شاكر الحوكي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9190
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لست متأكدا من أن هدف الدراما هو تصوير الواقع الاجتماعي و نقله إلى المشاهد الكريم، بينما هو محاط بأفراد أسرته في جلسة حميمية كما يفترض أن يكون أو متوترة كما يحدث عادة. و لكن لنتجاوز هذه النقطة التي لن تحسم أبدا؛ فأذواق الناس تعددت بحيث أصبح من الصعب الإجماع على مبدأ ثابت، و تفرقت المواقف و تشتت إلى حدّ الذي لم يعد ممكنا الحديث عن رأي عام أو توجه عام يميزنا أو يوحدنا، بل لو رغبنا في جمع شخصين على رأي واحد لتحصلنا على ثلاث آراء أو أكثر. هذا يعني أن الفرد بات متذبذبا في أقواله مضطربا في أفكاره و عواطفه إلى درجة الانقلاب على ذاته و حتى و إن حصل التوافق على موضوع ما، فان ذلك لا يتعدى محض الصدفة، و ليس نتيجة قناعات فلسفية أو منطلقات فكرية واحدة .
و الحقيقة فان ذلك يعكس المرحلة الانتقالية التي يعيشها مجتمعنا و حالة أللاستقرار النفسي التي يمر بها. ربما كان ذلك ضروريا في تطور المجتمعات، و لكن من سوء حظنا انه قدّر لنا أن نعيش هذا المنعطف و نعايش نتائجه و مرتباته، بالتزامن مع بناء الدولة الحديثة و محاولة استيعاب صدمة الحداثة و تأثيرات العولمة و نمو الطبقات المتوسطة و هيمنة القيم الاستهلاكية، فضلا عن تآكل النسيج الاجتماعي التقليدي و بروز المرأة بقوة على الساحة العامة و هو ما يفسّر ارتفاع معدلات الجريمة و تفشي ظاهرة العزوبية و الانحلال الأخلاقي و التفكك الأسري وانهيار القيم المثالية و ارتفاع نسب الطلاق و التهور السلوكي و حتى كثرة الحوادث، دون أن ننسى تعثر التحول الديمقراطي و انسداد الأفق السياسي ... وهي مسائل و إن مر بها العالم الغربي فقد مر بها على مراحل و استطاع أن يستوعبها بتأني و تدرج و أن يحاصر نتائجها السلبية و يحافظ على انسجامه و يخرج في النهاية سالما.
و على كل حال فهذا ليس موضوعنا و إن بتنا على يقين بتشابك المواضيع بعضها ببعض، إنما السؤال الذي يطرح نفسه هو التالي : لماذا لا يكون إلى جانب هذا النوع من الدراما الواقعية كما قيل و يقال نوع من الدراما التاريخية التي تحي الذاكرة الوطنية بحيث تنمي الحس الوطني و الثقافي و التاريخي لدى الشعب ؛ و هو حس يعلم الجميع مدى ضعفه إلى درجة أن الواحد منا يعجز عن ذكر اسم احد البايات الذين حكموا تونس أو إحدى المناضلين الذين ساهموا في الحركة الوطنية نحو الاستقلال، و إن كنا في ذلك ليس أسوا حال من الشعب الأمريكي الذي لا يعرف أين تقع مدينته على الخارطة الأمريكية ، فأننا ابعد من أن نقارن بالشعب الفرنسي الذي يملك القدرة على أن يعد سلالة حكامه من شارلمان إلى ساركوزي .
و على هذا الأساس فنحن نتساءل لماذا لا يكون خير الدين التونسي على سبيل المثال موضوع مسلسل تونسي تاريخي و اجتماعي و ثقافي متميز ، ألا يستحق هذا الرجل أن يذكر و الحال انه كان علامة فارقة و مضيئة في التاريخ التونسي أم أن شخصيته لا تتوفر على العناصر الدرامية التي يقف عليها العمل الفني .
هل يجب أن نذكر هنا ما تعرض له هذا الرجل من معاناة و تحديات و مآسي و بأنه اختطف طفلا في وسط الحروب المتفرقة التي كانت تخوضها جيوش الدولة العثمانية، و هي الدولة التي سيحتفظ لها بالوفاء و الإخلاص إلى آخر يوم من حياته! و كيف انه ظل يبحث عن جذوره و أصل منبته طول حياته حتى باتت رحلاته بين مختلف مدن العالم وكأنها تحقيقا لهذا الغرض. و عندما انتهى إلى علمه في أواخر حياته من أن احد كبار أعيان مصر يحتمل أن يكون أخيه ، قصده من اجل لقائه و عندما كان على وشك الاتصال به، و باتت المسافة بينهما اقرب من أي وقت مضى عدل عن رغبته، مخافة سوء الظن و أن يظهر بمظهر المدعي مفضلا الاحتفاظ بسره إلى الأبد و كأنه أدرك أن جوهر الحياة و سرها، أنما في نبحث عنه لا فيما نعثر عليه .
أما حياته العاطفية- لمن لا يرى في المسلسلات إلا البعد العاطفي – فأنها لم تكن اقل اضطرابا ؛ إذ تزوج خير الدين في أول الأمر من ابنة عدوه و غريمه اللدود الوزير الأكبر مصطفى خزندار قبل أن يخلفه في منصبه ، و هنا أيضا بإمكاننا أن تتصور البعد الدرامي لهذه العلاقة المركبة؛ و هو بعدا قابلا للتضخم عندما نعرف أن زوجته قد اختطفها الموت مبكرا و أن زيجاته اللاحقة لم تكن لتنجح دائما . يذكر انه تزوج لاحقا بجاريتين تركيتين و سرعان ما طلقهما وانه استقر في نهاية المطاف مع إحدى جواريه.
و من المدهش حقا أن لا يثير هذا الرجل انتباه المخرجين عندنا. و نحن نتسائل إذا ما كان بحوزتهم تجارب وجدانية أعمق تبرر هذا الإهمال ، أم يجب أن ننتظر المخرج السوري أو المصري أو ربما التركي لاستثمار هذه التجربة الثرية و إخراجها من بطون المذكرات و الكتب إلى النور الشاشة الصغيرة ، كما حصل مع عدة تجارب أخرى ، سيما و أن الرجل خلف سيرة ذاتية ثرية و دقيقة؛ مليئة بالمرارة و مسكونة بالحسرة و الأسف .
ولا بأس هنا أن نذكر أن الرجل تقلد عدة مناصب عسكرية و سياسية من قائد للخيالة إلى وزير حرب، و من كاهية للمجلس الأكبر إلى وزير اكبر للدولة التونسية، ثم صدر أعظم للخلافة العثمانية في تركيا، كما تولى عدة مهام ديبلوماسية لدى حكومات ألمانيا و انكلترا و ايطاليا و النمسا و السويد و هولندا و الدانمارك و بلجيكا و الجزائر و تركيا و فرنسا حيث أقام فيها و لامس عن كثب التقدم الذي بلغه شعبها ، الشيء الذي دفعه ، أثناء توليه مهام الوزارة الأولى ، إلى إجراء عدة إصلاحات في مختلف الميادين، لعلّ أبرزها تحديث التعليم بجامع الزيتونة و إنشاء المعهد الصادقي الذي سيتخرج منه لاحقا النخبة التونسية التي جاءت بالاستقلال، دون أن ننسى كتابه الشهير أقوم المسالك في معرفة الممالك، أين جسد رؤيته الإصلاحية .
إلى كل ذلك فقد اشتهر بمعارضته الشديدة لمبدأ الاقتراض من أوروبا و مشاركته في إخماد ثورة بن غذاهم وبمساعيه من اجل إنقاذ البلاد من أزمتها المالية، و بالاستقالة أو الإقالة من منصبه و ووظائفه مرارا، بفعل مؤامرات حاشية القصر و ضغوط القناصل الأوروبية.
و الحقيقة فليس خير الدين وحده الذي يستحق عناية المخرجين و كتاب النصوص الدرامي فهناك عدة شخصيات أخرى، و نحن إذ نركز هنا على خير الدين، فلكي نؤكد على الحاجة الملحة لتناول هذه الشخصية و الحقبة التاريخية التي يمثلها، و أن ذلك ليس من باب الإسقاط و الحشو أو حتى التقليد لتجارب أخرى.
وانه لا فائدة من التهافت على تقييم الأعمال التي بين أيدينا في ظل غياب أعمال فنية حقيقية تسمح بتمييز الغث من السمين و الفن من التهريج. و عندما تتوفر هذه الأعمال يمكن أن نرحب برأي النقاد و الصحافيين و نعتد بمواقفهم و نطمئن إلى ملاحظاتهم عن الإخراج و السيناريو و الماكياج و الديكور ...لان نجاح مثل هذه الأعمال لن يتحقق إلا بنجاح عوامل عديدة، و انجازها سيتطلب فعلا مجهودا حقيقيا و حرفيا لا غبار عليه، و ليس مجرد فرصة لإثراء السيرة الذاتية لبعض المتطفلين على الميدان.
و الحقيقة فليس الدراما التاريخية وحدها التي تعاني من الإهمال فهناك الدراما السياسية و الدراما الذاتية أو الوجدانية ، و إذا كان لابد من الإصرار على الدراما الاجتماعية أو الواقعية فنحن نتساءل لماذا لا يتم تحويل بعض الروايات التونسية إلى مسلسلات كما يحدث في كل بقاع العالم على الأقل ستكون أكثر عمقا و أدق رصدا للواقع التونسي، و ليست مجرد تلفيق بين صور اجتماعية متفرقة و منمطة تخضع إلى اعتبارات شخصية و اعتباطية ؛ فبما يملكه الأديب من حس مرهف، و منطلقات أخلاقية ووعي بالقضايا الحقيقية للمجتمع، كفيل بان يرتقي بالذوق العام دون إخلال بالموضوع أو القفز على المقتضيات الفنية و الجمالية.
ثم هل خلت البلاد من المثقفين و المناضلين و الوطنين و الشرفاء و المثاليين (و ليس المثليين ) من الناس بحيث لا نجد لهم اثر من قريب و لا من بعيد في الإنتاج الدرامي التونسي. أليس جل أصحاب الأقلام في تونس يعيشون أو عاشوا تحولات دراماتيكية بفعل تحولهم من اليمين إلى اليسار أو العكس و من النضال إلى الارتزاق أو العكس ، ألا يستحق هؤلاء الناس حضورا ما في المسلسلات الموسمية لشهر رمضان و حتى في الأفلام السينمائية .
إن ما تقوم به الدراما اليوم إنما هو تعميم الظواهر الشاذة و المشبوهة و أعطائها بعدا جماهيريا و شرعية أخلاقية . و ما يقدم على انه محاولة إلى كشف الواقع و لفت الانتباه و تصحيح الأخطاء يؤدي عادة إلى العكس و عادة ما يسقط المشاهد في فخ ما أريد التحذير منه و نحن نستطيع أن نلاحظ كيف أن محاولة الدراما التونسية في رصد بعض الظواهر الاجتماعية و الأخلاقية و اللغوية و التعبيرية السلبية و الدخيلة أو المشبوهة أو حتى المحتشمة ، انتهت إلى تعميم الظاهرة و تميع المعنى، و كل ذلك بدعوى نقل الواقع و كشف عيوبه .
و هكذا يتحول ما كان معزولا إلى ظاهرة اجتماعية و ما كان منكرا إلى مباح . و إذا جاز التعبير فان ما يحصل هو تأميم الرسمي لتلك المظاهر ، أوليس التلفزيون أداة من أدوات الدولة؟؟
و إذ كنا لا نخفي اعتراضنا على نوعية المسلسلات" الرمضانية " التي تبث على القنوات التونسية فلأننا لا نراها تساهم إلا بنمذجة ما هو فردي، و تنميط ما هو خطير ، و تمييع ما هو جدي ، و تهميش ما هو أصلي، و تغييب ما هو فعلي، و إعطاء المشروعية لما هو شاذ و استثنائي ليحتل مقعده بين الحضور و كأنه هو الحضور، منتزعا اعتراف الآخرين بوجوده دون قناعة أو اقتناع أو توفر حد أدنى من التوافق الاجتماعي على شرعية وجوده.
ثم لا يجب أن نذهب بعيدا في تقدير ظاهرة إقبال المشاهد على الإنتاج الدرامي، فهذا المشاهد المسكين الذي اعتزل المطالعة و الثقافة و الأخبار و قرّر أن يتسمر أمام الشاشة الصغيرة متشوقا لرؤية و متابعة الإنتاج الدرامي التونسي هو نفسه الذي لا يفك عن متابعة أي مسلسل أكان تونسيا أو مصريا أو سوريا أو تركيا أو مكسيكيا أو أردنيا ...المهم في كل الموضوع أن يكون في موقع المشاهد و عليه فكل شيء محكوم بالفضول.
لم اسمع في حياتي عن مسلسل تونسي أو غيره لم يحض باهتمام الناس، لذلك فان إقبال المشاهد التونسي على المسلسلات التونسية ليس معيارا. لاسيما و أن مجال الفضول يحتمل كل التأويلات من مجرد حب الاطلاع إلى السخط و الازدراء مرورا بالاستغراب و الاستهجان و حتى التطفل و تضييع الوقت كما يردد دائما .
لا نريد أن نحبط من عزم كل الذين شاركوا في الأعمال الدرامية لشهر رمضان هذه السنة و استبشروا خيرا بإقبال المشاهدين على أعمالهم. و لكن لا نملك إلا أن نلقي المسؤولية على عاتق الذين تقدموا لكي يشكّلوا عواطف الناس و تجاهلوا نقل المشاكل الحقيقية التي تتعلق بالبطالة و "الحرقان" و التغريب و اللامبالاة و التعصب و التقوقع و الازدواجية في تعامل الذات مع الآخر بعيدا عن التهريج الذي يغيّب المعنى و الغراميات التي تفسد المقصود ، لعل في نقل معاناة الناس عندئذ ما يمنحهم القوة على مزيد من الاحتمال و الشعور بان معاناتهم ليست منعزلة أو فردية.
أن معالجة مسألة العزوبية المتفاقمة في المجتمع التونسي مثلا، من شأنه أن يشد من أزر الآلاف الذين يعانون من هذا الظاهرة و أن يساعدهم على إيجاد الحلول إذا أمكن رصد الأسباب الحقيقة لذلك أو على الأقل المساهمة في توفير المناخ الاجتماعي لتفهم وضعهم.
ما ينسحب على ظاهرة العزوبية ينسحب أيضا على ظاهرة البطالة و الهجرة و ارتفاع نسب الطلاق لكن للآسف أنهم يقدمون المسائل الثانوية على حساب القضايا الحقيقية.
-----------------
شاكر الحوكي
جامعي تونس
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: