د. ضرغام الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6126
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
كانت مثل هذه الأفكار تخامرني منذ أن قرأت في الثمانينات أعمالاً للكاتب الكولومبي غارسيا ماركيز، وأكثر تلك التي تأثرت بها(بهذا المعنى) كانت روايته الذائعة الصيت (خريف البطريك) التي يتناول فيها تحديداً ديكتاتوريات أميركا اللاتينية، ثم أن صداقتي الحميمة للمرحوم الدكتور حقي إسماعيل حقي وهو عالم كبير نال شهادة الدكتوراه من معهد راق له شهرة عالمية في فيينا / النمسا(معهد سيجموند فرويد) بعد أن حصل على شهادة الطب من جامعة بغداد في الخمسينات، يوم كانت كلية طب بغداد مؤسسة علمية راقية تنابز أرقى كليات الطب في العالم، فقد أوضح لي د. حقي إسماعيل بطريقة رائعة، مفيدة وممتعة في وقت واحد ما يسمى بعلم نفس القيادات(The Psychology of Leadership)، وبدأت منذ ذلك الوقت، أنتبه وأركز على سلوك القادة في الأزمات، فيما إذا كانت توجد خصائص مشتركة بين القادة المبتلون بمزاج عصابي سايكوبات ((Psychopat، أو بداء العظمة، كالبارانويا (Paranoia). وينبغي هنا التفريق بين زعماء طغاة لهم مزاج دموي عصابيون يعانون من مشكلات نفسية عميقة يقيمون أنظمة مؤسسة على القمع ومصادرة الآخرين ويستولون بنهم على كل شيئ المال والمجد ووسائل الإعلام والمجتمع، وبين أنظمة تمثل دكتاتوريات آيديولوجيه / سياسية، كأنظمة ديكتاتورية الطبقة العاملة، أو ديكتاتورية رأس المال الاحتكاري، والفرق بين هذا وذاك، ليس مجال بحثنا.
ثم أني قرأت مرة للرئيس الأمريكي الراحل جون ف. كندي في كتابه استراتيجية السلام (The Strategy of Pease) رأياً ربما يمثل جزء من الواقع، إذ يقول أن الفئات التي تناهض الحكومات تبشر ببرنامج ينطوي على مبالغة في وعود الرخاء، وتدرك بعد استلامها السلطة أنها كانت قد أسرفت في وعودها، فتضع اللوم على عناصر خارجية فقط، ولما يتململ الشعب، تلجأ السلطة لقمع الناس وهذا دواليك في عملية لا نهاية لها من الفقر والوعود والثورات والقمع.
بادئ ذي بدء، فلسفة القمع قد تكون: مذهب نظام حاكم لفرد أو فرد يستولي على حركة لا تجد سبل شرعية للاحتفاظ بالحكم، فلا يبدو أمامه(بحسب تأهيله النفسي) سوى أن يسعى للبقاء في الحكم بوسيلة أخرى، في مجملها، هي أن ترغم الجمهور على قبول قيادتها للمجتمع...!
والزعامة التي تعتمد القمع قد تكون غالباً تلقت تربيتها في وسط عائلي أو سياسي قمعي، ولا علاقة للأمر بوجهه الملائكي، فقد يكون بوسامة الممثل الآن ديلون وله وجه طفولي (Bayby Face) ساذج برئ، ولكنه في الواقع يلعب دور القاتل الملائكي. تبدو فكرة القمع عند الطاغية قائد القمع مألوفة ومتداولة، بل وتغدو (منطقية) لشدة ضرورتها وانعدام نهائي للسبل الأخرى(فيما يعتقد) فيغدو القمع أمراً لا مفر من سلوكه كما يلجأ المرء إلى خيار قاس كبتر أحدى أطرافه، أو إزالة إحدى كليتيه أو ثلاثة أرباع معدته....! وقد يطلق فعلاً مصطلحات من هذا القبيل، عدا السياسية كالمؤامرة والاندساس، فيذهب إلى الجراثيم والفايروسات ...!
وعلى الأرجح أن لا علاقة تقريباً لما تلقاها الطاغية على مقاعد الدراسة بسلوكه الطغياني، إذ يمكن أن يكون فناناً تشكيلياً كهتلر، أو صحفياً مثقفاً رفيع المستوى كموسوليني، أو طبيباً أخصائياً، ولكنه يعيش في أجواء الزعامة المطلقة، فالزعامة التي تمارس القمع تجده إذن منطقياً وشرعياً، ويتولى فريق من الخبراء الذين تلقوا تدريبات طويلة في وضع السيناريوهات المحتملة لكل مشهد، إخراج المشاهد للجمهور المتلقي المقموع، وهناك مخرجين أفذاذ في عالم التضليل واختراع الأكاذيب الدقيقة الصنع، تعلموا الحرفة في مؤسسات راقية، ولكن يحدث أن يؤجر بعضهم خبراته ورأسه مقابل مغريات الحياة، فيأتي العمل آية في الدقة حتى يخال للمرء أنها أجمل من الحقيقة...! بل أن هناك مثلاً عراقياً رائعاً بهذا المآل (الكذب المرتب أحسن من الصدق المخربط).
الزعامة القمعية هي بالضرورة زعامة طغيانية ديكتاتورية، وهي حتماً لا تؤمن بالشعب كقوة محركة للتاريخ وفاعلة له، وإن فعل ذلك فبدرجة نسبية، بل يؤمن انطلاقاَ من ذاته، بمبدأ الزعامة التاريخية الفذة، ويعتبر نفسه أنه الممثل الأوحد للشعب، فهو يعتقد أنه شخص متفوق، متفوق لدرجة خطيرة وأن على الآخرين السجود له، (فكريا وسياسياً) وإن أعفاهم بكرم من هذا التقليد الأسطوري بفعل الحداثة وانتشار الثقافة، لكن لابد على أية حال من الاعتراف صراحة بزعامته الغير خاضعة للنقاش، وأن مكانته عالية وينبغي أن لا تطالها الأيادي، فهي أعلى بالطبع من الدستور الذي يمكن تعديله، أو تجاهل فقرات منه، أو حتى إلغاؤه ووضع غيره، وهو أعلى من الحزب أو الحركة فهذه إن وجدت، فهي مشاريع مكرسة لتمجيده، وليس لأمر آخر ..!
وهكذا يعتمد خبراء التملق والتسلق في حياكة الكثير من الأكاذيب الجميلة الممتعة فعلاً، وكمثال على ذلك: ألا يسعدنا حقاً مشاهدة الأفلام الخرافية حتى بعد بلغنا سن الرشد، مثل سوبر مان، وجيمس بوند وبات مان وسبايدر مان، وما شابه ذلك من أفلام يتقصد صانعوها إصابة مخيلتنا في الصميم، بل والتغلغل فيها وأصابتها بعطب هم يحددون مساحته وموقعه، نتلذذ بمشاهدة هذه الأفلام ونتفاعل معها مع أننا ندرك تمام الإدراك أنها حفلة أكاذيب أنيقة وسكوب ملون مترجم.
خبراء التملق والتسلق، قد يتمتعون بضرب من الذكاء، إلا أنهم في النهاية خبراء يحترفون التملق والتسلق فلديهم ذكاء ودهاء القرود العليا في الحصول على الثمار الشهية العالية بسهولة. وقد يحدث أنه تلقوا العلم في جامعات راقية، خبراء في احتلال عقل المتلقي من الجمهور لأمد غير محدد، وخلق صورة مبهرة للطاغية ولدعاياته بحيث يجعلوا المتلقي يفهم الخطأ صوابا، في ضرب من خدمات العلاقات العامة، وهو أسوء أنواع القمع، فمثلاً بوسعهم أن يفلسفوا لك بشكل رائع مضار التدخين، وبعد خمس دقائق يؤلف لك أطروحة في روعة التدخين ولذته. لابد من الاعتراف بقدرات ومواهب المتسلقين المتملقين.
القمع الثقافي هو أشد أنواع القمع إيلاماً، وأعمق تأثيرا لأنها تترسب في جمجمة الإنسان، ولابد من عمل وجهد ثقافي مضاد لاقتلاع ما زرعته أجهزة القمع، وهي مهمة ليست سهلة، وتكلف الكثير من الضحايا. سنخسر الكثير قبل أن يتضح للجميع وبدرجة واحدة من الوعي: أن هذا الذي نشهده، ليس في الواقع سوى كذب ممتاز بدرجة عالية من الجودة الفنية والتقنية ...! المشكلة أساساً تكمن في أن: جزء ما من جمجمة المتلقي تم الاستيلاء عليها، وبمرور الوقت، تزداد أجهزة الطاغية خبرة، فيما يألف المتلقي الكذب ويعتبره طبيعياً لأنه لا يعرف غيره ....! الكل يعرف حكاية الملك العاري، هي قصة قديمة ولكن قلما يعتبر الناس بها.
الطاغية، يطلق حملة القمع والاستيلاء، ويسره غاية السرور أن يجد الناس (الرعية) مبهورة لدرجة يكاد أن يغشى عليها، الخوف المطلق، والإعجاب المطلق، وشيوع مفردات وثقافة عبادة الذات وبأعلى أشكالها، وهو يرى ويلمس ذلك بين الغالبية العظمى ممن يقابلهم، تسليم واستسلام كامل شبه إلهي بزعامته، وعندما يسمع مواطن بسيط تصريحاً من مثقف أو فنان أو فنانة يحبها من خلال أعمالها الفنية، تتلفظ بما يشبه العبادة للزعيم، فهذا يمنح الزعيم (ضمناً) الحق بقمع من يبتعد عن هذا الطريق، فكيف تريد منه الديمقراطية أن يقبل هتاف الملايين: أرحل، لذلك تجد الطغاة يركزون على أصحاب العقول والمثقفين وقادة الرأي والفنانين خصوصاً.
الطغيان ظلم، والظلم مؤد للخراب والفقر هو الخراب، والفقر محرك أساسي للثورة، هذا هو المسار التاريخي للأشياء، الطغيان ... الفقر ... الثورة ... مفردات مترادفة هامه في سفر الحياة والثورات.
بين هذه المفردات علاقة ديالكتيكية، إحداها تفضي للأخرى، لتقوم من خلالها الثورة كحالة جديدة تؤدي لموقف سياسي / اجتماعي / ثقافي جديد، يحمل سمات متقدمة على ما سبقه، وإلا لا يصح أ‘تبارها ثورة ..! .الطغيان يعني الاستئثار، والاستئثار يعني حرمان الآخرين من حقوقهم، السياسية والاقتصادية وغيرها، ولكن الفقر من عناوينه الرئيسية. والفقر هو رمز لاستحالة استقامة نظام علاقات اجتماعية غير عادل، الفقر يعني حرمان الأكثرية من أمتيازات الثروة الاجتماعية لتستأثر بها شريحة ضئيلة، لتتأسس بذلك حالة لا يمكن اعتبارها عادلة، لأنها قائمة ومؤسسة على الظلم، وعندما تحاول الفئات المسحوقة أن ترفض هذا الواقع من الظلم المقنن، تقع في فخ معد بعناية، إذ تتصدى لها الفئات المستأثرة بالثروة والسلطة، وهي قد احتاطت بعناية فائقة للتمرد (الثورة) بسن قوانين تحتكر فيها الثروات والسلطة معاً، في حصار محكم يوصل إلى درجة التناقض التناحري، فتبدأ عمليات تحرر للوعي، فيما تشرع أجهزة الطاغية بعملية قمع حركة المطالبة بالعدل الاجتماعي.
لنسم هذه العملية ومفرداتها ما شئنا من التسميات إلا أنها تدور منذ فجر الخليقة وحتى يومنا هذا، بمسميات مختلفة، وعناوين ومصطلحات يعمد كتابها إلى تخفيف حدتها لكيلا تصيب بالهلع من يناصب هذه العملية التاريخي العداء.
من قال لا لم يمت
تلك كانت من كلمات سبارتكوس الأخيرة (71 ق.م)، وسبارتكوس كان عبداً من تراقيا، وزوجته سورية، وهو من مشاهير من قالوا لا للعبودية، فأودت به تلك للثورة، للموت على أعواد الصلب، وللخلود بدل من موت تافه على قارعة الطريق أو في كوخ ممزق الجنبات.
ألم يقل المتنبي:
وحب الجبان النفس أورده التقى وحب الشجاع النفس أورده الحرب
الفقر يقود لعبودية معلنة، أو غير ظاهرة للعيان، وذلك عندما يجد الإنسان نفسه مقيد بأغلال بعضها لا ترى بالعين، وقيود أخرى يشعر بها عندما يريد ولوج طرق وشوارع محرمة عليه، أو أماكن، وربما مطاعم، أو ربما التفوه بكلمات هي أشبه بدوي القنابل، الفقر يقود إما للرضوخ لحياة العبودية، أو للثورة، نستطيع أن تتعرف على العبودية أي كان شكلها وأبعادها، عندما يلاحظ المرء ويدرك كم هي كثيرة كلمات ممنوع، وممنوع الدخول أو العبور، أو لا يسمح إلا ... وفقرات تحدد كيف يكتب وينشر ويجتمع مع أفراد مجتمعه، وماذا يقرأ ويشاهد، ويمنع ما يشاء ويسمح بما يشاء، هذه تجدها في قوانين لا تصلح سوى لإدارة زريبة حيوانات معدة للذبح.
في جاهلية العرب والإسلام، رفض عنتر بن شداد القتال لما دعي إليه، قائلاً: العبد لا يصلح للقتال بل للعمل الشاق والمهين فحسب، فقيل له: كر وأنت حر، فمنح حريته وعندما قاتل عنتر وأصبح أسطورة، إنما كان يقاتل في الواقع دفاعاً عن حريته وليس عن عشيرته.
الفقر والثورة كانتا محرك أهم الثورات في تاريخ العالم، ألم يقل الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب قال: كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، كما قال الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب: عجبت لمن لا يجد قوت يومه ولا يخرج على الناس شاهراً سيفه.
الطغيان يخلق حالة العبودية وهي مؤدية للفقر، والفقر للثورة ... لن تجد مجتمعاً راقياً ترسف أيدي مواطنيه بالأغلال، فهذا لن يكون مجتمعاً منتجاً وخلاقاً من يقيد أيادي ويكمم أفواه مواطنيه، ولا يفتح فمه إلا إن أراد أن يمتدح الحاكم ...
العلامة العربي أبن خلدون يتحدث عن ذلك بوضوح تام، إذ يقول: إن الظلم يؤدي إلى خراب التساكن والعمران، أي إلى الفقر، والفقر مؤدٍٍ للثورة، تلك جدلية علمية لا تخطأ، قد تتأجل، أو تتأخر ليس بفعل تدخل الطغاة والأنظمة الرجعية، بل لأسباب موضوعية، لها علاقة بدقة موعد الولادة، ولكنها تأت حتماً في ميعادها الحقيقي .. لا محال ... الظلم والفقر يقود إلى.... الثورة.
الكذب هو في عرف الطاغية ممارسة سياسية، فالطاغية يلبس لكل ظرف مسوحه، فهو بهذا المعنى يمثل أوطأ درجات البراغماتية، فبالكذب يردم الهوة بين ما يطلبه الشعب، وبين ما يراه لازماً كي لا تفلت الأمور من يديه، وقد تنفع هذه السياسة لفترة، ولكن وكما يقول أحد الحكماء: بوسعك أن تخدع بعض الناس كل الوقت، وبوسعك أن تخدع كل الناس لبعض الوقت، ولكن يتحيل أن تخدع كل الناس لكل الوقت. وعلاج الأزمات عند الطاغية دائماً هي أما شراء الذمم أو الهراوة.
والتاريخ ملئ بقصص أن الحكام الطغاة أحاطوا أنفسهم بحراس أشداء مدربين على فنون القتل والقمع، بل وقد يستوردون عناصر أو خبرات وتقنيات القمع من خارج البلاد، وبعضهم بلغ في ذلك شأواً عظيماً، وأطلق عليهم أسم الأشباح ... ولكن هل سمعت أن طاغية عاند القدر وعصى مصيره ...؟
الفكر السياسي الحديث يقول: ليس للفقراء ما يخسرونه سوى أغلالهم.
وهو يقصد أن: أنهضوا أيها المحرومون ... فليس لديكم ما تخسرون
الفكر السياسي الحديث يقول أيضاً: إن الشعب الذي لا ينهض ليقاوم جلاديه يستحق أن يعامل معاملة العبيد.
وهو يقصد أن: أنهضوا، انتفضوا، قاوموا واصمدوا أيها الثائرون المضطهدون ... حافظوا على الطهارة الوطنية في صفوفكم، أحذروا جواسيس أعدائكم، سيحاولون أن يحرفوا ثوراتكم عن مسارها العربي الإسلامي، لا ترتضوا أن يستصغر شأنكم أو يهينكم أحد، أنهضوا حيثما كنتم على امتداد الساحات العربية الملتهبة من المحيط الأطلسي حتى الخليج العربي ..... إنكم وأمتكم منتصرون لا محالة ...
ــــــــــــــــــــــــ
جانب من مقابلة تلفازية مع إحدى الفضائيات بتاريخ 8/ تموز / 2011
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: