شاكر الحوكي
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 10907
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لا احد يستطيع أن يدعي أن الذين ساهموا فعليا في الإطاحة بنظام "بن علي" كانوا يطالبون بصياغة جديدة لعلاقة الدين بالدولة.
من هنا فكل من يحاول هذه الأيام طرح إشكالية العلمانية في تونس و أمور أخرى لها صلة بالموضوع و منها المساواة في الميراث المغلفة بشعار المساواة التامة ، إنما يحاول أن يركب فعلا على الأحداث و يستغل الفراغ الموجود، و هم في ذلك ليسوا اقل انتهازية من كل أولائك الذين حاولوا في الأسابيع الأخيرة السطو على الأملاك العامة و الخاصة و المطالبة بزيادة الأجور ، و كل أولائك الذين ظهروا فجأة على مسرح الأحداث و أمام الإعلام يرتزقون من عبث الأيام ، مصطنعين لأنفسهم أمجادا مفتعلة و مفتعلين بطولة مزيفة.
إذ أن مثل هذه الفعاليات لن يكون لها من معنى سوى ضرب الاستقرار و إثارة البلبلة و الخوف، و استفزاز الجمهور و الابتعاد بعيدا عن كل ما خرج من اجله الناس و طالبوا به و استدراج الإسلاميين و أتباعهم إلى السقوط في أخطاء خطيرة قد تعود بنا إلى المربع الأول، أي بداية التسعينات من القرن الماضي، و كأن 23 سنة من الاستبداد لم تكن كافية لتعلم الدرس و استخلاص العبر .
لو كانت حقوق المرأة مضطهدة أو في طريقها للاضطهاد أو كان وضع حقوق الإنسان في المسائل ذات الصلة بالدين مهددة و متخلفة، لامكن تفهم أن ينتفض الجميع في محاولة للتصدي إلى ما من شانه أن يقلب الأوضاع رأسا على عقب ، و لكن كل هذا غير مطروح في الوقت الحالي و مستبعد الطرح على المدى القريب و البعيد، و قد أكدت حركة النهضة على تمسكها بمجلة الأحوال الشخصية، و الحرية الفردية، و حرية المرآة ، فلماذا الإصرار على استفزاز الناس البسطاء في قناعاتهم. هم لا يفهمون معنى العلمانية و لن يتعاملوا معها إلا بحذر و ريبة بوصفها فيروس يجب محاربتها و مقاومتها، لاسيما و أن الأمر يتعلق بمفهوم غريب، ملتبس، غامض و دخيل على "ثقافتهم".
اخطر ما في الأمر أن يساهموا هؤلاء من حيث لا يشعرون ليس فقط في تقوية المواقف المضادة منهم، و لكن في تشويه و ضرب أصحاب المشروع العلماني في العالم العربي و في تونس بما هو مشروع حضاري يقوم على تخليص الفرد من الوصاية و إعمال العقل بشكل مستقل و على التعقل و التدرج و الموضوعية بعيدا عن الاستفزاز و الانتهازية.
لو كانت هذه الأطراف قد ساهمت و عملت اعتمادا على شعاراتها اللائيكية على الإطاحة "ببن علي" ، كنا فهمنا ذلك، و لكن هذه الأطراف ليس فقط لم تشارك في الإطاحة "ببن علي" بل و ساعدته على الاستمرار في الحكم وان تشيّد لنفسها، و على مدى أكثر من عقدين، موقعا متميزا بوصفها جدار برلين ضد التطرف و الإرهاب و الخطر الإسلامي، و في كل الأحوال ظلت مطالبها محتشمة و تعمل ضمن الأفق الذي وضعه نظام الطاغية، و ليس صدفة أن نرى هذه الأطراف ، بما فيها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، ترحب بنوايا الرئيس المخلوع التي وردت في خطابه الأخير الرامية إلى تدشين مرحلة جديدة،و كانت على استعداد أن تواصل مسيرة النضال معه .
موضوع العلمانية ربما كان محقا لاسيما عند العديد من النخب و الأحزاب و الأساتذة و لكنها تحتاج فعلا إلى وقت و إلى نقاشات و حوارات في جو يسوده الاستقرار و الهدوء، لاسيما و أن هذه المسألة مغلوطة على أكثر من مستوى بسبب غياب شروطها الفعلية و الموضوعية. إذ ليس في تونس كما هو معلوم تنوعا طائفيا أو دينيا أو عرقيا أو حتى مسارا تاريخيا يحتم علينا أن ننتهي إلى العلمانية. كل ما هو مطلوب هو ضمان حق الناس في الحياة دون أي شكل من أشكال الإكراه أو الضغط أو الرقابة. و هنا لسنا نرى في الإسلام عائقا موضوعيا أمام حرية الأفراد، أليست حضارة الإسلام هي من قدمت و اعترفت، بشكل أو بآخر، بكل أنواع الفرق و الديانات و الطوائف و الملل و النحل وكل أنواع السلوكيات. ثم متى كانت العلمانية شرطا مطلقا لحرية الأفراد و الجماعات. أليست فرنسا العلمانية هي من تمنع اليوم النقاب و الحجاب و بناء المآذن و تعمل على منع إلقاء الخطب الجمعية بالعربية، و كل ذلك في خرق واضح للعهود الدولية التي تقر أن حرية الدين، حرية مطلقة.
ثم من قال أن العلمانية في تونس هي فكرة واحدة و موحدة حتى تفرض نفسها بشكل موحد. أليس في العلمانية علمانيات ، علمانية ايجابية و علمانية سلبية . الأولى تسمح بفتح المجال العام أمام مشاركة الجميع دون استثناء بمن فيهم الإسلاميين على أن تكون الدولة و أجهزتها محايدة حيادا تاما حتى تتوفر كل شروط المعركة السياسية الخالصة و من ثم تقبل نتائجها بشجاعة، و الثانية تعتبر العلمانية الطريق الملكي لإقصاء العدو اللدود ألا وهو الإسلاميين بكل الوسائل الممكنة و العمل على تطهير الفضاء العام من المتحجبات و الملتحين و حتى المساجد.
ثم أليس هناك علمانية غربية بتفرعاتها الفرنسية و الانجليزية، و علمانية عربية ببعديها النظري و التطبيقي، و بين كل هذه الأبعاد للعلمانية اختلافات جوهرية ما يسمح بتحالف بعض التيارات العلمانية مع الإسلاميين ، وتحالف البعض الآخر مع الأبعاد الإيديولوجية الفرنسية و حتى الصهيونية .
أليست هناك علمانية تنطق و تعبر بلغة فولتير و تعمل ضمن أفق الاستعمار الفرنسي، بينما علمانية أخرى تكتب بالعربية و تعمل ضمن الأفق العربي و حتى الوحدة العربية و ما بين المشروعين مسافة كبيرة.
ثم من قال إن الإسلاميين كلهم ضد العلمانية حتى تشن الحرب عليهم بصفتهم تلك، أليس في الإسلاميين علمانيون و يساريون و قوميون و أمميون و قاعد يون و سلفيون ، و حتى من يعمل ضمن الأفق الفرنسي المستعمر و إن يكن دون قصد.
إذا المسألة معقدة و لا تطرح برفع الشعارات، و لا تحل بنقاشات عرضية و عابرة، و نوايا مبيتة، و حسابات انتخابية مسبقة . و بصراحة إذا ما ورطت هذه النخب مجددا البلاد و العباد في مرحلة استبدادية جديدة ، فإنها ستتحمل مسؤولية خياراتها و قد تضع شرعية وجودها محل نظر و مراجعة لمرة و إلى للأبد، و عندها لن نذرف الدموع و لن نقدم العزاء لأحد.
شاكر الحوكي
باحث في العلوم السياسية
و أستاذ قانون عام بكلية الحقوق و العلوم الاقتصادية و السياسية بسوسة
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: