رمضان حينوني – الجزائر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 10921
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لقد ترك التراث الاستشراقي آثاره الواضحة في الدراسات العربية و الإسلامية ، كيف لا و قد جند ترسانة هائلة من الإمكانات البشرية و المادية للوصول إلى أهدافه المتعددة الأوجه ؟ لكن العقل لا يقبل أن نجحف في الحكم على هذا التراث حكما واحدا شاملا حاسما ، بل إن المنطق العلمي يفرض علينا أن نميز بين التيارات و التوجهات ، و أن نحتكم إلى النصوص و الوقائع التي ترفض أن نضع الفكر الاستشراقي كله في سلة واحدة .
صحيح أن الأهداف التي سعى الاستشراق الوصول إليها هي تدمير البنية الفكرية للإسلام ، و من ثم للعالم العربي الذي يدين أغلب سكانه بهذا الدين ، لكن الروح العلمية المخلصة جعلت كثيرا من المستشرقين يحيدون عن هذا الخط ، و يخرجون إلينا بما يجعلنا نجزم بأنهم ليسوا سواء .
فقد رفض ( اتيان دينيه ) الاستعانة بآراء المستشرقين المتعصبين ضد الإسلام في كتابه ( حياة محمد ) الذي ألفه بالاشتراك مع ( الحاج سليمان بن إبراهيم ) قائلا : " لن يجد القارئ في هذا الكتاب أحدا من العلماء الشواذ محطمي السنن التي انشغف بها المستشرقون المعاصرون ، و أظهروا تعلقهم ب" المستحدث منها " (1). و قد ملك رغبة في أن يصفي السيرة النبوية من كل تزييف عمل المستشرقون على دسه فيها ، و العودة بها إلى شكلها المنطقي بمطابقتها لما جاء في القرآن الكريم أولا ، و ما اتفقت عليه الكتب الموثوق في صحتها من جهة أخرى .
و في رد على الصنف الأول من المستشرقين ، يجد القارئ في كتاب المستشرق ( فريتجوف شيون ) بعض الإنصاف ، فهو يرى أنه " إذا كان القرآن ينطوي على عناصر مناظرة تتعلق بالمسيحية و بالأولى باليهودية ، فلأن الإسلام جاء بعد هاتين الديانتين . و هذا يعني أنه كان مضطرا إلى أن يظهر على أنه تحسين لما سبق ، و بعبارة أخرى ، يبشر القرآن بمنظور يمكنه من تجاوز بعض المظاهر الشكلية للديانتين التوحيديتين السابقتين ." (2)
ثم نراه في موضع آخر يؤكد قدسية القرآن الكريم ككتاب منزل من الله فيقول :" من الممكن أن يتحدث القرآن – شأنه في ذلك شأن الكتاب المقدس عن أمور عديدة لا علاقة لها بالله ، أن يتحدث مثلا عن الشيطان أو الجهاد أو قوانين الإرث ، دون أن يقلل هذا من قدسيته ,بينما يمكن أن تبحث كتب أخرى في موضوع الله و الأمور السامية دون أن تكون كلاما من عند الله ." (3)
و في دفاع صريح عن النبي صلى الله عليه و سلم يعتبر " نبي الإسلام مركبا ، غير متساو ، و لا يفرض نفسه قط كرمز خارج عالمه الديني ، و سبب ذلك أن حقيقته الروحية ، خلافا لما هي الحال بالنسبة إلى بوذا أو المسيح ، تغلفها بعض الستر الإنسانية و الدنيوية ، نظرا إلى دوره كمشرّع لهذا العالم . فهو ينتسب بذلك إلى كبار حملة الوحي الساميين : إبراهيم و موسى و كذلك داود و سليمان ." (4)
ثم يكشف الستار عن النظرة القاصرة لكتاب سيرة النبي عند غير المؤمنين بنبوته ، فيجد أن " كتبة سيرة النبي غير المتدينين ، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين ، يحاولون عذر البطل باتجاه علماني و مخالف للمسيحية ، بالنسبة للأولين ، و في أحسن الأحوال بشيء من التعجرف الناتج عن المذهب النفساني بالنسبة إلى الآخرين ." (5)
و يتوصل موريس بوكاي ، من خلال المقارنة بين الكتب المقدسة الثلاثة ،إلى كون القرآن هو الكتاب المنزل من الله حقا بلفظه و حقائقه ، و ليس هو من تأليف بشر . و نحن نراه أولا و في مقدمة كتابه ( التوراة و الأناجيل و القرآن الكريم بمقياس العلم الحديث ) يعيب على المثقفين الغربيين اقتصارهم على دراسة " النواحي الفلسفية أو الاجتماعية أو السياسية في الإسلام ، و ليس لديهم شغف أو اهتمام بدراسة القرآن كوحي إلهي منزل إلى نبي الإسلام كما يجب أن يفعلوا . " (6)
ثم إنه ، و على امتداد كتابه الثري ، يتوصل إلى نتائج مهمة بناء على منهج الموازنة ذاك ؛ من ذلك أنه " يقطع بمصداقية القرآن الكريم ، و بأنه وحي إلهي صادق أنزله الله إلى نبي الإسلام ليبلغه إلى الناس كافة "، كما أنه " يدحض كل ادعاء جزافي عن نقل محمد صلى الله عليه و سلم للتوراة لتأليف القرآن . " (7) و هو ادعاء طالما اعتمده المستشرقون المتحاملون كما رأينا آنفا .
و قد بنى بوكاي هذه الاستنتاجات على اعتبارين أساسيين : الأول هو كون القرآن الكريم الكتاب المقدس الوحيد الذي يتفق و يحتوي على حقائق العلم الحديث ، و الثاني هو خلو القرآن من كل تحريف لتدوينه في زمن الرسول صلى الله عليه و سلم ، من قبل شخصيات أخذته مباشرة من فم النبي . يقول بوكاي : " من الصواب المشروع تماما أن ينظر إلى القرآن الكريم باعتبار أنه حقا و صدقا تعبير الوحي من الله أنزله إلى نبي الإسلام ، و من الطبيعي أن تعطى له على هذا الأساس مكانة خاصة جدا حيث إن مصداقيته أمر لا يمكن الشك فيه ، و احتواؤه على كثير من الحقائق العلمية التي لم تتوصل إليها البشرية إلا في عصرنا الحديث ، دليل على مصداقية القرآن الكريم باعتباره وحيا إلهيا صادقا وصل إلينا صحيحا دون أي تحريف ، و يستحيل أن يكون من تأليف أو إنشاء أو صياغة بشرية من الناس بأي حال من الأحوال . " (8)
و يبدو واضحا من خلال الاستشهادات التي أوردنا ، تكرار بوكاي لفكرة ألوهية الوحي بنوع من الإلحاح ، باعتبارها الفكرة المستهدفة و المحورية في هذا الكتاب القيم . و قد اكتسب هذا المستشرق الكثير من الجرأة وصلت إلى حد نشعر معه إلى الجزم بأنه ينشد الحقيقة العلمية دون سواها ، خاصة عندما وضع العلم الحديث الذي لا يجادل في حقائقه اليوم عاقل و مفكر مقياسا لطرحه .
ونلمس عند إيميل درمنجم شيئا من الاعتدال في تناوله للإسلام و كتابه و نبيه ، فهو لم " يشك في أن محمدا كان صادقا ، و أنه لم يخالجه عارض من شك في آخر الأمر بنزول الملك عليه و الوحي إليه . " (9)
و تمسك درمنغم بمسيحيته لم يمنعه من القول : " إننا نرى القرآن نازلا بحسب الوقائع ، موحى به يوما فيوما و شيئا فشيئا وفقا للضرورات المتجددة و لمصلحة الأمة ... و لما كان لكل نبي معجزة كانت معجزة محمد القرآن . " (10)
أما المستشرق ( هادريان ريلاند ) فيقول :" هل يعقل أن يعتنق الملايين من البشر الديانة الإسلامية ، لو كانت منافية للعقل و سخيفة ،كما يدعي المؤلفون المسيحيون ؟ " ثم يضيف في منطق سليم قائلا :" لِنَدَعِ المسلمين يصفون لنا ديانتهم . ألا نرى أن تعاليم اليهودية و المسيحية قد شوهـت من قبل الوثنيين ، و التعاليم البروتستانتية من قبل الكاثوليك ؟… ثم كيف يجوز أن نحاول مجادلة المسلمين دون أن نعرف عقائدهم معرفة جيدة ؟ " (11)
هذه جملة أصوات رفعت لإنصاف الإسلام ، حتى إن لم يؤمن به بعضها ، و حتي إن كان على بعض آرائهم الأخرى تحفظاتنا باعتبارنا مسلمين . و قد كان الجدل قائما و ما زال بخصوص الثقة بهؤلاء الذين يوصفون تارة بالمنصفين و أخرى بالمعتدلين , و إن كان الفرق بين الوصفين بيّنا (12) فإذا كان البعض لا يرى في الاستشراق حسنة واحدة ، و لا في المستشرقين رجلا واحدا جديرا بالثقة ، فإن فريقا آخر أنكر هذا الحكم ، و ألح على أن نميز بين الفئتين ، و هذا هو الأصوب .
------------------
الإحالات :
1 E. Dinet et Slimane ben Ibrahim . La vie de Mohammed . 3 . G.P. Maisonneuve . 1975 .
2 فريتجوف شيون . كيف نفهم الإسلام . 62 . دار الآداب - بيروت . ط1 . 1978
3 م. السابق . 49
4 م . نفسه . 101 .
5 م . السابق . 101
6 موريس بوكاي . التوراة و الأناجيل و القرآن الكريم بمقياس العلم الحديث . ص 19 . دار مكتبة القرآن – القاهرة . دت
7 م . السابق . 282
8 م . نفسه . 283
9 شكيب أرسلان . السيرة النبوية . ورد هذا الفصل في : كتاب حاضر العالم الإسلامي للوثروب ستودارد . 58 . تر : عجاج نويهض . ج1 . دار الفكر . ط3 1981
10 م .السابق .94
11 د/ نبيه عاقل . المستشرقون و بعض قضايا التاريخ العربي الإسلامي . 206. منشورات الملتقى السادس للتعرف على الفكر الإسلامي . الجزائر . 1972.
12 انظر : محمد البشير مغلي . مناهج البحث في الإسلاميات لدى المستشرقين و علماء الغرب . مركز الملك فيصل للدراسات و البحوث الإسلامية . ط1 . 2002 . ص 387 و ما بعده
4-04-2011 / 16:26:44 محمد هشام