يستهوي الغربيون وأتباعهم من العلمانيين العرب الكارهين للإسلام اتهام الدين الخاتم بأنه نظام ثيوقراطي، يقيم دولته على أساس ديني، وليس على أساس مدني، وبذلك فإنه يؤسس لحكم طبقة رجال الدين.
وهذه شبهة من شبهات القوم التي يخيلون بها على الناس؛ ليصرفونهم عن الحق. فموضوع الفصل بين السياسة والدين لم يخطر على بال علماء الإسلام لا قديمًا ولا حديثًا، ولم تظهر هذه التهمة إلا حديثًا، خصوصًا بعد إلغاء الخلافة؛ لأن القوم يريدون أن يؤسسوا لمبدأ فصل الدين عن السياسة.
فالدولة في الإسلام ليست ثيوقراطية؛ لأن الحاكم في النظام الثيوقراطي سلطته فيه إما من رجال الدين وإما من الحق الإلهي بوصفه ظِلُّ الله في الأرض، بينما سلطة الحاكم في الدولة الإسلامية مستمدة من الناس لا من الله، أي بموجب الرضا والقبول والبيعة.
وإذا كان الهدف الإسلامي الأسمى هو تحكيم الشريعة، فإنه لا يتحقق كما يتصور هؤلاء المرضى والكارهون إلا بأن يتولى الحكم رجال بعينهم بحكم وظائفهم الدينية، أو رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال في أوروبا في العصور الوسطى، ولكن حكم الشريعة يكون من رد الأمر إلى الله وفق ما قررته أحكام، مهما كانت وظيفة وصفة وشكل القائمين على التنفيذ، كما أن الإسلام لا يعطي أبدًا لشخص أو مجموعة أشخاص احتكار تفسير كلام الله ومراده، أو حكم الناس ضد إرادتهم الحرة، فالأمة في الإسلام هي الحاكمة، وهي صاحبة السلطة، وهي التي تختار حاكمها، وهي صاحبة المشورة، وهي التي تنصح له وتعينه، وهي التي تعزله إذا انحرف أو جار، والخليفة في الإسلام ليس نائبًا عن الله، ولا وكيلاً له في الأرض، إنما هو وكيل الأمة ونائب عنها.
إن الغربيين يريدون تصدير أمراضهم إلينا، فالمسلمون لم يعرفوا أبدًا الدولة الدينية الثيوقراطية، وإنما الأوروبيون هم الذين عرفوها وعانوا من ويلاتها، فقد عرفت أوروبا مفهوم "الدولة الدينية" وطبقته طويلاً، واكتوى الناس بناره مئات السنين، ولم يتخلصوا منه إلا مع مقدم عصر التنوير وعصر الإصلاحات الدينية، وجاءت الثورة الفرنسية لتنهي هذا المفهوم تمامًا، وتفصل بين الدين والدولة.
والمؤكد والثابت تاريخيًا أن أوضح ظهور للدولة الدينية كان في أوروبا في العصور الوسطى وعصور التخلف، حيث حكم أوروبا ـ في ذلك الوقت ـ رجال الكنيسة ومارسوا ممارسات غريبة وعدوانية وتسلطية طاردت العلم والعلماء والمفكرين وسيطرت على السلطة والثروة وأدت إلى ثورة ضد هذا النموذج من حكم رجال الدين، ونتيجة لهذا تم فصل الكنيسة عن الدولة.
أما عند المسلمين، فإن فكرة الدولة الدينية بعيدة تمامًا عن ثقافتهم، ورسول الإسلام - صلي الله عليه وسلم – حينما انتقل إلى الرفيق الأعلى وانقطع الوحي جرى التساؤل عن الحكام من بعده، هل هم خلفاء الله على الأرض أم هم خلفاء رسول الله؟ والفارق واضح تمامًا بين الأمرين، ولم يحدث خلاف بين الصحابة حول الأمر، وكان الاتفاق على أن الخلفاء هم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وانطلاقًا من الثقافة الإسلامية المتشربة لأحكام الشريعة، فإن فقهاء ومفكري الأمة يركزون فقط على احترام الشريعة، وأن تكون مبادئها هي المهيمنة، لكنهم لا يرفضون توزيع السلطات بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، كما أنهم يقبلون بأساس المساواة في الحقوق والواجبات بكافة أشكالها، ويؤمنون بالتعددية الفكرية والدينية والسياسية والثقافية، ويؤمنون بتداول السلطة واحترام رأي الناخبين، وينادون بالالتزام بكافة حقوق الإنسان وكل الحريات المقررة قانونًا، كما يرفضون فكرة أن هناك حكم باسم الله، وأن هناك من يمثل إرادة الله ويعبر عنها، وهذا معناه بوضوح شديد أن فكرة الدولة الدينية مرفوضة تمامًا في الوعي والإدراك الإسلامي.
إن الإسلام أعطى للأمة حق اختيار الحاكم بإرادتها الحرة، وعزله إن أخطأ، وهذا يتعارض تمام التعارض مع مفهوم الدولة الدينية التي تقول: إنها تحكم باسم الله. كما أن الإسلام، لا يوافق فقط، على الفصل بين سلطات الدولة، بل يدعو إلى ذلك ويحثُّ عليه، والإسلام أتاح لكل قطاع في المجتمع أن يعبر عن نفسه، وألا تتم مصادرة حقوقه الدينية والفكرية والسياسية، والدول الإسلامية المتعاقبة لم تصادر حقوق الناس وحرياتهم، بل اعتمدت مبدأ التعددية الفكرية والدينية والسياسية والثقافية ... وهذا الذي ذكرناه كله يتناقض تمامًا مع فكرة الحكم الثيوقراطي والدولة الدينية.
وما يتحجج به دعاة فصل الدين عن الدولة من أن جعل مصر دولة إسلامية يعني أنها دولة دينية أمر مرفوض؛ حيث إن الدين الإسلامي يجعل الدولة قائمة على أساس العدالة والمساواة، فلا يفرق بين المسلمين والمسيحيين أو أتباع الأديان الأخرى إلا فيما ليس فيه تقنين عندهم، وفي هذا تجسيد عملي للدولة المدنية، خاصة أن المواطنة مبدأ متأصل في الإسلام، والدليل على ذلك أن المسيحيين واليهود كانوا يتولون مناصب كثيرة في تاريخ الأمة الإسلامية.
------------
وقع التصرف في العنوان الأصلي للمقال
محرر موقع بوابتي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: