أ.رمضان حينوني - الجزائر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8410
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يحز في نفس كل معلم ومرب وأستاذ، وهو يتعامل مع طلبته في مختلف المراحل الدراسية أن يجد اللغة العربية في معاناة دائمة على ألسنتهم ودفاترهم. ويحز في النفس أكثر رؤية الشعوب الأخرى التي تحترم نفسها تكافح وتبذل الغالي والنفيس في سبيل رقي لغاتها، بينما يبدو الإهمال قاعدة أساسية عندما يتعلق الأمر بلغة الضاد، على الرغم من كونها لغة القرآن، وفيها من المزايا ما تفتقر إليه كثير من اللغات التي تسمى حية.
وعندما نتحدث عن واقع اللغة العربية في نظام ( ل.م.د )، فإن أول ملاحظة تخطر للذهن هي أن هذا النظام البيداغوجي الجديد هو القطرة التي أفاضت الكأس، فاللغة العربية - نطقا وكتابة - لم تكن بخير حتى قبل اعتماد هذا النظام، الأمر الذي يدفعنا إلى القول : إن الخلل في هذه القضية يعود إلى اتحاد جملة من الأسباب والعوامل، وليس إلى عامل منفرد. وفي كل الأحوال علينا أن ننتبه إلى العامل الأكبر منها وهو انعدام الحس اللغوي المسئول لدى شريحة واسعة من العرب أو المعربين، ترفع التحدي وتعيد إلى هذه اللغة الرفيعة شيئا من هيبتها.
لا نستطيع بحال إنكار الصعوبات التي اعترضت مسار تعميم اللغة العربية في الجزائر منذ الاستقلال، فلقد ورثت وضعا سيئا على مستوى التعليم عموما، ذلك أن عهدا طويلا من الاحتلال الفرنسي، بكل ما حمل من إقصاء للغة العربية وقضاء على الجهود المبذولة في سبيل بقائها واستمراريتها، وانتهاج كل السياسات التي تحول دون انتشارها، من استهداف لرموزها، و غلق المدارس، خاصة تلك التي أنشأتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والتي بدا واضحا أن الإقبال عليها من الطلبة كان واسعا جدا، ومنع المدرسين عن تلقينها إلا بمراقبة فرنسية، وعلى نطاق محدود، ولم تكتف فرنسا بذلك بل لجأت إلى وسيلة غاية في الهمجية، من خلال هدم المؤسسات الدينية والثقافية، و حرمان الجزائري الذي كان يحظى بقدر وافر من التعليم قبل الاحتلال من مصادر الوعي والمعرفة. و من الغريب أن نجد الفرنسيين أنفسهم يعترفون أن نسبة الأمية في الوسط الجزائري قبل الاحتلال كانت ضعيفة جدا فالجنرال "فاليزي" في العام 1834 يقر بأن وضعية التعليم في الجزائر كانت جيدة قبل التواجد الفرنسي، إذ إن كل العرب (الجزائريين) تقريبا يعرفون القراءة والكتابة، بفضل انتشار المدارس في أغلبية القرى والدواوير. " (1)
أما نتيجة ذلك فكانت حصولنا على ثلاث فئات تكون المجتمع الجزائري لغويا وثقافيا: الأولى فئة أمية تفوق نسبتها النصف بكثير من جميع أعمار وشرائح المجتمع، والثانية فئة مفرنسة تكونت في المدرسة الفرنسية مخيرة أو مجبرة، و الثالثة فئة معربة تكونت في المدارس الدينية أو المدنية داخل أو خارج الوطن. وإذا نظرنا إلى هذا التقسيم بعين فاحصة، وجدنا أن التعامل باللغة العربية بعد الاستقلال كان قليلا وضعيفا، ليس فقط لأن الفئة المعربة كانت قليلة العدد، بل أيضا لأنها فئة لم يكتب لها أن تكون في مراكز القرار في البلاد، لتعمل على تشجيع اللغة وانطلاقتها بالقوانين خاصة، لأن التعليم كغيره من حقول الخدمة العامة في حاجة إلى سياسة قوية تدعمه وتعمل على تطويره وتوجيهه.
كل ذلك لا بد أن ينعكس سلبا على مسارها، ويمنع من أن تتبوأ المكانة الطبيعية بين أهلها والناطقين بها. لذلك كان على الجزائر أن تبدأ في بإنشاء البنية التحتية للتعليم العربي من جديد، فجاء قانون التعريب ليكون الإطار لهذا المسعى على أمل أن تستعيد الجزائر جانبا مهما من هويتها الثقافية والحضارية.
غير أنه لا ننكر أيضا أن الجهود التي بذلت في هذا المجال لم يكتب لها أن تتواصل بالشكل الذي يحقق الأهداف التي رامتها الجزائر المستقلة. فالتحجج بالتاريخ المرير كان معقولا في مرحلة سابقة، أما ونحن في بداية الألفية الثالثة، فليس مقبولا أن نترك اللغة العربية للعشوائية والمخططات الفاشلة.
وطبيعي أن تشكل المدرسة القاعدة الأساسية لكل انطلاقة في اتجاه تحقيق اللغة العربية لوجودها وازدهارها، ولطالما وجهت الانتقادات صوب المناهج والمخططات التي اعتمدت منذ الثمانينات من القرن الماضي، والتي لم تستطع – رغم حملات الإشهار المركزة على إيجابياتها- أن تعالج الأمر، وظل منطق التجارب المؤقتة تؤرق المعلم والمتعلم على حد سواء، وتجعل كلا منها يكشف قصور الآخر على قاعدة [كلما جاءت أمة لعنت أختها] ! وهكذا انتقلنا من نظام دراسي إلى آخر، ومن منهاج إلى منهاج نبحث في كل منها عن عصا سحرية تحقق لنا القفزة التعليمية التي نرومها، بينما الخلل والعيب يعتري كل ذلك من خلال الممارسات العملية للتدريس، أو إسقاط المنهاج على البيئة العربية دون مراعاة الفروق والخصائص التي تمنع إنبات نظام تعليمي في غير بيئة قادرة على احتماله أو التكيف معه.
بيد أن الإنصاف والموضوعية تدعوان الدارس لهذا الوضع اللغوي المتدهور أن ينظر بعين النقد إلى الجوانب المتعددة المسببة له، ذلك أن بونا شاسعا يبدو بين النظرية والتطبيق ؛ فمنهج التدريس قد يطرح حلولا نظرية جيدة، لكنه يصطدم بالممارسة القاصرة أو الخاطئة، وعندئذ تراوح الأمور مكانها، ويشعر الباحث في شئون التعليم أن النتائج المرجوة لم تتحقق كما أريد لها، أو أنها تسير نحو طريق مسدود. وهذه الممارسة من الخطأ أن نلحقها بالطالب وحده أو بالأستاذ وحده أو بالمناهج التدريسية وحدها؛ فعوامل الإخفاق عادة ما تتضافر مجتمعة، دون أن نغفل عاملا رابعا مهما هو الفكر السائد في المجتمع، ونظرته إلى التعليم في ظل العولمة أو النظام العالمي الجديد.
وإذا ركزنا على حال اللغة العربية في الجامعة، فإننا واجدون جملة من الحقائق تستوقف أي دارس بل أي ملاحظ يطرح السؤال حول ما يجري للغة العربية من تدهور، ويمكننا أن نعرض منها ما يأتي :
- لا استعمال للغة العربية بين الطلبة إلا في الأقسام الدراسية، وبنسب متفاوتة حتى في هذا المجال الضيق. فالمواد المدرسة باللغة العربية لا تلقى كلها باللغة الفصحى حتى المبسطة منها، بل يلجأ الأستاذ بحجة تقريب الفكرة إلى الدارجة، التي هي وسيلة التخاطب الوحيدة تقريبا في أروقة الجامعة بين الطلاب فيما بينهم، وبين الأساتذة فيما بينهم، وبين الأساتذة وطلابهم. أما الطالب فبدوره لا يمارس تخصصه إلا داخل قاعات التدريس، فيعرض طلاب العلم ورواد الثقافة بذلك عن العناية بلغتهم الوطنية،ولا يخصصون أوقات كافية للاهتمام بها وإظهار مكانتها ودورها المهم في توحيد الأمة وتطوير فكرها.
- مخالفة نظام التوجيه لكثير من رغبات الطلاب وميولاتهم الذاتية، وينجر عنه أن فئة من الطلاب تضطر إلى الدراسة في شعب أكرهوا عليها، وبالتالي فهم عاجزون عن تقديم أي إنجاز فيها. وفي هذا الإطار نجد كثيرا من الطلاب المتميزين في اللغة العربية وما يرتبط بها يوجهون إلى مواد علمية أو تقنية، وقد تكون الدروس فيها باللغة الأجنبية، لمجرد أن معدلاتهم عالية، بينما يوجه آخرون من المستويات المتوسطة إلى الآداب واللغة العربية، فلا يحققون في النهاية غير شهادة التخرج إن وصلوا إليها، بينما هم عالة على هذه اللغة، بمستواهم المتدني.
- ازدواجية اللغة في المجتمع الجزائري نتيجة لازدواجية الثقافة كرست انفصالا بين فئتين احتكمتا أخيرا إلى الدارجة قاسما مشتركا، على مستوى النطق والتداول، بل إن الازدواجية اللغوية تصاحب الطالب أينما ذهب، في البيت والشارع والمحال التجارية والجامعة، وفي وسائل الإعلام. ما يؤدي في النهاية إلى ما يسميه البعض " انفصاما لغويا " لدى الطالب العربي، فثمة فرق بين إتقان اللغات، وهو أمر جيد ومطلوب، وبين الحديث الدائم بها مع الطلاب على الرغم من أن لغة التدريس هي العربية. بينما لا نلاحظ عكس هذه الظاهرة، إذ لا نجد أثرا للغة العربية في حديث الأساتذة والطلبة في الأقسام الفرنسية أو التي تتخذ الفرنسية مادة للتدريس.
- التعامل مع اللغة العربية على أنها جملة من القواعد النحوية والصرفية بعيدا عن التوظيف الشفوي والكتابي أو الإنتاج النصي ؛ فالدرس أساسا معناه عند الطالب الإجابة عن أسئلة الامتحان لا غير. لهذا لا يهم إن بقي منه شيء في الذهن بعد ذلك أم لا. ومن ناحية أخرى نجد أن لغة الطالب فقيرة وغير مستقيمة في الغالب، بل كثير من الطلاب لا يملك القدرة على مناقشة فكرة أو الجواب على سؤال دون أن يستعين بالدارجة أو بحركات الجسم أو التلعثم والتكرار، وما إليها من مظاهر. أما كتابيا فالحال ليست أحسن من سابقتها، فما زال الهدف من التعبير هو إيصال فكرة ما بغض النظر عن الوسيلة التي هي التوظيف اللغوي السليم. لهذا لا يهم عند شريحة واسعة من طلابنا الفرق بين الرفع والنصب والجر، ولا الفرق بين الفعل والاسم ولا بين العاقل وغير العاقل في الجمع، بل المهم فقط أن يفهم الأستاذ ما يقصده الطالب، وتلك مشكلة كبرى ناجمة أساسا عن قيام التعليم عندنا على ثلاثية عقيمة أطرافها"( التلقين والتذكر والحفظ)، وهي ثلاثية غير قادرة بصورتها الراهنة للاستجابة للتحديات التي تواجهنا في الألفية الثالثة." (2)
- ارتباط اللغة العربية في الأذهان بالماضي، واللغات الأجنبية بالحاضر والمستقبل لارتباطها بالتكنولوجيا والإنتاج المادي، مما حدا بالجامعة الجزائرية إلى الإيمان بأن الاختصاصات التقنية لابد لها من لغة أجنبية " كون الهدف من ذلك علميا بحتا وهو تمكين الطلبة من التحكم أكثر فيها لقلة المراجع باللغة العربية" و" أن التدريس باللغة الأجنبية يقتصر فقط على تلك المواد العلمية في حين أن البرنامج العام يتضمن تدريس وحدات باللغة العربية فقط منها المواد الاقتصادية والاجتماعية.(3) وبما أن المواد التقنية مرتبطة في أذهان العامة وكثير من المثقفين بالتقدم والرقي، فإن تدريسها باللغة الأجنبية يفهم منه أن اللغة العربية قاصرة عن أداء هذه المهمة، وبالتالي فإنها تبقى لغة الأدب والإنسانيات والاجتماعيات، وفي الإطار الأكاديمي البحث.
- إن تدهور اللغة العربية كلغة تداول وعلم مرتبط إلى حد ما بالوضع العربي العام, فالعرب مازالوا في دائرة الدول المستهلكة للأفكار والبضائع، وآلة الإنتاج المادي والمعنوي ضعيفة، ووضع كهذا لا بد أن ينعكس سلبا على اللغة العربية في تزاحمها مع اللغات الأجنبية. بل إن البرامج الدراسية والمناهج المعتمدة في التدريس نفسها صنع غربي تستقدمه هذه الدول وتحاول التكيف معه، وليس بمقدورها أن تبتدع لنفسها ما تقوم به برامجها، وما يضفي على لغتها وتاريخها وحضارتها طابع التقدم والرقي. ولقد أصبحت جهود القدماء ضربا من الذكريات التي تثير فينا الحنين إلى ماض ولى، بينما كان علينا أن نوجد لأنفسنا استمرارية لما تركه القدماء نبني به عزا دائما متواصلا ينعكس على شخصيتنا ولغتنا ودورنا في صناعة الحضارة الإنسانية. وباختصار يؤكد الخبراء بهذا الشأن " أن ما تعانيه لغة الضاد مرده إلى ضعف الوعي السياسي العربي الراهن الذي أشاع نوعا من "التكابر" على لغتنا الأم لصالح لغات أخرى." (4)
هذه ملاحظات عامة يمكن التوصل إليها بقليل من التأمل في الوضع التعليمي عندنا، وفي معظم الدول العربية أيضا ؛ وربما يكون عزاؤنا أن تشاطرنا دول عريقة في التعريب الهموم نفسها، إلى الحد الذي يدفعها إلى دق ناقوس الخطر.
وقد ارتفعت أصوات كثيرة تحاول علاج هذا الوضع السيء،من قبيل المناداة بـ"تطوير مناهج تعليم العربية، والتكوين المتخصّص فيها حتى تستجيب لتحديات العصر ورهاناته، أخذا بمبدأ الأصالة والتفتّح"، و" ضرورة التنسيق بين المؤسسات التربوية والمؤسسات المجتمعية الأخرى من جهة، والتعاون الإقليمي بين كافة المؤسسات التربوية بالدول العربية من جهة أخرى، للحد من التأثيرات السلبية لظاهرة العولمة على الهوية واللغة العربية "، والدعوة إلى تبسيط اللغة العربية من خلال قواعدها للقضاء على الصعوبة التي يجدها الطالب في استعماله اللغوي، و غير ذلك من الاقتراحات التي يمكن أن تساهم في التخفيف من حدة المشكلة.
في الجامعة يجد المتأمل في وضع اللغة العربية بها أنه ليس إلا امتدادا لما تعانيه في المراحل التعليمية السابقة لها. أو بتعبير آخر، لا تستطيع الجامعة أن تصلح هذا الخلل الذي تكون في المراحل الابتدائية والثانوية إلا إذا تعلق الأمر بالدراسات الأكاديمية التي ينتجها الدارسون، وهي دراسات نظرية تصطدم في الغالب بممارسات عملية تكرس الوضع المختل، أو ليس" لها تطبيقات في المجالات العملية الأخرى، فضلا عن عدم مناسبتها لقدرات التلاميذ".(5)
وعليه، فإن رواسب المشكلة تتفرع إلى عناصر منها :
- دراسة قواعد اللغة العربية خارج التعبير الوظيفي، بمعنى أن الطالب يهتم بحفظ القواعد دون القدرة الكافية على تجسيدها فيما يكتب أو يقول. ويعرف التعبير الوظيفي على أنه التعبير" الذي يؤدي خدمة للإنسان في مجتمعه، فيقضي حاجاته ومتطلباته...ويتمثل في المحادثة والمناقشة وسرد القصص والإخبار وإعطاء التعليمات والتوجيهات والإشارات، وإلقاء الكلمات في المناسبات المختلفة، وكتابة التقارير والمذكرات، وإعداد محاضر الجلسات..." (6)
- عدم التعامل مع النصوص في شكلها المتكامل، الذي يجعل اللغة في علاقات مع مناح شتى مثل الأفكار والتخطيطات والتصورات والسلوكات التي يهدف النص إلى ترجمتها والكشف عنها.
- التعامل مع اللغة على أنها مجرد وسيلة للتواصل وتبليغ ما يراد، في حين نجدها أكبر من ذلك لارتباطها بالفكر والإبداع والتواصل الراقي بين المستخدمين.
- الانتقائية في المواد أو المقررات تجعل جوانب من اللغة مجهولة في المسار الدراسي، بينما تتكرر أخرى في كل المراحل.
- ظهور الناطق بالعربية الفصحى بين الجمع غريبا، كأنه في عالم غير عالمه، ووسط غير الذي ينتمي إليه، وهذا يولد الشعور بالخجل أو بالحرج من التميز عما هو شائع ومألوف.
إن نظام (ل.م.د) المعتمد حاليا في كل الجامعات الجزائرية جديد في تجربته، اعتمد عام 2004 في بعض الجامعات ثم عمم في هذه السنة، ويعتقد أنه لن يكشف عن أثر واضح لآلياته على وضع اللغة العربية قبل مرور عقد من الزمن. لكن البوادر الأولية توحي بأنه إن لم يكن أسوء من النظام الكلاسيكي في هذا المجال فإنه مثله، في تكريس الكمية على حساب النوعية، على الرغم من إيجابيات يراها بعض الدارسين تتعلق بالتخصصات التقنية والعلمية. فالطالب يهتم بأمور نجاحه وتحقيقه للمعدل المقبول أكثر من اهتمامه بنوعية التحصيل العلمي واللغوي، والدرس اللغوي لا يعني الكثير للطالب إلا حفظه وإعادته في الاستجوابات أو الامتحانات الكثيرة على امتداد السداسي القصير أصلا بفعل الدخول المتأخر وكثرة الانقطاعات.
كما أن كثرة المقاييس وقصر حيزها الزمني يجعل الطالب موزع الاهتمام مشتت الفكر لا يدري ما يمسك في الذهن وما يهمل. لهذا نلاحظ أن التطور اللغوي عند الطالب لا يكاد يستبين على امتداد السنوات الثلاث لليسانس أو الأربع بالنسبة للنظام الكلاسيكي، بل إن المدرس ليشعر في كل مستوى أن عليه أن يعود إلى البديهيات في اللغة أحيانا، وإلى ما سبقت دراسته في الأعوام السالفة ليقدم شيئا جديدا.
وربما ذهبنا مع الدكتور محمد حسنين العجمي وهو يلخص سلبيات نظام ل.م.د أو نظام الساعات المعتمدة كما يسمى في بعض البلاد العربية، بناء على دراسات كثيرة لباحثين في الميدان بقوله :" إن هذا النظام يؤدي إلى تفتيت المعرفة وزيادة الإقبال والتسجيل للمقررات المتميزة بالسهولة وتجنب تسجيل الطلاب للمقررات الأكثر أهمية في تكوينهم الأكاديمي... وفقدان للتكامل والاتساق والمرونة، وتشجيع على التفكير المبعثر، وافتقاد للنظرة الشمولية التي تصل فروع المعرفة بعضها ببعض، وبالتالي انخفاض معدل أداء الطلاب وملازمتهم للخوف الدائم من الرسوب والإخفاق." (7)
في العام الدراسي 2007 – 2008 افتتح فرع اللغة العربية وآدابها بالمركز الجامعي بتمنراست، لطلاب السنة الأولى، وبما أن هيئة التدريس كانت قليلة العدد، فقد توقعنا أن نصاحب هؤلاء الطلبة على امتداد سنواتهم الأربع. وكان أن قمت بمحاولة لمعرفة تطور اللغة العربية قواعد وتعبيرا، فعدت إلى أرشيف أوراق الامتحانات في بعض المواد مثل النحو والصرف و الأدب العباسي والأدب الحديث، وكانت العينة من عشرين طالبا من ذوي المستوى المتوسط، في الامتحانين الجزئيين، على امتداد ثلاث سنوات، و كان التركيز على ثلاثة جوانب هي : سلامة اللغة، وجودة التعبير، ونسبة حضور الشخصية. فكانت النتيجة ما يأتي :
- ستة طلبة من العشرين فقط تخلصوا جزئيا من الأخطاء الفادحة،نحوا وصرفا مثل كتابة الأفعال بتاء مربوطة، وعدم التفريق بين الاسم والفعل في الإعراب، وغير ذلك. أما الباقون فبقوا على الأخطاء نفسها رغم الملاحظات الموجهة إليهم عند كل تصحيح.
- سبعة طلبة من العشرين فقط تخلصوا من التعابير الساذجة البسيطة التي تذكرنا بالأقسام الأولية، من مثل وصف الشجرة بالظلال والاخضرار، أو ترديد (يجب ولا يجب علينا فعل كذا) وغير ذلك.
- النسبة نفسها تقريبا تتحدث دائما بما يتحدث به الأخر، أي تكرار الخطاب القديم المألوف المتعارف عليه، دينيا كان أو اجتماعيا أو غير ذلك مع الميل الكبير إلى الحكاية التي هي نموذج للحديث عن الآخر، وليس إبراز الذات وما تفكر به وما تراه.
لا أدري مدى علمية هذه التجربة، ولكنها تعطي فكرة ولو جزئية عن تعامل الطالب مع الدرس، ليس فقط اللغوي والأدبي بل في مختلف المواد الأخرى، فالدرس الذي لا تعطى له أهمية لا يثبت في الذهن، ولا يفكر فيه لتصحيح ما يحتاج إلى تصحيح، ولا يطبق في تقويم اللغة والتعبير إلا نادرا. أما سبب عدم إعطائه الأهمية فيعود إلى جملة عوامل منها: كثرة الدروس المتراكمة، و صعوبة وصول المادة إلى الطالب إما لطريقة التدريس المعتمدة، أو لعدم قدرته على الاستيعاب، وعدم اقتناعه بجدوى إدراك وتثمين ما يدرس طالما أن الهدف الأسمى هو الوصول إلى الحصول على الشهادة الجامعية.
ولا أعتقد أن حال النظام الكلاسيكي الذي انتمى إليه العينة السابقة يختلف عن حال نظام (ل.م.د) لذلك، فإنه من الإجحاف أن نلصق بهذا النظام تهمة عرقلة عودة اللغة العربية إلى لعب دورها الفكري والحضاري، في مجتمع يحبها ويحترمها حتى وإن كان بعض أفراده من أصول غير عربية، فنظام (ل.م.د) بإمكانه أن يخدم اللغة العربية مثلها مثل بقية فروع المعرفة الأخرى إذا توفرت جملة من العوامل التي تتكامل فيما بينها لتحقيق الهدف. وهو الأمر الذي يحدث مع جميع الأنظمة التعليمية والتربوية، بحكم أن القوانين وحدها ليست هي مصدر النجاح أو الإخفاق، بل الممارسات التطبيقية في الواقع.
فالعامل الأول هو العامل البشري الذي يبقى الأهم في الوصول إلى استيعاب الدرس اللغوي، وأهمية توظيفه في الحياة العامة. والمقصود هنا بالطبع هو المدرس أيا كان موقعه، والطالب أيا كان اختصاصه العلمي؛ فالطريقة التي ينتهجها الأول مع طلابه، وكونه أنموذجا يقتدى به، ومدى إدراكه للمناهج الفعالة في تدريس العربية، مثل إعطاء الأولوية للغة المتجددة المرنة التي تساير العصر وتتكيف مع المستجدات دون أن تفقد خصائصها التعبيرية والجمالية. كل ذلك يلعب الدور الأعظم في تحبيبها إلى الطالب، وقد علمتنا التجربة أن الطالب إذا أحب مادة اجتهد في الإبداع فيها على المستويات كافة.
أما الطالب، فإنه إن لم يدرك أنه رجل الغد، وحامل لواء الفكر والثقافة في الأمة، والساهر على سلامة هذه اللغة التي تربطه بجذوره، وتصاحبه في مستقبله، فإن حلم هذه اللغة في المنافسة، والبقاء ضمن اللغات الحية قد يتبخر. وعليه، فإن اجتهاده في إدراكها، والحديث بها والتعبير عن قضاياه المختلفة بلسانها كفيل بأن يضعها في المكان اللائق بها، بل وجعلها لغة العلم والاكتشاف كما كانت في سالف عهدها. وعليه، فإنه من القصور أن يتعامل الطالب مع المواد والمقاييس على أنها مطية لحصوله على شهادة في نهاية المطاف، فكم من حامل شهادة لا يعكس علمه شهادته!
والعامل الثاني هو التخلص من عقدة النقص تجاه الآخر، التي تبدو جلية في العالم العربي. فإذا كانت اللغات الأجنبية تصنع العلم والمعرفة، فإن ذلك يعني أن الإنسان الأجنبي هو الذي ينتجها، أي أن المزية أو العيب ليست في اللغة، بل في إرادة أصحابها في خلق أسباب الرقي والتقدم. خاصة في الجامعة التي تعد المرحلة التعليمية المعول عليها في هذا المجال نظرا لمستوى الوعي ولإمكاناتها الإبداعية.
أما العامل الثالث، فهو فتح فرص العمل الفكري أمام خريجي الجامعات، وإعطاء أبحاثهم ودراساتهم العناية الكافية، فالعلوم الإنسانية والاجتماعية وغيرها، لا تنتج المادة، ولكنها تبني من ينتج المادة، وهو الإنسان. لهذا وجدنا في مجتمعنا الجزائري شرائح واسعة تحتقر العلوم المعنوية بما فيها اللغة، وتؤمن أن إنسان العصر في غنى عنها، وأن لا مستقبل إلا لمن يخوض في العلوم المادية، فيوسم بالتقدم والرقي، بينما الصواب أن العلوم متكاملة فيما بينها، ولكل منها فوائده وعائداته، وخاصة اللغة بوصفها حاملة للفكر الذي يحمل الهوية، ويحافظ على حياة المجتمعات والأمم.
ونخلص إلى القول إن اللغة العربية في التعليم الجامعي تتأثر تأثرا مباشرا بما تعانيه في المراحل التعليمية الأخرى، فالجامعة تستثمر الرصيد السابق للطالب وتثمنه وتنميه، لكنها إذا لم تجد هذا الرصيد أصلا، أو وجدته ضعيفا فمن الصعب أن تتداركه. لهذا نرى من الواجب أن تؤتي الإصلاحات التربوية أكلها قبل أي حديث عن إصلاح المنظومة الجامعية، التي مهما سخرنا لها من القوانين والنظريات الجيدة، فإنها تصطدم دوما بالرواسب السلبية للمنظومة التربوية.
لكن المنظومتين التربوية والجامعية ليستا بمعزل عن المجتمع الذي يوفر لهما أجواء النجاح أو الإخفاق، فالوعي السياسي والاجتماعي كفيل بإنجاح كثير من التجارب الصعبة، بما يهيئه من استعداد فردي وجماعي لقبول الإصلاحات، والاقتناع بجدواها ومراميها، مع إمكانية تعديلها وتصحيح مسارها كلما دعت الضرورة إلى ذلك.
إن رغبتنا في تحسين وضع اللغة العربية في مختلف مراحل التعليم، نابع أساسا من أهميتها أولا بوصفها لغة القرآن الكريم، ولغة الدولة الجزائرية الأولى، وثانيا بوصفها لغة حية قابلة لإنتاج العلم والمعرفة في زمن العولمة. وثالثا بوصفها المعبرة عن أمة مترامية الأطراف لها ماض وتاريخ وحضارة. لهذا كله، يبدو السعي إلى وضع اللغة العربية في مكانها المناسب مسؤولية جماعية، لا تُنجحها غير المخططات الأصيلة والجادة والمخلصة، ولا نخالها قليلة في جزائر اليوم.
أ.رمضان حينوني
المركز الجامعي بتمنراست
----------------
هوامش :
-Charles Robert Ageron, Les algériens musulmans et la France, Presses Universitaires de France, Paris, 1968, P 318.
د/ شبل بدران . التعليم في عالم متغير. دار الجامعة الجديدة- الاسكندرية. 2009 .ص 17
3 جاء هذا في تصريح لوزير التعليم العالي والبحث العلمي ردا على الأسئلة الشفوية من أعضاء البرلمان . انظر صحيفة المساء، بتاريخ 15/01/2010
4 الجزيرة نت ، الرابط:
http://www.aljazeera.net/News/archive/archive?ArchiveId=1081406
علي صالح جوهر. الإصلاح التعليمي في العالم العربي. المكتبة العصرية- المنصورة . ط1: 2009 . ص28
علي سامي الحلاق. اللغة والتفكير الناقد . دار المسيرة –عمان. ط2: 2010 ص71
7 التطور الأكاديمي والإعداد للمهنة الأكاديمية بين تحديات العولمة ومتطلبات التدويل. المكتبة العصرية – المنصورة .2007 ص 96-99
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: