عندما تصبح "الجزيرة" في مرمى "حنبعل": تطمس الحقائق و تحل الأكاذيب
شاكر الحوكي - تونس المشاهدات: 12569
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
وافانا باحث جامعي تونسي بمقال جريء، تناول فيه مسائل عديدة تخص تونس، وقد فضل الكاتب عدم نشر اسمه الحقيقي، ونحن ننشر بدله اسما للكناية.
محرر موقع "بوابتي"
---------------
قناة "الجزيرة" التي تبث على مدار الساعة أخبار العالم و أوجاعه، حتى يبقى المواطن العربي على بينة مما يجري و ما يحاك حوله من مؤامرات أصبحت قناة الكذب و الخزعبلات.
"الجزيرة" التي عرفت الجمهور العربي بأهم كتابه و مثقفيه و صحافيه الكبار على غرار محمد حسنين هيكل و عزمي بشارة و عبد الباري عطوان و عبد الستار قاسم و مصطفى البرغوثي و شفيق الحوت و اسعد أبو خليل و جمال البنا... تختزل اليوم في الظواهري و ابن لادن و تصبح أداة للتنظيم الاخواني الإسلامي في العالم.
"الجزيرة" التي وقفت بشجاعة و حزم إلى جانب غزة في مواجهة إسرائيل، و إلى جانب حزب الله في مواجهة المتآمرين العرب و غير العرب، أصبحت لعبة في يد القوى الدولية المتنفذة، و مجرد أداة لخدمة المشروع الأمريكي في المنطقة .
"الجزيرة" التي فضحت إسرائيل على الملأ في أكثر من مناسبة، و قدمت إلى العالم معاناة الطفل احمد عوض زايد، و من قبله محمد الدرّة و غيرهم، أصبحت قناة صهيونية ؟
و "الجزيرة" التي حافظت على اللغة العربية من السقوط و الاندثار والضياع، و بعثت فيها الروح من جديد بعدما نال البدو و الأعراب منها ما نالوا، من خلال اعتمادها عبارات مستحدثة و عناوين مثرية أثثت بها المشهد الإعلامي من خلال عدة برامج كالاتجاه المعاكس و سري للغاية و الحصاد و ضيف منتصف النهار و بلا حدود و أكثر من رأي و كتاب قرأته و شاهد على العصر و الشريعة و الحياة و زيارة خاصة و موعد في المهجر، أصبحت أداة لتحريف الثقافة العربية.
أما قناة "حنبعل" التي بنت مجدها على الإثارة و التهريج و صمدت بفضل الاستجداء ، فإنها أصبحت نموذجا للإعلام الحر و النزيه و الموضوعي.
و قناة "حنبعل" التي تقضي جل أوقاتها في بث ما لا يسمن و لا يغني من جوع ، ناهيك عن بث الحصص الرياضية المتكررة التي تناقش المقابلات الرياضية و كأنها تناقش مصير العالم بحضور القانوني و الصحفي و الرياضي و غير الرياضي، بينما غزة تحترق و جنوب لبنان يشتعل، أصبحت بوصلة العالم العربي نحو الانتصار!!!؟.
و "حنبعل" التي ما انفكت تكافح من اجل أن تتحف مشاهديها ببرامج ذات عناوين لا أراد الله لها من سلطان، و كأن هذه البرامج لا تصلح أن تقدم إلا باعتماد عناوين مستهجنة و مركبة بين فرنسية و انقليزية و عامية، أصبحت تقدم لنا دروسا في الوطنية و العروبة.
انه فعلا عصر انقلاب المفاهيم و بيع الذمم، و لن نستغرب بعد اليوم أن تطل علينا "فيفي عبده" في قناة اقرأ و "فاطمة بوساحة" بكوفية فلسطينية.
هذا ما اجمع عليه نخبة القوم من تونس و مصر و لبنان أثناء بث برنامج "الرابعة" في قناة "حنبعل" التونسية التي وجدت من اجتماع وزراء الإعلام العرب في القاهرة، مدخلا لتصفية الحسابات مع الجزيرة و إن يكن بشكل مناور و مراوغ. و لا شك في أن الحضور الكريم لو اتسع ليشمل سعوديين أو كويتيين لاتهمت الجزيرة بالتشيع و خدمة إيران، أو اتهمت بكونها قناة بعثية و صدامية ، وحتى مشاركة في احتلال العراق للكويت.
صحيح أن بعض برامج "الجزيرة" لم تنتصر أو تحاول أن تنتصر للمواقف التنويرية و العلمانية في العالم العربي، و بقيت حبيسة الأفق العروبي و الإسلامي، و هي تحتاج إلى نقد ما في ذلك شك، و لكن يسجل لها أنها لم تبخل في استضافة ابرز الوجوه التنويرية في العالم العربي كمحمد الجابري و محمد اركون و جورج طرابيشي و برهان غليون و جلال صادق العظم و غسان سلامة و ادمون غريب و سميح القاسم و محمود درويش و عفيف الأخضر... و فسحت المجال أمام ابرز الوجوه المعارضة و الحرة على غرار منصف المرزوقي و عبد الوهاب المسيري و حسن الترابي و محمد المسفر و راشد الغنوشي، بل و استضافت ابرز المتخصصين العرب في المهجر، و غير المهجر في ميادين الفنون و الطب و الهندسة و الطيران و الفضاء . و حتى محمد العياري الأوسط صاحب مشروع "الشاهد" الذي جاء ذكره أثناء البرنامج لم يكن في أول ظهور له إلا على الجزيرة من خلال برنامج بلا حدود، ثم يأتي من يتهمها بعد ذلك أنها لا تهتم بالكفاءات العربية و الوطنية المشرقة في ربوعنا العربية و أنها فضاء للإثارة و الإرهاب!
و الحقيقة فمن يأخذ على "الجزيرة" أنها باتت فضاء للإرهاب و الإرهابيين، ما عليه إلا أن يقدم البديل، و يفسح المجال للوجوه التنويرية و التقدمية، و نحن مازلنا في شوق إلى أن نرى على قنواتنا التونسية هشام جعيط و نجيب الشابي و الصادق بالعيد و حمادي الرديسي و سليم اللغماني و مصطفى الفيلالي و محمد الطالبي و محمد مزالي و حمى الهمامي و راضية النصراوي و رجاء بن سلامة و حفيظة شقير و خديجة الشريف و احمد بن صالح و الشادلي القليبي و غيرهم من الأعلام الوطنية و الرموز التاريخية و المثقفين و المفكرين الأحرار، و نحن بانتظار أن تحيي هذه القنوات ذكرى الأدباء و المفكرين و كل الاعلام الذين رحلوا كالمسعدي و محمد الشرفي و محمد الصالح الجابري و صلاح الدين العامري و غيرهم.
و نحن نتسائل باستغراب هل يعقل لمن يريد أن يبني مجده في تونس على منطق الحداثة و الحرية، أن تتجاهل قنوات بلاده و إعلامها، مثل هؤلاء النخب سواء في حياتهم أو عند مماتهم . ماذا تنتظر القنوات التونسية لكي تستضيف و تحاور رمزا من رموز الثقافة الوطنية كمحمد الطالبي .
هذا يحدث لشخصيات خدمت السلطة و تولت مناصب حكومية و إدارية بارزة، فماذا عن باقي النخبة التي لا ترد أخبار رحيلهم في أفضل الأحوال إلا ضمن برقيات التعزية التي يرسلها رئيس الدولة لعائلاتهم و الأسرة الثقافية و ينتهي الملف، و هل يجب أن نذكر كيف أن الراحل بورقيبة رمز التنوير في تونس ممنوع، منذ إزاحته من الحكم ، من أن يشكل محور برنامج خاص، بل ممنوعا علينا من مشاهدة أي خطبة من خطبه العديدة التي كان يلقيها يوميا ضمن سلسلة "توجيهات سيادة الرئيس" حتى بات جيل اليوم يجهل هذا الرجل كليا ، و كأنه أسس دولة المغول أو ترأس بلاد الوقواق .
و الحقيقة فما يحدث، إنما هو طمس للرموز و الثقافة و التاريخ، و الحقيقة أيضا انه لا حداثة حقيقيـّة في تونس طالما بقيت الدولة في صدام مع نخبها، و هنا لابد من التساؤل في ما إذا كان من الممكن تصور حداثة دون حداثيين أو حداثة في تصادم مع نخبها الحداثية ؟ّ؟.
إذا كان لابد من تقديم "تونس" بوصفها دولة حداثية كما يحرص البعض، فالأجدر أن تسمح بحق نخبها بممارسة حق الحديث، فالحداثة في عالمنا العربي يجب أن تعني في ما تعني القدرة على الحديث الحر ّو المطلق و هذا ما لا يحصل في تونس.
و هنا لابد من الرد على أولئك الذين يتحدثون عن و جوه المعارضة في تونس بوصفها مجرد حفنة من المعارضين الذين لا هم لهم سوى تشويه صورة بلادهم ، في محاولة مكشوفة للتقزيم من شأنهم : متى كانت النخب في أي مجتمع ، يعتدّ بكثرتها و متى كانت النخب من طبيعتها الانسجام مع السياسة أو حتى مع المجتمع.؟ّّ!
إن من طبيعة النخبة أن تكون بطبيعتها قليلة و فريدة، لذلك ترى في الدول المتحضرة كيف يحتفى بها و يرحبّ بها على كل المنابر الإعلامية و الثقافية، و الجميع يعمل على تكريمها و فسح المجال لإبداء رأيها، و المدهش أن النخبة كلما كانت في تعارض مع النظام، كلما كان مرحبا بها أكثر و صوتها أعلى، و لكنها في تونس تواجه حربا ضروس و تلاقي اشد النعوت و الأوصاف، و المطلوب من الجزيرة أن تنخرط في هذه العملية و هذا التهريج ، لكي تصبح قناة محترمة و موضوعية بعيدة عن الإثارة و الشبهات.
يريدون أن تصطف الجزيرة إلى جانب قنوات التهريج، و أن نعيش في ظل الرأي الواحد الأحد، و أن ينحصر اهتمامها بهوامش الأمور بدعوى الابتعاد عن الإثارة؟!؟ّ! و الحقيقة متى كان الإعلام غير بحثا عن الإثارة و الطريف و الغريب و المدهش والملفت و حتى الشاذ.
السنا نتابع الأخبار في البلدان الغربية و كيف أنها تستفتح نشراتها بفضيحة جنسية لبرلسكوني أو زلة لسان لساركوزي أو حالة غضب لكلتون او ردة فعل لاوباما أو حتى عثرة قدم لهذا الرئيس أو ذاك ....أما نحن فرؤساءنا كالأنبياء لا يخطئون و لا يتعثرون و لا يتثاءبون و لا يشيبون و لا يكبرون و لا يرتاحون و لا يتعبون و لا يمرضون، باستمرار في خدمة الشعب.!؟
يحتج الحضور الكريم على "الجزيرة" كونها غير حيادية، لأنها لا تنقل النجاحات التي حققتها تونس، و لا تسلط الضوء على ما تلقاه من شهادات دولية في صفـّها. و الحقيقة فان هذا الأمر يتطلب التوضيح من عدة وجوه:
أولا متى اعتبرت شهادات بعض الجهات الدولية خبرا يستوجب نقله، و إذا كان ذلك ضروريا، هل يجب على "الجزيرة" أن تتولى نقل كل الشهادات التي تستهدف هذا البلد أو ذاك في شتى الميادين بما فيها نيل حكامهم شهادات الفخر من "اعرق" الجامعات العالميةّ!!!
و هنا يطرح السؤال التالي: هل أن من وظائف "الجزيرة" أن تمدح الأنظمة العربية بالإسهاب في تناول مثلا دور حاكم دبي في تشيد الأبراج في الصحراء ، و دور الأردن في ترسيخ السلام في المنطقة و التجاور مع إسرائيل بأمان ، و الدور السعودي في حماية أهل السنة من الاندثار و الاضطهاد في كل مكان، و الدور المغربي في حماية القدس، و الدور الليبي في تعزيز الاستقرار في افر يقيا ووضعها على سكة الدول المتقدمة، فضلا عن الدور المصري في التوسط بين الاسرائليين و الفلسطينيين، أو كيف أن تونس باتت ضمن مجموعة الثماني الكبار ... و أن "تنزل" مدحا في الزعماء العرب مقدمة لهم ألقاب المجد و النصر و التبجيل، و أن تخصص لهم البرامج المطولة من اجل التجميل و التزويق و الاجترار و التكرار كما حصل في برنامج "الرابعة"، لينهض الشعب العربي في الصباح الموالي و قد وجد كل الأنظمة العربية و قد اتحدت ، و المشاكل قد انزاحت و البطالة تراجعت ، و "الحرقان" عبر قوارب الموت قد توقف، و الزعماء العرب تصالحوا ، و الجامعة العربية قد تحولت إلى مجلس للرئاسة بالتناوب.
و هنا لابد أن نسأل إلى متى سنبقى حبيسي الاعتراف أو التقدير الغربي بنا، و إلى متى سنظل نقيم أنفسنا طبقا لمعايير الآخرين، الم يلاحظ أحد من الصحفيين و كل من يحترف مهنة القلم في تونس أنهم تحولوا إلى مدججين و مداحين؟ لماذا لم يسألوا أو يتساءلوا إلى أن هذا الأسلوب في مدح الذات بات يحط من قدر المثقف التونسي؟ هل هذا هو دور المثقف يا أهل الثقافة في تونس؟ أين النقد الجدي و الحقيقي؟
كان المدح في ما مضى، على الأقل، يطلق شعرا و يحمل قدرا من الإبداع و ينطوي على أبعاد رمزية عميقة ، أما ما نسمعه و نقراه اليوم فهو اجترار في اجترار، و تكرار في تكرار، و فيه قدر من التسليم و الانبطاح ما كان حتى" القدريين / الجبريين" أن يقولوا به .
هل يتصور عاقل أن الرئيس الفرنسي على سبيل المثال أو النخبة الفرنسية تشيد، ليلا نهارا، بانجازات نظامها العظيم و مكاسبه من خلال اجترار شعار حقوق المرآة في فرنسا، أو اعتماد التقديرات الدولية. و لقد أجهدت نفسي في متابعة النشرات الإخبارية الفرنسية في محاولة لرصد أي إشارة لما جاء في تقرير"إنترناشيونال ليفينغ" عن جودة الحياة في فرنسا باعتبارها صنفت الأولى في العالم، فلم اعثر على أي اثر، بينما في تونس انقلبت الدنيا رأسا على عقب و أصبح شعار المرحلة تونس بلد جودة الحياة ، و رفعت لافتات الاحتفاء بشهادة دولية لا يصدقها احد من الشعب.
فنحن الذين نعاني ضجيج السيارات و صخب "المزود" (وهو نوع من الفن الشعبي الهابط الذي وقع التضييق عليه في عهد بورقيبة ) في كل مكان و كل الأوقات، فوق السطوح و تحتها و وبين الشوارع و الانهج ، و نعاني الناموس و الوشواش و الذباب و التلوث و تراكم بقايا الفضلات أمام أبواب منازلنا و بجانبها و أينما كنا، و نعاني الزحمة و الاكتظاظ في الصباح و المساء و يوم الأحد ، في الطرقات و الشوارع و الأسواق و الساحات العامة، و نواجه الحوادث و الاصطدام سواء كنا بالسيارة أو على الأقدام، و نتحمـّل الاعتداءات يوميا أو ما بات يعرف " بالبركاجات" )أي السطور بالعنف وهو مصطلح محرف من الأصل الفرنسي لكلمة (braquage في الحافلة و الميترو و سيرا على الأقدام، ناهيك عن القذف و السب و الشتم و استعمال الكلام البذيء و سب الجلالة في الطريق العام ، اقدر من غيرنا على تقدير أوضاعنا و تقدير نوعية الحياة التي نعيشها، و لا نحتاج إلى شهادات مضخمة و مزيفة؛ تعتمد في تقيمها على أمور موضوعية و سطحية كاعتدال الطقس و ارتفاع نسبة التمدرس و حرية المرآة ، و الجميع يعلم أن الطالب في الجامعة يفتقد القدرة على كتابة مطلب إلى عميد كليته أو مدير معهده، و أن حرية المرأة شكلية و تمارس دون قناعة من احد، و اعتدال الطقس نعمة ربانية.
أما ارتفاع نسبة التونسيين المالكين لمساكنهم، فهذه تذكر من باب شرّ البلية ما يضحك، لأن جلنا بات يسكن فوق السطوح لبعض الشقق التي تبنى بأي حال كان، في غفلة من أعوان البلدية، أيام السبت و الآحاد و الأعياد الوطنية و الدينية، ، و تتم في تجاهل تام للجوانب الجمالية و الصحية و الفنية لتزيد من انتشار البناء الفوضوي في كل مكان، تنتهي إلى ما يشبه القبور الفرعونية الموسعة.
و هذا أن دلّ على شيء فانه يدلّ على عجز الدولة في توفير المسكن اللائق و المحترم الذي يصلح للحياة. أما من يملك بيتا حقيقيا فأنه لا يملكه إلا بعد أن يكون قد أمضى شبابه و كهولته في تشييده حجرا على حجر، أو بعد أن يكون قد رهن نفسه لإحدى المصارف البنكية لمدة 20 عاما. القول إذا، ان 80% من التونسيين يمتلكون مساكنهم، هو زعم يعتمد الشكل و لا يبالي بالمضمون.
و الحقيقة طالما لم نخلص خطابنا من الاعتماد على التقديرات الدولية فلا معنى لأي انجاز أو أي مكسب. نريد أسوا التقديرات الدولية و لكن أن نكون مشاركين في القرار السياسي. و إذا كان الأمر يتعلق بالشهادات الدولية فنحن نفضل أن نكون مثل الليبيين ، تتلقى بلادهم أسوا الشهادات الدولية، و يتمتع كل فرد فيها بسيارة و بيت ، و يذهب إلى أقاصي الدنيا ليتفسح و يتداوى، و ليس مثلنا نجد صعوبة في الانتقال من ولاية إلى أخرى.
أما اتهام الجزيرة بسعيها إلى ضرب الوحدة الوطنية، فهذا يحمـّل قناة الجزيرة أكثر مما تحتمل، و كلام مبالغ فيه. فما توجهه الجزيرة من نقد لا يرتقي إلى هذا الحدّ من التهويل، لاسيما عندما يتعلــّق الحديث بتونس، فالإشكال لا يطرح أصلا. فتونس و من حسن حظنا ليست تجمع طوائف و قبائل و أعراق و مذاهب، لتندلع الحرب الأهلية بمجرد توجيه النقد لنظامها بين الفينة و الفينة.
و من المدهش أن يذهب نقد الحضور بعيدا في الاحتجاج على الجزيرة لما تبثه من مادة دموية مضمونها الخراب و الدمار و القتل و الحرب بحجة أن ذلك لا يساهم إلا في بعث الإحباط و اليأس في وعي الجمهور العربي، و كأنه بات مطلوبا من الجزيرة أن تقدم العالم ورديا و الحال أن كل شيء من حولنا يحترق.
نحن نعرف أن صور الدمار و الدم تبعث على الإزعاج و القلق، و لكن تغييبها ليس حلا، و تجاهلها لن يريح إلا ذوي النفوس المريضة الذين يفتقدون إلى الحس الإنساني، و ليسوا على استعداد لمشاركة الناس معاناتهم و أحزانهم و لو من باب التعاطف و التضامن و يحلو لهم الابتهاج و الفرح و الرقص ، في الوقت الذي تموت فيه الملايين يوميا و تعاني الناس وتتألم من كل اشكال القهر و الظلم و الخرب ، بل تجدهم لا يتورعون عن العمل على تهميش الوعي لدى شعوبهم و إبعادهم عن تناول القضايا المصيرية للعالم العربي و على رأسها القدس . و نحن نترفع عن لومهم، فليس للمفلسين إلا أن ينخرطوا بكل أحاسيسهم في مقابلة كروية تافهة أو مهرجان فني رديء أو مسلسل لا ينتهي، على أن يتابعوا ما يجري من حولهم من حقائق.
و نحن لا نفهم احتجاج البعض على "الجزيرة" إلا بوصفها محاولة لرفع العتب على الحكام العرب الذين يتهربون من المسائلة، عما يجري في فلسطين و غير فلسطين مفضلين وضع البلد في حالة تأهب قصوى على وقع مباراة كرة قدم، أو إشاعة تافهة هم أساسا مصدر ترويجها.
و الحقيقة إذا كان لا بد منها هي أن رجل مثل عبد الحميد الرياحي عرف بانتمائه العروبي و القومي الصميم ، تربت على يديه أجيال و عرف بتمسكه بالثوابت الوطنية و القومية، هو من يبعث فينا الإحباط و اليأس، و هذا ما حصل منذ زمن طويل بفعل انخراطه هو غيره في لعبة السياسة القذرة .
نحن ندرك أن العلاقة بين النخبة و السلطة معقدة جدا، و أن هذه "النخبة" تراهن على الحفاظ على قيم العروبة المتبقية و القيم الإسلامية الأصيلة، في مقابل تقديم ولائها للنظام و الدفاع عنه بالحق و بالباطل. و لكننا نعلم اليوم أن هذا التمشي بان فشله، و لم يعد يدفع مضرة أو يجلب مصلحة، فقيم العروبة تضرب في كل مكان و القيم الوطنية الأصيلة تداس كل يوم، و لم يعد المجال متاحا إلا للمحتال و المتلبس و المتصهين و اللامبالي ، و ما حاولت النخبة الوطنية بناءه في عقود بإصرار و عناد جاءت إذاعة "موازييك" و هدمته ، و جاءت قناة "حنبعل" و عبثت به .
من هذا المنطلق كان الأجدر برئيس تحرير جريدة "الشروق" الذي وجد من يستدعيه لمثل هذه المهمة القذرة، أن يرفض الدعوى، و الحال أن جريدته تعيش على هامش أخبار قناة "الجزيرة" و ضيوف قناة "الجزيرة" ، و حتى أهواء "الجزيرة" البعثية في بعض الأحيان. و على كل حال نرجو أن لا يكون حضوره قصريا من باب اختبار ولائه للنظام . ففي هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها تونس على وقع الانتخابات لا ندري ما يجري في الكواليس و الدهاليز.
و ليسمح لنا رئيس تحرير جريدة "الشروق" أن نهمس في إذنيه: إذا كانت "الجزيرة" باتت فضاء للإرهاب و الإرهابيين كما يدعي، كيف نفسر الإشادة اليومية لمختلف الصحف التونسية و على رأسها " الشروق" "بالمقاومة" العراقية و الأفغانية التي لم تحصد إلا أرواح العراقيين و الأفغان الأبرياء ، و تجنيها المتواصل على حكومة المالكي و كرازي المحسوبتان على الأمريكان.
في مسرحية "حنبعل" تدخل أكثر من طرف ليوجه النقد إلى قطر و طبيعة الحكم فيها الذي قام على الانقلابات و التحالفات العشائرية و إنكار حق الأحزاب السياسية في العمل السياسي، و الحقيقة فان هذا الكلام مهزوز من أكثر من وجهة و مردود عليه . ذلك أن كل الأنظمة العربية تقريبا ذات طابع عشائري و طائفي و قبلي و ليس قطر فقط، و كل الأنظمة العربية تقوم على توازن بين مصالح هذه الفئات و العائلات بما فيها تونس، و هذا النظام مستمر بفعل توازن المصالح بين عائلات معينة باتت معلومة للجميع.
و قد بين المختصون في الشأن التونسي أن بورقيبة الذي نجح في القضاء على الطابع العشائري و القبلي للمجتمع التونسي أسس لنوع جديد من الأمراض يقوم على الجهوية، و ليس من الصدفة أن جل الطبقة السياسية في تونس من أهل الساحل ، و أن جهات عديدة تم استبعادها من المشاركة في الحكومة من قبل بورقيبة أبان حربه على اليوسفيين، بقيت مستبعدة إلى اليوم، و نادرا ما يتم الخروج عن هذه القاعدة .
و إذا كان النظام الطائفي و العشائري يقوم على اعتبارات عرقية و وراثية و اجتماعية على حساب الأهلية و الكفاءة ، فهو من هذه الناحية لا يختلف كثيرا على أي الأنظمة القائمة على الانتماء الجهوية و الولاءات الحزبية .
و على كل حال فان توجيه النقد إلى قطر اعتمادا على طبيعة نظامها العشائري القبلي الانقلابي ينطوي على السؤال التالي: هل يجب أن يمنع على كل من في طبيعة هذه الدولة أن توجه النقد لمصر أو لتونس؟
فإذا كان الجواب نعم فهذا يعني أن المستهدف ليس ما تروجه قطر من أخبار سلبية حول تونس و مصر، و لكن قطر في حد ذاتها. و هنا يفترض معاداة كل الأنظمة العربية باعتبارها انظمه قبلية و عشائرية و طائفية و انقلابية و أن تتحول الحصة من بحث واقع الإعلام العربي إلى بحث الواقع السياسي العربي. و لست أرى هنا أن تتميز تونس عن بقية الدول العربية بشيء يذكر ، فالاستبعاد و المحاباة و التزلف و التسلط و الاستفراد و الأبوية بالمعنى الذي قصده هشام شرابي، هي ذات القيم التي تسود كل أرجاء الوطن العربي.
أما إذا كان الجواب لا، أي يمكن لمثل هذه الأنظمة أن توجه النقد إلى تونس و مصر بصرف النظر عن طبيعة الحكم فيها ، فان الردّ على قطر يصبح نوعا من الاستهداف المرضي الموجه لقيادتها و ليس العكس، و هو نوعا من الاستهداف الذي يتطلب توضيحا من الخارجية التونسية لاسيما و أن بث هذا البرنامج تزامن مع زيارة أمير دولة قطر إلى تونس و مساهمة هذا الأخير في تمويل بعض الاستثمارات في تونس؟
يعيبون على قطر أنها شبه دولة و شبه حكم و شبه مجتمع، في المقابل يشيدون على أن مصر أم الدنيا و أن تونس مجد التاريخ، و في الحقيقة فأنهم بهذه المقابلة يسيئون إلى بلدانهم و ينتصرون لقطر من حيث لا يشعرون، فقطر شبه الدولة و الحكم و المجتمع لا لوم عليها أن تكون شبه نظام أو شبه دكتاتورية أو شبه دويلة، فلا زخم التاريخ و لا مخزون التراث و لا تعدد التجارب، يسعفها في أن تكون في كوكبة الدول الديمقراطية، و لكنها بما تملك من إمكانيات و معطيات تحاول أن تجد لنفسها مكان تحت الشمس الحارقة، و هي تملك على الأقل أميرا مفوها قادرا على مخاطبة شعبه دون أن يمارس عليهم الإملاء.
و لكن العيب كل العيب أن نعرف بلد مثل تونس ، عرفت بأول دستور في العالم العربي، و أول إطلالة على الغرب) بعد مصر( و أول حضور لدولة شبه مستقلة عن الباب العالي ( بعد المغرب) ، و أول نظام جمهوري مدني، و احتلت منذ القدم مكانة متميزة بين الأمم، مع ذلك تمنع الجميع من تناول ملف الفساد السياسي في تونس بما فيها "الجزيرة" ، و تعاقب الرأي الحر، و تعادي الديمقراطية، و ترفض إرساء التداول السلمي للسلطة على قاعدة الانتخاب ، و لا تتحرج في ملاحقة بعض الأصوات النسائية الحرة، عندما تطل على "الجزيرة" لتصدح بالحقيقة .
و إذا كان البعض يصرّ على قياس نجاحات الفترة الأخيرة بما حققته تونس من قفزات نوعية في قطاعات مهمة كالسياحة و الاستثمار و الرياضة...فمن الممكن أن نقيس فشل هذه الفترة بحجم الكوارث الاجتماعية التي أصابت المجتمع التونسي، مثل ارتفاع معدلات نسب الطلاق و العنوسة و تفشي ظاهر ة الهجرة غير الشرعية عبر قوارب الموت أو ما بات يعرف "بالحرقان" و ارتفاع جرائم القتل و الاغتصاب و استهلاك المخدرات و انقلاب المفاهيم الأخلاقية ...
و في كل الأحوال فان الثابت أن جيل "التغيير" هو جيل لا رائحة و لا طعم و لا لون له، و هو يفتقد الحس الوطني فضلا عن افتقاده الحس القومي و العروبي، و هو جيل لا يبحث إلا على المتعة و اللذة و الربح العاجل، و الكل يتعامل مع الوطن على انه ضيعة للنهب تماما كتعاملهم مع المرأة على أنها جسد للاستغلال و النهش، و ينتظر خوض المنتخب الوطني لمقابلات رياضية ليسجل وطنيته. أما القلة القليلة من جيل الكفاح و النضال و الوطنية فقد التحق مسرعا بسوق النفاق السياسي طمعا في أن يحظى بحصته من الكعكة و لو بعشاء في فندق قبل فوات الأوان.
و لقد بات واضحا أن المجتمع التونسي أصبح خاضعا أكثر من أي وقت مضى لقيم الابتزاز و الاستفزاز و الاستهلاك و الانتهازية و الزبونية، و هو عدواني أكثر من أي وقت مضى، و مصلحي و نفعي و مبذر و يغلب عليه الجبن و الخوف و الأنانية و التملق و الاتكالية و التهور في كل شيء. يعمل باستمرار ضد قوانين الدولة، لا يثق بمؤسساتها، و غير مستعد لتفهم ضرورة احترام الوقت و المواعيد و القوانين و الآخر. و هو متحفز باستمرار لسرقة المال العام و نهبه، و الإضرار بالملك العمومي في كل الأماكن و من كل المواقع، و هو مستعدّ أن يرشي كل من يعترض طريقه من اجل أن يحقق مصلحته أو يخلص نفسه من اي مأزق ورط نفسه فيه.
بقي أن أتوقف عند مسالتين : تتعلق الأولى بأكرم خزام . فهذا الرجل الذي ارتمى في أحضان الأمريكان، بات مرجعا في نقد "الجزيرة" و شهادة لا يشق لها غبار، و الحال أن بين الانتقادات الأساسية التي وجهت لل"جزيرة" خدمتها للأهداف الأمريكية.!!
و هنا يطرح السؤال التالي ، إذا كان لابد من نقد "الجزيرة" لاستهدافها بالنقد تونس، لماذا لا يتم نقد قناة "الحرة" التي تناولت الوضع السياسي بتونس أيضا بالنقد في أكثر من مناسبة، و استضافت على منابرها أكثر من معارض و أكثر من صوت، هل يعني هذا انه عندما يأتي النقد من الأمريكان او الفرنسيين يكون مقبولا و عندما يأتي النقد من قطر يصبح ملوما و مذموما.
المسألة الثانية تتعلق بقضية الظهور الإسرائيلي على قناة "الجزيرة" و بالتحديد الظهور العسكري الذي بات المدخل المفضل لمن يريد أن يصطاد في الماء العكر ، للتشويش على الجزيرة و تصفية الحسابات معها.
نحن لا ننكر أن هذا الظهور ، شيء مرفوض بالنسبة لنا و يبعث عل التقزز و الاشمئزاز، و لكن عندما نتذكر أن هذا العسكر الذي يطل علينا من قناة "الجزيرة"، و هو يهدد و يندد و يزمجر، إنما يقوم بذلك في حضور مئات الجنرالات و القيادات العسكرية الذين يبادلونه الكلام بالجلوس على أرائكهم ، منتفخي البطون و الخدود، و فاقدين الشعور بالشرف و الغيرة، أعود على نفسي ، و أقول لا بأس بهم في بيوتنا، ربما في ظهورهم المستفز ما يستفزهم فيخرج علينا أحدا منهم مهددا إسرائيل بالويل و الثبور. و على كل حال فهي فرصة لنكشف حقيقة عدونا مباشرة بعيدا عن تقديرات الأنظمة. و لعمري فان هذا هو قصد المشرفين على الجزيرة من التواصل مع الأطراف الإسرائيلية.
أطرف ما جاء في هذا البرنامج هو الاعتراف الضمني للمشاركين فيه بأهمية قناة "الجزيرة" و فشل قنواتهم الوطنية التي أفلست منذ زمن، و لم تعد تأثر على احد. هم الذين اجتمعوا ليقولوا لنا أن قناة "الجزيرة" قناة فاشلة و ساقطة يطالبونها بالموضوعية وعرض الرأي الآخر، و كأنه ليس هناك في سماء الإعلام إلا قناة "الجزيرة" أو أن العرب وكـّلوا "الجزيرة" للتعبير عنهم، و بالتالي يسمحون لأنفسهم بمحاسبتها.
و السؤال لماذا لا تتم محاسبة وسائل إعلامهم المسموعة و المكتوبة و المرئية المحلية و الوطنية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
أي رد لا يمثل إلا رأي قائله, ولا يلزم موقع بوابتي في شيئ
5-04-2011 / 09:32:48 بوابتي
الحاق المقال بشاكر الحوكي
الأخ الكريم شاكر السلام عليكم
نعم المقال يرجع اليك، واذكر جيدا ماحدث مما قلته
وعليه، فقد وقع إلحاق المقال بمنشوراتك بتغيير الاسم المستعار
شكرا
5-04-2011 / 04:53:50 شاكر الحوكي
من الاسم المستعار الى الاسم الحقيقي
تحية طيبة،
اخي فوزي هذا مقال كنت ارسلته اليك منذ مدة باسم مستعار مشروع مواطن نظرا لما يحمله من نقد للسلطة في ذلك الوقت. و لكنك اقترحت علي اسم عبد الكريم التونسي . و الحقيقة ان اسمي شاكر الحوكي كما تعرف و ارغب في التوضيح . ساكون شاكرا ان فعلت ذلك. تحياتي
5-04-2011 / 09:32:48 بوابتي