتعرض تصنيفها الائتماني إلى الخطر.
في وضع بدأ الغموض والمجازفة يلف بعض جوانبه. وبهذا المعنى رفض أحد حكماء الاقتصاد الألماني الخمسة (فولفجانج فرانتس) فكرة مواصلة البنك المركزي الأوروبي شراء سندات الدول المتعثرة في منطقة اليورو. وأشار إلى أنه كان قد وجد مشقة في قبول أن يشتري البنك سندات يونانية العام الماضي قائلا انه كان موقفا اضطراريا، وإن ذلك كان فقط بهدف منح الوقت للقائمين على السياسية المالية "حتى يتسنى لهم خلق نوع من نظم الإفلاس الخاصة بالدول، لكن ذلك لم يحدث للأسف".
وكتعبير عن رأي ومواقف الخبراء الاقتصاديين، بوصفها آراء خبراء اقتصاد يتقدمون بها لصناع القرار السياسي، ففي هذا الإطار أيضاً، طالب رئيس البنك المركزي الألماني، إدارة البنك المركزي الأوروبي بعدم الإقدام على مزيد من المخاطر وذلك في إشارة إلى معاودة الأخير شراء سندات دول متعثرة في منطقة اليورو، ملقياً بالمسؤولية على عاتق القادة السياسيين، ولكن أيضاً على القائمين على السياسة المالية الآن تحمل مسئوليتهم وتحديد أي مخاطر سيقدمون عليها في سبيل مكافحة أزمة الديون الراهنة فهذه ليست مهمة القائمين على السياسة النقدية.
ومنذ دخول منطقة اليورو في أزمة ديون حادة والحديث يدور عن أسباب هذه الأزمة وسبل حلها. وبينما يعتبر البعض أن الحل يكمن في توحيد السياسات الاقتصادية في أوروبا، يرى آخرون أن إعادة بناء الثقة جزء لا يتجزأ من أي حل مقترح.
انعكست أزمة الديون التي تمر بها بعض دول منطقة العملة الأوروبية الموحد (اليورو) السبعة عشر على السياسات الأوروبية بشكل عام. وفيما تقف اليونان، التي تعاني من هذه الأزمة بشكل أكثر من غيرها، على شفا حفرة الإفلاس، تتسع هوة الخلاف بين الدول الأوروبية حول سبل التوصل إلى حل لهذه الأزمة. وحتى في أروقة السياسة الألمانية أوشكت هذه الأزمة على أن تعصف بالائتلاف الحاكم الذي تتزعمه المستشارة ميركل، والمكون من حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي والحزب الديمقراطي الحر، وتركت أثارها على انتخابات الولايات، التي كانت آخرها ولاية برلين، وأداء الحزب الديمقراطي الليبرالي الضعيف فيها.
ففي فرنسا هي ثاني أكبر مساهم في صندوق الإنقاذ الأوروبي بعد ألمانيا، تعاني مصارفها من أزمة عميقة نظراً لارتباطها بأزمة الديون السيادية الأوروبية، وكان من المتوقع أن تقدم الحكومة الفرنسية موازنة تقشف للعام 2012، في وقت تواجه فيه باريس جمودا في معدل النمو الاقتصادي وارتفاعا في عجز الموازنة وعدم التوصل إلى حل لأزمة الديون السيادية بأوروبا. وتسعى وزيرة الموازنة إلى تقليص العجز من 5.7% في 2011 إلى 4.5% في العام المقبل، قبل أن يبلغ 3% في 2013 وهو السقف الذي تحدده قوانين الاتحاد الأوروبي. كما تسعى الحكومة الفرنسية للسيطرة على المديونية العامة التي بلغت 2.22 تريليون دولار في أواخر آذار الماضي.
وكانت الوزيرة قد أعلنت إن موازنة 2012 هي الأولى منذ العام 1945 التي يتقلص فيها الإنفاق الحكومي ما عدا فيما يخص سداد خدمة الدين (الفوائد المترتبة عليه) ودفع معاشات التقاعد، وأشارت بيانات رسمية إلى أن حجم الثقل الضريبي سيرتفع إلى 44% من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بـ43.2% للعام الجاري.
وبالعودة إلى الشأن اليوناني فمازالت المظاهرات والإضرابات الرافضة لخطط الحكومة التقشفية مستمرة حتى أن بعثة المدققين التابعين لدائني اليونان أجبرت على تأجيل اجتماعها مع وزير النقل، بعد أن اقتحم موظفو القطاع العام مقر الوزارة ليعتصموا داخله.
وكان رئيس الوزراء الفرنسي قد صرح في شهر آب أن مرحلة التساهل في السماح بزيادة حجم الدين قد انتهت، وذكرت صحيفة «ليزيكو» الاقتصادية الفرنسية نقلا عن مصادر برلمانية، أن حجم عجز الموازنة سيناهز في العام المقبل 87% من الناتج المحلي الإجمالي لفرنسا، وهو مستوى يفوق كثيرا السقف المحدد أوروبيا وهو 60%. ويعزى ارتفاع حجم الدين الفرنسي للعام المقبل إلى مساهمة البلاد في خطط الإنقاذ المالي لدول مهددة بالإفلاس، ممثلة في اليونان والبرتغال وأيرلندا.
أما في بريطانيا فقد صرح وزير الأعمال في مؤتمر لحزب الديمقراطيين الأحرار قبل حوالي الأسبوعين بأن اقتصاد بريطانيا يمر بأزمة تعادل في كلفتها الاقتصادية حالة الحرب.وأضاف أن البريطانيين سيمرون بأوقات صعبة، معتبرا أن الطريقة الوحيدة التي ستجعل هؤلاء يقبلون بالاستمرار في إجراءات التقشف هي أن تكون مقبولة بالنسبة إليهم.
بالعودة إلى أوروبا، وختاماً، فقد شبه وزير الخارجية البريطاني منطقة اليورو "بمبنى يحترق دون أبواب خروج "، معتبرا أنه سيتعين على الألمان أن يقدموا دعما ماليا للدول الأعضاء الأضعف مثل اليونان، وتأتي التصريحات في وقت تعيش فيه أوروبا أزمة خانقة جراء الديون السيادية تعد الأسوأ منذ عقود، ومن المؤكد أن الألمان سوف لن يفعلوا ذلك حباً بالمساعدة فقط، فالكل ينظر إلى مصالحه.
تدفع هذه الأزمة ولواحقها إلى مناقشة نواح عديدة، والاعتقاد أن الاتحاد الأوربي، يعاني من ضعف بسبب تفاوت قدرات أعضاءه، ولكن هذه الحقيقة كانت معروفة منذ انضمام الدول ذات المقدرة الأقل في عضوية الاتحاد أو الانضمام لمنطقة اليورو، ومع ذلك يرى بعض الخبراء أن من الأفضل التصدي بشجاعة للأزمة بدلاً من التهرب منها، بل أن ذلك سيكون أجدى اقتصادياً من التخلي عن اليورو أو أحد أعضاءه.
وهنا تأتي بعض المقترحات في التعامل مع الأزمة غير واقعية بتقديرنا، في وضع حدود أكثر صرامة من تلك التي وضعتها اتفاقية مايسترخت (1996) التي اتفق فيها أن لا يتجاوز العجز عن 3% فقط، كما أنه ليس واقعياً المقترحات القاضية بالمضي نحو حكومة مركزية واحدة تحدد بدقة السياسات المالية. إضافة إلى ذلك يرى بعض الخبراء (كمقترحات للتداول) بأن تشكيل حكومة اقتصادية أوروبية موحدة تقوم بتوحيد السياسيات المالية والضريبية للدول الأعضاء سيخرج بالمنطقة من دوامة الانكماش الاقتصادي.
وتتفق أراء الخبراء في جوانبها السياسية والاقتصادية، على الصعوبات الجمة المتعلقة بإنقاذ الاقتصاد اليوناني، مع ضعف قدرات واستجابة التي يبديها اليونان حكومة وشعباً، إضافة إلى الآثار التي قد تنجم عن انهيار اليونان، على منطقة اليورو والاتحاد الأوربي بأسره. ودون ريب فإن اليونان تلعب دوراً رئيسياً في الأزمة الحالية، فهي تتعرض لانتقادات شديدة بسبب سياساتها غير التقشفية، وتزويرها في السابق لإحصاءات الناتج الاقتصادي وميزانية الدولة.
وهناك من لا ينظر إلى الأزمة اليونانية على أنها أزمة ثقة، ويوضح بأن اليونان لديها نظام اقتصادي واجتماعي يختلف بشكل كبير عن النموذج الألماني، مثل سن التقاعد، الذي يبلغ في اليونان 55 عاماً، مقارنة بنظيره في ألمانيا الذي يبلغ 67 عاماً. وسيكون من الصعب إقناع دافع الضرائب الألماني بدعم "التقاعد المبكر" للمواطن اليوناني. وأن جوهر الأزمة هو اختلاف النماذج الاقتصادية لدى الدول الأعضاء في منطقة اليورو، وأن السبيل إلى حل هو توحيد هذه النماذج.
ومن بين النقد الذي يوجه للحكومة اليونانية عند الحديث عن سياسات التقشف، هو الجيش اليوناني، الذي يعتقد أنه أكبر من الحاجة إليه، فحجم هذا الجيش أكبر من حجم الجيش الألماني، وأن إجراء ترشيقات فيه سوف لن تنعكس سلباً على المجتمع، خاصة إذا ما تم التعامل مع سياسة التجنيد الإجباري السائدة في اليونان، والتي يمكن أن توفر على الحكومة مبالغ كبيرة.
وهناك رأي سائد بين الخبراء، إن كل دولة تعاني من أزمة ديون قادرة على التعامل مع هذه الأزمة بأسلوبها الخاص، ودون فرض أسلوب معين عليها، كما حدث في التجربة الأيرلندية، التي تمكنت بعد عامين من إفلاسها من بلوغ نسبة العجز المتفق عليها في ماستريخت والبالغة 3%.
ومن بين التقديرات السلبية هو احتمال إفلاس اليونان، وإذا حل ذلك فسوف يتعين على ألمانيا أن تدفع فوائد أعلى على ديونها، وهذا لن يشكل خطرا كبيرا عليها، لكن دولا أخرى ستعاني منذ الآن صعوبات، مثل البرتغال وايرلندة وإيطاليا وإسبانيا، وقد تتعرض لصعوبات أكبر من خلال اضطرارها إلى دفع فوائد أعلى. وعندئذ هناك احتمالان لرد فعل الأسواق المالية: أولا سيتراجع الاستعداد لإقراض أموال إلى الدول الأوروبية الأضعف اقتصاديا، وثانيا ستتم المراهنة ضد دول أوروبية منفردة انطلاقا من شعار، إذا اليونان أفلست فمن هي الدولة التالية؟ وقد يعرض إفلاس اليونان بنوكا عديدة أيضا إلى الخطر وهو ما ينبه له الخبراء في عالم المال والبنوك.
الديون اليونانية مشكلة كبيرة، ولكن المشكلة الأكبر ترك الأزمة تتفاعل وتكبر لدرجة يستعصي حلها، أو يكون حلها باهض الثمن سياسياً واقتصادياً معاً. ومن تلك الاحتمالات سريان فيروس الإفلاس لدول أخرى، ونشوء وضع اقتصادي وسياسي في أوربا لا سابقة له، والدول والبنوك المانحة ترى أنها إن نكصت عن مد اليونان بالمال، ففي ذلك مجازفة شبه مؤكدة بفقدانها لأجل غير معلوم، ولكن مدها بالمزيد المعقول وفق ضوابطها، تمنح الأمل أن يستعيد المريض عافيته ويتمكن من إعادة الأموال، ولكن مع الأرباح طبعاً، فلا يوجد شيئ مجاني في عالم الرأسمالية. فالمجازفة موجودة في الحالتين.
--------------
* الهامش: الديون الأمريكية.
في الولايات المتحدة الأمريكية التي ترزح تحت ديون ثقيلة، (حجم الفوائد السنوية على الدين الأميركي يبلغ 266 مليار دولار)، بينما بلغ الناتج المحلي الإجمالي وفق تقديرات حكومية أمريكية في يونيو/حزيران الماضي للعام 2011 يبلغ 15.003 تريليون دولار.
وكان العجز في ميزانية الحكومة الأميركية في السنة المالية المنتهية في 30 سبتمبر/أيلول قد بلغ 1.3 تريليون دولار أي ما يعادل 8.6% من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن العجز يتراجع بفعل خطط حكومية، وصرح مكتب الميزانية، إن حجم العجز في السنة المالية 2011 يتطابق مع العجز المسجل في السنة المالية السابقة عندما كان يعادل 8.9% من الناتج لمحلي الإجمالي. وأضاف أن العجز في ميزانية السنة المالية 2009 كان يعادل 10% من الاقتصاد الأميركي، وتسعى الحكومة الأميركية بصعوبة لزيادة عائداتها وخفض الإنفاق لخفض العجز إلى 3% وهو مستوى يقول المحللون إنه مستوى يمكن للحكومة التعامل معه بسهولة.
ومن الوسائل المعروفة في هذه الخطط هي خفض النفقات، إذ تأمل الحكومة الأمريكية خفض الإنفاق بمعدل 1.2 ترليون دولار في السنة لمدة عشر سنوات المقبلة، وزيادة الضرائب، إذ ارتفعت عائدات الحكومة الأميركية من ضريبة الدخل على الأفراد بنسبة 22% إلى 1.1 تريليون دولار، لكن العائدات من ضرائب الشركات انخفضت بنسبة 6% بسبب الوضع العام للاقتصاد الأمريكي وبطء الانتعاش الاقتصادي في أوروبا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: